سماتٌ عديدة تميّز العالم السردي للمبدع الدكتور علي حجازي، وتكاد تكون نهجاً له في سائر كتاباته، فهو كاتب يحمل رسالة سامية، تتوخى نشر القيم والأخلاق والفضائل، مما يجعله نائياً عن سائر الكتابات التي ترفع شعارات الحداثة وما بعدها، وتضع أعينها على ذات الإنسان، أو بالأدقّ جسده وشهواته، فتغرق فيما يسمى كسر “التابوهات”، وتحصر جلّ سردياتها على تصوير حالات الضعف الشهواني، وتمعن في الوصف والتفصيل، مما يشعل غرائز القارئ، وينبو بالأدب عن كونه أدبا.
ولكن علي حجازي يضع نصب عينيه، وتقريباًّ في كلّ نصٍّ يكتبه، الرسالة القيمية التي يتوخّى تقديمها للمتلقي، فلا معنى لكتابة لمجرد الكتابة، أو لكتابة بهدف تقديم نصٍّ جماليٍّ، قد يكون مكرّر الفكرة، أو بلا رؤية خيرية، ولذا، تكثر في كتاباته عبارات الحكمة، والتي تأتي قد تأتي في سياق النص، أو في خاتمته، في إلحاح منه على توصيل المراد، بل إن السياق السردي ذاته، مبني على إقناع القارئ بالرسالة.
هذا الاتجاه الأدبيّ ينتمي إلى ما يًسمّى “أدب الالتزام”، والذي يقوم في الدرجة الأولى على الموقف الذي يتّخذه المفكّر أو الأديب أو الفنّان فيها. هذا الموقف يقتضي صراحة ووضوحاً وإخلاصاً وصدقاً واستعداداً من المفكّر لأن يحافظ على التزامه دائما، ويتحمّل كامل التبعة التي يترتّب على هذا الالتزام. فبدلاً من أن يهيم الأديب في كلّ واد، ويقول ما لا يفعل؛ سيعطي من نفسه ومن أدبه النموذج والقدوة، شريطة أن يراعي مقتضيات الخطاب الأدبيّ، وجمالياته، حتى لا يتحوّل النصّ إلى خطابيّة ومباشرة. وهو ما يؤكد عليه البعد الأدبي، وكما يذكر مجدي وهبة، فإن “اعتبار الكاتب فنّه وسيلة لخدمة فكرة معيّنة عن الإنسان، سيجعل الأدب ليس وسيلة تسلية غرضها الوحيد المتعة والجمال، بل هو نص يجمع ما بين الجمال والقيمة.
لقد ارتبط أدب الالتزام في العصر الحديث بالفكر اليساري الذي ينتصر لقضايا المهمشين والفقراء والعمّال والمستضعفين، وكذلك بالفلسفة الوجوديّة في وجهها الإنساني الإيجابي، وكما يقول سارتر: فمما لاريب فيه، أنّ الأثر المكتوب واقعة اجتماعيّة، ولا بدّ أن يكون الكاتب مقتنعاً به عميق اقتناع، حتى قبل أن يتناول القلم بأنّ عليه بالفعل بالشعور بمدى مسؤوليته، وهو مسؤول عن كلّ شيء؛ عن الحروب الخاسرة أو الرابحة، عن التمرّد والقمع. إنّه متواطئ مع المضطِّهدين إذا لم يكن الحليف الطبيعي للمضطّهدين. وبذلك صار الأديب الملتزم في العصر الحديث معبّراً عن هموم المجتمع الإنساني، راصداً ومسجلاً لأبرز سرديّاته وقضاياه، لا أن يكون إنساناً منعزلاً، غارقاً في نرجسيته، متخيّلاً أنّ العالم يبدأ من عنده وينتهي إليه.
والأمر لا يقتصر على عصرنا، بل هو يضرب في جذور الأدب الإنسانيّ، بل إن كلمة أدب تعني خُلُقاً وتأدباً، وهذا لبّ المنظور الإسلاميّ للأدب، مصداقا لقوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا}، (سورة الفتح، الآية 26)، فالتقوى مخافة الله، وهي جماع كلّ خير، فمن خاف الله، سعى لخدمة الإنسان، أيّاً كان، وكانت رسالة الخيرية حاضرة في مرجعيته الذهنية، ومشاعره القلبية.
وفي هذه المجموعة “عطر التراب”، نجد قصصاً فريدة في سردها، وفي الزوايا الملتقطة من الحياة، والتي يمكن تلقيها على مستويات متعدّدة، فهي تصلح أن تكون قصصاً للفتيان بوصفها نصوصاً حاوية قصّة طريفة، وحكمة عميقة، وتصلح أن تكون ضمن أدب الكبار، بما فيها من لقطات حياتيّة وإنسانيّة، بقيم عظيمة، خاصة أن قصص هذه المجموعة عبقة بمفردات الطبيعة وخصوصيّة البيئة اللبنانية، وتعمّد الكاتب استخدام كثيراً من المفردات وفق منطوقها، ودلالتها في القاموس اللغوي الخاص باللهجة اللبنانية، والذي هو مأخوذ في جلّه من العربية الفصحى. وتبدو في عناوين القصص، ومنها: الوحواح، الراضوع، دروك الدالية، العورنين زهريّة الحب، الدواري.. إلخ. كما أن أجواء القصص كلّها تدور في عالم الطبيعة اللبنانية: الجبال، والسهول، ونبع المياه، والأمطار، والزهور، والأشجار، ووسط هذه الطبيعة الساحرة، نعايش الأحداث السرديّة، ونقرأ حوارات الشخصيّات، ممزوجةً بعطر الياسمين، ومذاق المياه الصافية، مع الحكمة التي تتردَّد في جنبات الحوار، وإشارات اللغة.
ونتفاجأ بعنوان المجموعة “عطر التراب”، فالتراب لا يمكن أن يكون له عطر خاصّ به، ولكن يصرّ المؤلف أن التراب إذا امتزج بمكوّنات أخرى ستصبح له رائحة مميزة، وهو ما نراه في القصة القصيرة التي حملت عنوان الكتاب، فهذا “سامر” يأتي لجدّه حاملاً زهرة الوحواح، مبشراً جدّه بطلوعها، فيردّد الجدّ المثل اللبنانيّ الشعبيّ: “طلع الوحواح، طلع الوحواح، هيّئ بركك يا فلاح”. ويوضح الجدّ للحفيد أن هذه الزهرة البيضاء “الوحواح” تعني إشارة للفلاح، بأنّ الأرض جاهزة لاستقبال الحرث والبذر. ومن خلال الحوار، نتعرف دلالة عطر التراب التي يفسرها الجدّ بأنّ “الترابُ شربَ الماءَ الذي اختمر، بفعل تحلّل المواد العضويّة الموجودة في الأرض التي قدّمت شارتها البيضاء، من الوحواح وبخور مريم، فجاءت السكّة الآن لتحرثها، غارسةً الحبّاتِ في رحمها”. فالتراب هو ثرى الريف اللبناني، الذي تألف من زهور الوحواح، وبخور مريم، وماء المطر، ليكون الثرى فائحاً بعطر خاص به، وتكون رسالة النص أن أرض الوطن، لها رائحة تميّزها، لا يشمّها مستمتعاً إلا ابن الوطن.
وتدهشنا بفكرتها قصة “جاء الصيّاد، ماتت الريشةُ والكلمات”، فمن الأسطر الأولى نعيش تفاصيل الطبيعة الساحرة: العصافير، والفراشات، والأزهار، والأشجار، ولكن نكتشف أن هذه الطبيعة تشكّلت في خيال الشاعر والرسّام، وألهمت كلّاً منهما، وتكون رسالة النصّ عظيمة القيمة، لأنّها تنتصر للحفاظ على الطبيعة، ضدّ الصيّاد الذي لا يأبه بالجمال المتناسق، فهدفه صيد العصافير، وتشويه الطبيعة، وينتهي النصّ بأنشودة عذبة، صاغها الشاعر، وترنّم بها المغني: ” الصيّاد آت/ حلّ الموات
أما من رادع له قبل الفوات؟ / الصياد آت/ حل الموات/ أمَا من مشرّع يقي عصافير الحبّ هذا البلاء؟ / زال البقاء، سكن البلاء، حلّ الفناء حلّ الفناء”.
وفي قصّة ” نخلةُ الوطن”، نعايش حواراً آخر بين الجدّ والحفيد، حول الأشواك التي في النخلة، والتي آذت الحفيد، مما ألزمه أن يلجأ إلى الصيدلي لعلاجه، ولكنّ الجدّ يوضّح أن لهذه الأشواك رسالة، ” وظيفةُ هذه الأشواك، يا نادر، حمايةُ الريشاتِ، ومنع المخلوقات من إلحاق الأذى بها، هي وسيلةٌ دفاعيّةٌ قويّةٌ لا غير. هذه الرسالة
الأولى، أمّا الثانيةُ فدرْس تعليميّ هادف إلى لفت أنظار البشر المتنازعين، والمتقاتلين، بأنّها تحتضن سعفها، تجمعها، الواحدة إلى حضن أختها”. وهي فقرة تقريرية، أقرب إلى الدرس التعليمي، ولكن عندما يتم تأويلها في ضوء عنوان القصّة “نخلة الوطن”، نكتشف أن النخلة تعبر عن الوطن، الذي يحتاج إلى جيشه للذود عنه، وأن النزاعات التي تكون بين أبناء الوطن، وطوائفه، تؤدي إلى بحر دماء لا نهاية له، ولا علاج لها إلا بأن يكون المواطنون مثل سعف النخيل؛ أحبّةً متآخين.
وفي قصة “زنبقة الدار” نعايش جزءاً من واقع الوطن اللبناني، ألا وهي قضية الهجرة لكثير من اللبنانيين، وهؤلاء طمحوا للمال، ورغد العيش على حساب فراق الوطن، وكما يقول بطل القصة السارد:” المخلوقات التي ترغد بالعيش كثيراً، قليلاً ما ترتبط
بمكان واحد، وتخفّ إلى مغادرة المكان الذي شهد إنباتها وإزهارها”، فيشعر صديقه يوسف بالخجل، وهو المغترب الذي عاد إلى أرض الوطن، فيقول بشفافية: ” كأنّك تقصّ حكاية انفصالي عن هذا الوطن؟ حكاية الوعد الذي تلقّيته بالغنى السريع هناك في البلاد التي اتخذتها موطناً لي، أجل، ذلك الوعد كان مفعوله في نفسي شبيهاً بهذا الماء الذي عمل على نقل هذه الزنبقة. أما الغنى الذي حصّلته هناك، فهو الذي حال دون عودتي، وجعل غربتي تطول كثيرا”. ومثّلت الزنبقة التي أراد الصديق أن ينتزعها بقوة ليزرعها في بيته، ولكنّ بطل القصّة يمهله، ويطلب منه ألا يتعسف في اقتلاعها، كي لا تموت، وعلّمه كيف ينقلها برفق، كي لا تنفصل عن جذرها.
لقد تشكّل العالم السردي عند علي حجازي من رحم أرض الوطن، ومن ثراه، وطبيعته الخلابة، فكأننا نقرأ لبنان منثوراً ومسطوراً، وكأنّنا نتشمّم عطر الزهور البرية، ونسير في طرقات القرى اللبنانية، ونتعرف على سمات الإنسان وأزماته، يكتبها حجازي بعمق الانتماء، وبلاغة الحكي، وشفافية البوح، مقدماً شهادته ونصحه وتوجيهاته، بل يخيّل إلينا أنّ شخصيّة الجدّ أو الرجل الناصح، التي نجدها في قصص عديدة؛ هي شخصية المؤلف ذاته، يحاور الأبناء، والأحفاد، والأصدقاء، ويقيم الحجّة عليهم، بعبارات تراوحت ما بين التوجيه المباشر، والمثل الرمزي المصاحب، ولتكون نصوص هذه المجموعة خير نموذج على فكرة الالتزام، بقضايا الوطن، وهموم الإنسان، وواقع الأمة، وحكمة الحياة، وكاشفة عن تقلبات النفوس.
أ.د. مصطفى عطية جمعة – مصر
mostafaateia@gmail.com