كأنما الرؤية كانت أكثر وضوحا وتجليًّا في زمن الأبيض والأسود، فمساحات الجمال والصفاء كانت أرحب. وأما في زمن الألوان، فيبدو أن الرؤية أصيبت بالقِصَر والضبابية.. ولستُ أعلم هل القضية في الرؤية، أم في الألوان، أم أن القضية أبْعد بكثير.. فهي تتعلق ببصيرة أصيبت بالعَمَه؟
كأنما الإنسان وُجِد قبل أوّل أمس فقط، وبالضبط بعد أن طار الغراب الذي علّم الإنسان كيف يواري جثة أخيه.. فالإنسان أينما كان، ولا سيما على الخارطة العربية، إمّا هو مشروع قاتل أو هو مشروع قتيل.. مع فارق بسيط وهو أن الغراب اختفى من الحكاية.. كأنما الأزهار البلاستيكية ومناديل الورق والرسائل الإلكترونية النصية و.. استلبت من الإنسان إنسانيته وهي تدفعه دفعًا إلى أن يكون كائنا آدميا مُبرمجا حتى في ردّات فعله وفي تشكيل موقفه وفي علاقته بالجمال والخير والمحبة.
كأنما لا غدَ في غدٍ، وما يُسمّونه مُستقبلا هو الأسوأ الذي يتم تصْنيعه في هذا الذي نُسمّيه حاضرا، وهذا الذي أسمّيه “أنا” هو كائنٌ آدميٌ سوف يتكرّر في آخرين لم يكونوا أكثرَ حظًّا في هذه “المُستعمرة الكونية”.
كأنما الشيطان عاد إلى ملائكيته وترك مهمّات الشيْطنة إلى بني البشر، فالتطوّر العلمي يسُوق العقلَ كل يوم إلى مزيد من الضّلال، ويزيد غربة الروح عمقا وتوحّشا وهي أسيرة في شرنقة الطين التي تُسمّى جسدا. كأنما العالم يتوجّه كل لحظة إلى اغتيال إنسانية الإنسان وتجريده من مقوّماته الروحية.. والشرّ الذي كان يتخفّى خوفا صار يُسفر عن وجهه بكل جرأة، وأمّا الخير فصار خجولا أكثر ممّا يجب لأن فاعل الخير تُصوَّبُ نحوه الشكوك، فصار يخشى ارتكاب فعل خيرٍ يُعاقب عليه..
كأنما بوصلة الروح تعطّلت ليضيع العقل في اتجاهات الفوضى الهدّامة.. وتنقلب القيم والمفاهيم فتصير الحياة مجرّد لعبة لأحياء على قيد الموت. كأنما أنا لم أعد أنا.. مُجرد كائن آدمي تعبث به الألفاظ واللغات والصور وهذه الحياة التي لم أعد أُدرك لماذا أحياها وأيّ رسالة لي فيها، وهل أنا حقّا إنسانٌ أمتلك الحقَّ في الحياة بالحقوق التي ارتضاها لي خالقي..؟ أم أنا مُجرّد رقم أصمّ ومهما امتدّ صوته فإنه لا يقوى أن يقول.. رقم قابل للاستثمار ظرفيا في بورصات المعارك المُعلنة وغير المُعلنة باسم المُسميّات الكبرى مثل الحقوق والحريات و.. ولكنه رقمٌ مُهملٌ في باقي فصول السنة.
كأنما أنا أفهم ولا أفهم في الوقت نفسه، وأضحك وأبكي في الوقت نفسه، وأتقدّم وأتأخّر في الوقت نفسه.. كأنما أنا أنا ولكن ليس تماما، فإذا ما عدتُ إلى تاريخي وتثبّتُ من انتمائي وانزويت بروحي بعيدًا عن فوضى العالم، أجدُني “مُنقِذ” هذا العالم من الضّلال، وحامل النور الذي لا يستطيع نورٌ غيره إنارة الظلام المُتكلّس في الدخائل البشرية، وأمل هذا الكوكب الذي تُصنّع فيه، كل يوم، أسباب تخريبه وتدميره.. ولكن ما الذي يمنعني أن أكون أنا أنا تماما؟ تلك الـ “كأنما” جعلتني رهين انهزامية تسكنُني، وسلبية تمنعني أن أتحرّر من عبودية أسمّيها حرية.
كأنما أنا هابيل وأنا قابيل، وكل الحقب والدهور التي مرّت بها البشرية هي منسكبة في ذاتي وأنا وريثها الآن، وأنا أدفع أثمان ما اقترفته الشعوب والقبائل من خطايا بحقّ الكوكب وبحقّ الذات الإنسانية التي صارت تتضاءل في انتمائها إلى الإنسان.. ولعلها “إنسانية” تتوجه إلى الانتحار كل يوم باسم التطوّر والرقي والمفاهيم الحضارية التي تُدرّس في الأكاديميات ويُبشَّر بها في ندوات الفكر والدراسات.. ولكن في حوار الغبار والشحوب حيث سُرقت الأحلام من العابرين في الزمن، من وجع إلى وجع ومن تيه إلى تيه، ليس هناك إلاّ الحكايا التي لم تعد تحكي شيئا، والأقاصيص التي ملّ أبطالها من فرط ما علكوا بطولاتهم.. ليس هناك إلاّ الذين بقي لهم حلم واحد ووحيد وهو أن يحلم بهم الحلم يوما، ويعيد تأثيث أعماقهم وجدولة أفكارهم وتجديد نبضهم في عروق الحياة ليكون لهم معنى يليق بالتاريخ الذي يُكتب في أعلى الصفحات كل يوم.
كأنما لا غد في غد، وما يُسمونه مُستقبلا هو الأسوأ الذي يتم تصنيعه في هذا الذي نسمّيه حاضرا، وهذا الذي أسمّيه “أنا” هو كائن آدمي سوف يتكرّر في آخرين لم يكونوا أكثر حظًّا في هذه “المُستعمرة الكونية” التي لم يتبق أمامها الكثير، ليس فقط، لبرمجة الفكر والوعي، ولكن أيضا لأتمتة الشعور الإنساني.. وربما أنْسنة الآلة، ليكتمل الانقلاب حتى بين الإنسان وأشيائه.