على امتداد أكثر من خمسين سنة من القرن الماضي، كانت تنتشرُ على جغرافية الإعلام العربي المجلاَّتُ والدَّورِيات، لا سيما الشَّهرِيَّة، المُتخصِّصة في الآداب والفنون، إضافة إلى صفحاتٍ يوميَّةٍ في الجرائد والصُّحف.. وكانت تتابِعُ بعُمقٍ أخبارَ الثقافة في كل حقولها: أدبية، فنِّية، إصدارات، فعاليات ثقافية وفكرية.. إضافةً إلى الكتابات الأدبية والثقافية المُنوَّعة التي كان يكتبُها الأدباءُ والمُبدعون.
منذ مطلع هذا القرن، اختفَت – أو تكاد – تلك المجلاَّت والدوريات، وتقلَّصَت الصَّفحاتُ الثقافية في الجرائد والصُّحف، بل صارَت تهتمُّ بالأخبار الشخصِيَّة للفنانين والموضة والتَّجميل.. ولا تكاد تنشرُ الكتابات الإبداعِيَّةَ: شعر، قصة قصيرة، خاطرة، مقالة أدبية، أو المتابعات المُعمَّقة للفعاليات الثقافية وحصاد المَطابع.. والأمر لا يختلف كثيرًا في وسائل الإعلام الأخرى، وإن كانت وسائل التَّواصل الاجتماعي أكثر نشاطًا رغم تناولها السَّطحي للشؤون الثقافية..
إنَّ الإعلام الثقافي الذي نَعنِيه هو تمامًا ما يفهمه الإنسان العربيُّ، بعيدًا عن التَّعريفات الأكاديميَّة والتَّنظيرِيَّة. هو “بالتَّحديد” امتدادٌ لرؤية المُفكِّر الجزائري “مالك بن نبي” للثقافة، حيث قال بأنَّها: “جوٌّ مُركَّب من: الألوان، والنَّبرات، والرَّوائح، والعُرف والعادات، والأشكال، والإيقاعات، والحركات التي تَطبَع على حياة الإنسان اتِّجاهًا، وأسلوبًا خاصًّا، من شأنهِما أن يشحذَا خيالَه، ويُلهِما عبقريَّتَه، ويُغذِّيَا مواهبَه الخلاَّقة”.
وحديثنا عن أزمة الإعلام الثَّقافي هو حديثٌ عن أزمة الثَّقافة.. وحديثنا عن أزمة الثَّقافة هو حديثٌ عن أزمة الحضارة، أو كما قال “مالك بن نبي”: “كلُّ تفكيرٍ في مشكلة الحضارة هو في أساسه تفكيرٌ في مشكلة الثقافة”. بل إنَّ حديثنا عن الإعلام الثقافي هو حديثٌ عن الفصل الرَّابع من فصول الثقافة: وهو المنطق العملي مُجسَّدًا في ممارسة هذا الإعلام، وذلك وفقًا لـ “مالك بن نبي”: “فصول الثقافة الأربعة هي: الأخلاق، والاستاطيقا (علم الجمال)، والصياغِيَّة (الأفكار النُّخبويَّة)، والمنطق العملي”.
فإذا ما توافقنا بأنَّ الإعلام الثقافي يجب أن تتوافر فيه – على الأقل – الأفكار البنَّاءة والأخلاق النَّبيلة والرؤى الجمالِيَّة، فيُمكننا القولُ بأنَّ هذا الإعلام يعاني من أزمة حقيقيَّة، وقد انحرَفَ من ثقافة الأفكار والأخلاق والجَمال، و”اعتنق” ثقافة الأوهام ومُطاردة “النُّجوم” وفنون التَّجميل وأدواته.. وتحوَّل من “صانعٍ” للأعلام الذين يقتدي بهم الشَّباب، من بين فئات: العلماء والمُفكِّرين والأبطال التَّاريخيِّين.. إلى “صانعٍ” للشُّخوص القُدوة من بين فئات أخرى لا علاقةَ لها بـ: الأفكار البنَّاءة والأخلاق النَّبيلة والرؤى الجمالِيَّة.
من المُجدي الإشارة إلى أنَّ الإعلام الثقافي كان من عناصر “صناعة” الوحدة الروحِيَّة على مستوى القُطر الواحد، وعلى مستوى جغرافية انتشار اللغة العربية في الأوطان العربية أو البلدان التي يتواجد فيها الإنسان العربي، غير أنَّ “الفردانيَّة” التي نتجَت عن تكنولوجيا الاتصال وشبكات التواصل الاجتماعي، وغِياب الإعلام الثقافي “الحقيقي” سيؤدي إلى تفكُّك الوحدة الروحيَّة، ويُعيد تشكيل معنى آخر للثقافة بحيث لن تكون هي حامل الأفكار وعناصر الهوِيَّة ومكنوز التُّراث.. وما يتبع هذا التغيير من تأثيراتٍ على المُجتمع، وعلى علاقة الإنسان العربي ببيئته وتاريخه ومحيطه ولغته ومُعتقده..