قراءة بقلم د. إبراهيم طلحة
لا أدري إن كان ذلك من محاسن الصدف، أم كان اختيارًا موفَّقًا، أنْ يتوافقَ عنوان المقال مع توليفة اسم المقول عنه وتكوينة شعره، وعمومًا لا إشكال أبدًا إن بدا العنوان مقصودًا لذاته، أو بدا تلقائيًّا عفويًّا غير مقصود؛ فكِلا الأمرين في نظرنا لا يتعارض مع حقيقة فكرة المقال الرئيسية، وهي فكرة ثنائية الجمال والدراية في شعر جميل داري، فهو شاعر جميل كاسمه تمامًا، شاعر له من اسمه أوفر الحظ والنصيب.. شاعر على دراية واسعة بفن الشعر وأدوات القصيد.
جميل داري، شاعر مصقول، كأنّما تشكلت حروفه من عطر الأرض وقطر السماء، فهي تشاكل تربة الشام الطيِّبة الحبيبة، وتطاول جبال كردستان الشامخة المهيبة.
يمتلك جميل داري سِفرًا شِعرِيًّا حافِلًا، كتبه (منذ دهرٍ وثانيتين)، على حد وصف أحد عناوين دواوينه، ويمتلئ قاموسه الإبداعي بالكثير والمثير مما أشرنا إليه من لغته الجميلة ودرايته الواسعة، ولا نبالغ إذا ذهبنا إلى أنه في درايته بالشِّعرِ يشبه الحُذَّاق في رواية الحديث، المجوِّدينَ ضبطه صحَّةً وسندًا، فكما أنَّ في علم الحديث رواية ودراية، فهنالك ما يشبه ذلك في الشعر والأدب والقصة والرواية، فشاعرنا أستاذ كبير ثقة حُجَّة في مجاله، يجوِّدُ الشِّعر لفظًا ومعنًى، وشكلًا ومبنًى، وإيقاعًا ووزنًا، فكأنَّما يجمعه من جهاته وأطرافه حاشيةً ومتنًا، ويجعله بأغراضه وأصنافه عِلْمًا وفنًّا.. شاعر يبادل الحياة خبراته، ويقاسم المجتمع أوجاعه، ويقدم نصوصه بضربة معلم وقلب شاعر.
يقول:
لكِ السَّماءُ التي لا لستُ أُدرِكُها
وهذهِ الأرضُ تُبكيني فَأُضحِكُها
ظنَنْتُ أنَّكِ لي أولَى وآخِرَةً
حتى طلول الهوى ما عُدْتُ أملِكُها
دُروبها أصبحتْ كالقبرِ مغلقةً
كم كنتُ يومًا طليق الرُّوحِ أسلكُها
كَمْ كنتُ أرسمُها.. بالهَمْسِ أُوقِظُها
واليومَ حتى صُراخي لا يُحَرِّكُها
كأنَّها وحدَها في كَوْنِيَ امْرأةٌ
وكُلُّ واحِدَةٍ أُخرَى أُفَبْرِكُها
وهنا نَجِدُ في تركيبة جُمَل القصيدة حُزمة تقابلات، منها البلاغي، في نحو دلالات: (البُكاء والضّحك – الهمس والصراخ – الواحدة والكل)، ومنها الإيقاعي، في مجموعة اشتقاقات الألفاظ: (أدرك وأضحك، وملك وسلك، وحرَّك وفَبْرَك)، حيثُ يُلحَظُ فيها ذلك التقابُل الجميلُ بين اللفظ القليل الجريان على اللسان والمدلول الكثير الحضور في الأذهان، وهذه ميزة خاصة في شاعرنا.. أنْ يستخدم الألفاظ المهجورة أو غير المعروفة، بطريقة تجعلها مأنوسة ومألوفة، وأن يعمد إلى القوافي النادرة وغير المطروقة، فيجعلها حاضرة ومنطوقة، وأن يجعل من الألفاظ الفلسفية ألفاظًا شاعرية، فالفبركة مثلًا لفظ لا يصلح في الشعر دائمًا، فطبيعته أنه لفظ أو مصطلح نقدي فلسفي، ولكنه جعله لفظًا شاعريًّا أدبيًّا عبر تقنية الأنْسَنة.
وباحترافيةٍ يكتب شاعرنا بكل الأنماط والأشكال فلا تنحصر كتابته على نمط العمود، وإنما تعامل مع التفعيلة بأناقة ولباقة، كما تعامل مع العمود باقتدار وطلاقة، أضف إلى ذلك أنه حاول أن يوجد حالة من التماهي بين الأشكال الشعرية، فاشتغل على تجانسات موضوعية ضمنية، تحس أنها في يديك ملموسة، وبطريقة تبدو لناظرَيك مدروسة، هي تجانسات ما بين الإيقاع الداخلي ببنيته الفنية والإيقاع الخارجي ببنيته الموسيقية، وبما ينبه فيه إلى فكرة أثقلت الراس، أو ينوه فيه إلى قضية أشغلت الناس..
يقول حينًا مخاطبًا وطنه، بعد أن وضع على قلبه المحدودب – كما وصفه بالقول – قطعة ثلج أو رشة ملح ليحميه من العفن والزمن:
أتبيعني؟ لا، لن أبيعك
سأظلُّ محترمًا صنيعك
إنِّي سقيتك كوثرًا
وسقيتني زمنًا ضريعك
لم يستطع هذا الخريف
المُرُّ يُنسيني ربيعك
ثم يخاطبه حينًا آخر، والبحث جارٍ عنه، قائلًا:
أكادُ أخرجُ من روحي ومن جسدي
إنِّي مُضافٌ بلا جدوى إلى العددِ
فهذهِ الأرضُ قد ضاقَتْ بما رحبَتْ
كالنَّسرِ تنقضُّ في حقدٍ على كبدي
كم كنتُ أحلمُ بالبحرِ العميقِ هوًى
ولم أنلْ منهُ غيرَ الرَّملِ والزَّبدِ
بحثتُ عن أحدٍ أهديهِ قافيتي
ولم أجدْ بعدَ طولِ البحثِ من أحدِ
ناديتُ ظلِّي فلم يفهمْ على لغتي
حتى نسيتُ الذي قد دارَ في خَلَدي
بينَ الحرائقِ قد شاهدتُ هاويةً
فرحْتُ أبحثُ عن أهلي وعن بلدي
وعندما نتأمَّل في مفرداتٍ عديدة استعمل الشاعر بعضها بمعنيين مختلفين قد يبدوان متناقضين أو متعارضين، في قصيدتين مثلًا، فسوف نجِدُ أنه كان يراعي مقام المقال في كُلّ استعمال، فمفردة (الزبد) هنا – على سبيل المثال – جاءت في موضع آخر من قصيدة تفعيلةٍ له على نحو مغاير، فقال في قصيدة: “إنّ القرى لم تنتظر شهداءها”:
ما عندكمْ يخبو
وما عندي يشعُّ
وما يشعُّ هو المدى المخضوضرُ المجبولُ
من ألقِ البنفسجِ والرصاصْ
فاذهبْ جفاءً
أيُّها الزَّبدُ المهدَّدُ بالقصاصْ
كانَتْ تباغتني مساءً
كلُّ قافلةِ الثَّكالى واليتامى
كلُّ عشَّاقِ الخلاصْ
إنَّها ثنائية الجمال والدراية في شِعْرٍ نال حظه من الاهتمام والعناية، فبلغ في الحُسن منتهى الغاية، وفي التأثير درجة الغواية؛ وإنَّه الأستاذ جميل، شاعر جميل من الزمن الجميل، وأديب أريب من القلوب قريب، يعامل بيت القصيد بإخلاص ومحبة، ويخاطب ضمير العالم بلسان عربي وفكر إنساني.