منصة: قراءة نقدية 14/06/2022
” قراءات فلاح في ميزان النقد “
بقلم الروائية التونسية : فتحية دبش
تصدير: يقول جول لوماتر Jules LEMAITRE :
” لا نحب المؤلفات لأنها جيدة، بل نجدها جيدة لأننا نحبها.”
ليس من اليسر في شيء أن نقرأ ولا أن نكتب. فالحالتان معقدتان إلى درجة العجز عن هذه وتلك أحيانا. غير أن الخروج من حالة العجز تلك ربما -أقول ربما- تبدأ من سؤال الحب نفسه. والحب في هذا السياق هو ذلك السعي إلى اللقاء بالنص كتابة وقراءة أو العكس. لقاء يتجاوز حد التصفح والجري بين الصفحات ليصل إلى اللقاء الحقيقي الذي يعقد جدلا وتبادلا بين النص والكاتب أو بين النص والقارئ وعموما بين الأقطاب الثلاثة: الكاتب والنص والقارئ.
في هذا السياق يمكن قراءة كتاب قراءات فلاح، كتاب نقدي ليوسف طراد الذي يلقب نفسه بالفلاح منذ الغلاف. وفي هذا الاختيار نلاحظ عملية التحييد المقصودة والفاعلة والفعلية التي حاول بها يوسف طراد توجيه قارئه إلى أمرين اثنين.
الأول أن الكتاب لا يريد أن ينتمي إلى كتب النقد الكلاسيكي المؤسسي القواعدي. اختيار مصطلح ” قراءات” يخلع عنه مسألة التخصص الموروثة كتقليد جامعي وبحثي أكاديمي بحيث اعتاد القارئ على عنوانات متخصصة كما نجدها على الرسائل الجامعية والكتب النقدية الخارجة من رحم الجامعة. والاعتماد على كلمة قراءات يحيل على ذاتية العملية القرائية من جهة وعلى التنوع من جهة ثانية.
أما الثاني فهو استجلاب صفة الفلاح بقصد تحييد هذا المجهود القرائي الذاتي عن الجمعي القواعدي الذي اختص به الدكاترة الجامعيون. وهو أيضا استعادة لعملية القراءة من استبداد النخبة إلى عدالة اللا نخبة. وعليه فإن يوسف طراد ومنذ العنوان وحتى صورة الغلاف يعمل على تحييد القراءة وإرجاعها إلى الذات القارئة وشحنها بحمولة من الجهد والتعب واللذة تماما كما يتلمس الفلاح تراب أرضه البكر فيحولها إلى جنة.
إن المسألة التي يطرحها التعاطي مع كتاب فلاح هي مسألة تتعلق بالنقد وهل مكانه الأسوار الجامعية أم أن له بكل أرض الحرف منبتا كريما يينع فيه كما تينع النبتة؟ هل على النقد أن يكون فعلا نخبويا/ متخصصا وخصوصيا مما يعني أن القراءة لا تصبح عادلة بل تظل في عالم مغلق على نفسه في المؤسسات التعليمية وحسب؟ وأيضا والأهم لماذا نستخدم مصطلح النخبة للحديث عن الجامعيين والحال أن المستوى التعليمي علا أو لم يعل ليس هو ما يصنع النخبة؟
هناك في طيات هذا الكتاب نلتقي ببورتريه لناقد مختلف. يطل على قارئه من خلال مقدمة الكتاب حيث يفردها الأستاذ ناجي نعمان لتقديم الرجل، فيقول عنه: ” يوسف طراد ذلك الفلاح المعمرجي الناقد”.ص 5. ثم يقف على نشأته وتكوينه وتكوّن الكتاب في حد ذاته. هذا الكتاب الوفي للقراءة كفعل شخصي وذاتي وحميمي له علاقة فقط بالقراءة المفكرة. ينغلق النقد الأكاديمي بعض الشيء على مؤلفات بعينها ومؤلفين بأعينهم وتيارات محددة وغالبا ما تكون هذه القراءة من داخل الحلبة لا من خارجها وهو ما يشكو منه اليوم الكاتب العربي غير المنتمي إلى دائرة الجامعات والجامعيين إلى درجة أن الحديث عن النقد صار شبه محصور في دراسات وبحوث لنيل الشهادات، بل أبعد من ذلك إلى درجة القول بأن النقد العربي يعيش أزمته العميقة المتمثلة في شح النقد أو انغلاقه في دوائر ذات مصالح معينة. يأتي النقد الانطباعي لينقذ النص من موته ويستعيد النقد إلى حاضنته الأولى وهي التذوق.
في قراءات فلاح هناك احتفاء بالقراءة إلى درجة اعتبارها ” ضرورة من ضروريات النفس الإنسانية” ص9. وفي ذلك استعادة مرة أخرى لفعل القراءة وجعلها الإرث العادل بين البشر فتتعالى على الشروط والاشتراطات والقيود. من هنا يمكن ادراج هذا الكتاب ضمن ما يسمى القراءات العاشقة أو الانفعالية أو الانطباعية. ومهما يكن من أمر هذه التسميات والتفريعات في النقد فذلك ليس إلا من أجل وضعها في وضع المقابل للنقد القواعدي. فهذه القراءات تنبني على شريطة الحب الذي يجمع النص بقارئه. فلا اختياره للعناوين المقروءة مشروط بمبحث أكاديمي ولا حتى بدرجة شهرة المؤلف. بل هو الحب الذي يجعل كل النصوص المحبوبة جيدة كما جاء في التصدير أعلاه. وهو ما زاد من قيمة النص حيث القراءة لغاية القراءة والكتابة لغاية الكتابة وحيث التنوع في القراءات وجه آخر من وجوه متعة القراءة ومتعة الكتابة.
غير أن انتماء هذا الكتاب إلى القراءات العاشقة أو الانطباعية أو الانفعالية لا يخرجه عن الممارسة النقدية الواعية. فهذا الضرب من النقد هو في الأصل حاضنة النقد الأولى. إذ كان القدامى يعالجون النصوص بناء على الذائقة قبل أن يستندوا فيما بعد إلى القواعد التي سنها النقد القواعدي من النصوص ذاتها ومن ارهاصات النقد الانطباعي الأولى. فيوسف طراد ينطلق في اختياراته من علاقته القرائية بالنص فيستجيب إلى صوت القارئ فيه ثم يبحث عن خيط به ينسج قراءته، ولا أدل على ذلك من اختياره لعناوين القراءات ( انظر الفهرس ص 301 إلى 303). فالعناوين تختلف باختلاف النص المقروء وباختلاف زاوية القراءة أيضا وهي عناوين ابداعية بالدرجة الأولى. ثم لا يكتفي طراد بذلك بل يطعم قراءاته باستشهادات من كتب أخرى وقد يعقد أيضا حوارات بين الكتب من أجل تقديم الفكرة وتقريبها من المتلقي.
وختاما يريد بنا هذا الكتاب النقدي عودة إلى أصول النقد حيث الذائقة تحرك الناقد فلا يكون النقد حذلقة لغوية ولا مصطلحات مستوردة مستعصية ولا نظريات متراكمة يراد بها اقناع القارئ بأكاديمية النص. بل يؤكد يوسف طراد من خلال كتابه هذا على أن النقد عملية واعية ومفكرة ومبدعة أيضا. وأن لذة النص تقود إلى لذة الكتابة عنه، ولذة الكتابة النقدية تجسر بين الكتاب المنقود/المقروء والقارئ. وهكذا يضطلع كتاب قراءات فلاح بمهمة النقد الذي يبني جسرا بين النص والقارئ ويخرج بالقراءة من المركز إلى الهامش.