فتحية دبش. تونس، فرنسا
السيرة الغيرية وإيتيك الكتابة/فتحية دبش. تونس، فرنسا
قراءة قصيرة جدا في كتاب جبران خليل جبران لميخائيل نعيمة (كنت ألقيتها ارتجالا في ندوة الغرفة 19 بإدارة الأديبة إخلاص فرنسيس)
تصدير: ” إن الكاتب السيري حرفي وليس فنانا وعمله ليس قطعة فنية بل شيء وسيط” فيرجينيا وولف
عندما قمت بترجمة كتاب بونوا بيترز المعنون بالبحث عن ديريدا، دفاتر كاتب سيري توقفت كثيرا عند مسألة الايتيك وجملة من الأسئلة المتعلقة بالكتابة السيرية بالمجمل. ولعل أهمها هي السيرة الغيرية بين التوثيق والتخييل والعلاقة بين الكاتب السيرغيري وموضوع سيرته، ثم هل يكتب الكاتب السيرغيري كل شيء؟
للإجابة على هذه الأسئلة لا بد من الوقوف أولا عند مصطلحي السيرة الغيرية والايتيك
فالسيرة الغيرية كما يعرفها النقاد هي كتابة عن ذات شخصية حقيقية، بسرد أحداث حياتها وسبر أغوار تفكيرها وانشغالاتها. وتقوم هذه الكتابة على الحيادية والموسوعية وتوثيق الأحداث والوفاء إلى الحقيقة واستخدام ضمير الغائب المفرد العائد على الشخصية موضوع الكتابة
وأما الايتيك فهو جملة المبادئ والأخلاقيات التي يلتزم بها الفرد داخل المجموعة. ويتمثل في احترامه أولا لمواثيق السيرة الغيرية المشار إليها سابقا. غير أن هذا الايتيك مشروط عند بونوا بيترز بعلاقة الحب الرحيم بين الكاتب السيري وموضوع كتابته، بحيث تكون نقية من كل نزعة شر ومن كل نزعة إلى التقديس
بالعودة إلى كتاب جبران خليل جبران لميخائيل نعيمة نلاحظ بشكل جلي مدى التعالق بين التوثيق والتخييل في سرد شخصية جبران. فنعيمة بنى كتابه بناء دائريا، بدأه من لحظة احتضار جبران وختمه بحفل أربعينيته وبين الاستهلال والختام لجأ إلى تقنية الاسترجاع الزمني والفعل التذكري، فعاد إلى لحظة مولد جبران وعرج على طفولته وما اعتراها من صعوبات وبؤس ثم هجرته وعائلته إلى امريكا، فدراسته في فرنسا واشتغاله بالرسم ليعيش ولقاؤه بالنساء اللواتي كان لهن أثر في حياته ومسيرته إضافة طبعا إلى علاقاته بأدباء عصره المهجريين والرابطة القلمية. الملاحظ للغة ميخائيل نعيمة في الكتاب ولتقنيات الوصف وبناء الشخصيات والأحداث يقف على هيمنة الأدبية على هذا النص بينما ينتظره القارئ نصا توثيقيا. إذ يصعب الفصل بين ما هو حقيقة وما هو تخييل أحيانا، وهو ما أسهم في صناعة شخصية بشرية لجبران ينتزعها المؤلف من الربوبية التي كان عليها في لبنان وخارجها ليعيدها إلى حلقة الإنسان الخطّاء. وعلى مدى النص لم نتعرف فقط على جوانب من حياة جبران وإنما تعرفنا أيضا على ميخائيل نعيمة بفعل المرايا العاكسة نظرا للعلاقة الحميمة بين المؤلف السيري والشخصية موضوع السيرة في هذا الكتاب
بين ميخائيل وجبران علاقة إنسانية وأدبية شديدة الحميمية وقد حاول نعيمة تجاوزها حينا وحاولت هي تجاوزه أحيانا أخرى. ولعل ذلك واحدا من أسباب التعالق بين التوثيق والتخييل. ومهما يكن من أمر فإن الكاتب السيري ينقل وجهة نظره الخاصة حول موضوعه وبالتالي فلا بد لها أن تتأثر بمدى القرب الزمني أو النفسي أو الأدبي بين الشخصيتين
ومن هنا يطرح نعيمة أسئلة الايتيك، فيقدم في مستهل كتابه اعتذارا ويشير إلى نقاط هامة في تمثله للكتابة السيرغيرية وقد حددها بالطابع الفضولي والكاشف. بذلك يعيد الأمر إلى ايتيك الكتابة السيرية. وخاصة سؤال: هل يحق للكاتب السيري كتابة كل شيء؟
لقد استعاد ميخائيل نعيمة جبران خليل جبران من مرتبة التأليه والربوبية التي كانت لصيقة به وصدى لكتابه النبي، فكشف أنه ولد كما يولد الناس وعاش طفولة من البؤس والعنف ما يمكن لأي كان أن يمر به. وانشدّ إلى متع الحياة ونزوات الجسد كما ينشد إليها الآخرون دون أن تخلو من شعور بالذنب والخطيئة، ودون خلوها من الرهبة وعدم الرضا والتساؤل إلى درجة أنه كان يفسر موت أمه وأخويه بأنه عقاب رباني له على زلاته ونزواته
في هذا الصدد تحدث ميخائيل نعيمة عن العلاقة المضطربة لجبران مع النساء. فقد كن حاضرات حضورا قويا وكان الاضطراب يعتريه إزاءهن إلى درجة أنه كان يتمنى حلول روح تلك في جسد هذه. فللنساء عليه فضائل كثيرة ولهن أثر لا يخفى. غير أن اللافت في أمر توثيق نعيمة للواتي عبرن بحياة جبران لم يكن لمي زيادة أي حضور لا بالتصريح ولا بالتلميح. ولعل ذلك يعود مرة أخرى إلى ما اعتبره الكاتب منتميا إلى ما يجب أن يقال أو لا يقال. النساء الغربيات كن حاضرات في الكتاب دون مواربة بل بالإسم والصفة، ولا يعني القارئ كثيرا إن كانت قصدية المؤلف تخريب صورة جبران في شقها الوجداني أو مجرد التوثيق الذي هو من صميم الكتابة السيرية، وبالمقابل يعنينا كثيرا انتفاء حضور العربيات اللواتي أحبهن أو التقاهن وخاصة مي زيادة التي كان القارئ يتوقع أن يجدها بقوة نظرا لطول المدة الزمنية التي جمعت بينها وبين جبران. وهذا السكوت لا يمكن تفسيره إلا بالنظر إلى الأمر من زاوية ثقافية شرقية تمنع – أو تكاد- الحديث عن علاقات الحب غير المتوجة بالزواج من جهة، ومن جهة أخرى لعله اجتناب لحيثيات هذه العلاقة التي استمرت رغم المسافات ورغم عدم سعي جبران حسب بعض الروايات لتحويلها إلى علاقة زواج. ورغم ذلك فإن عدم إدراجها لا يبدو بريئا مطلقا، بل لعل إدراجها كان سيعيد جبران إلى كرسيه المقدس نظرا لطبيعة هذا الحب الأفلاطوني
بالمجمل لقد حاول ميخائيل نعيمة الكتابة عن جبران من خلال رؤيته الحميمة والتي يمكن وصفها أيضا بالمحدودة حيث اكتفى في السيرة بإيراد وجهة نظره الخاصة مدعمة ببعض الرسائل والملاحق وبعض الحوارات المباشرة لكنه لم ينح نحو الكتاب السيريين في التوسع بالبحث في الاراشيف مثلا ولا بتجميع شهادات حية تتقاطع مع رؤيته الخاصة وتسهم في تعديل صورة جبران خليل جبران