اهتمّت الأنتروبولوجيا بالنار في حياة الإنسان اهتمامها بأيّ إنتاجٍ آخر مادي أو فكري، لأنّ اكتشافها غيّر كثيرا من الأمور في حياة الأجداد، إذ سهّل الغذاء بالطبخ، والتنقل في الليل، والدفاع عن النفس، وتليين الحديد…والأهم أنه أخّر موعد النوم. صار البشر يسهرون، وترتّب عن هذا حصول الملل، ومن هذا الأخير بدأ كل فرد من المتحلقين حول النار في تقديم ما يكسر تلك الرتابة، فكان الأدب سردا وشعرا، وخرجتْ إبداعاتنا بسبب النار. قد يبدو هذا غريبا رغم أنه حقيقي، لكنّه مهمّ في فهم التكوّنات الأولى للإبداع. الغريب أيضا أنّ النار، وما أتاحتْه من سهر، افتتحتْ الكذب الحلو، كل يحكي ما حدث معه، وحين لا يحدث شيء، يكذب، أو بالمصطلح الذي تطوّر لاحقا:يتخيّل.
ما أحاول طرحه هنا هو كيف يساهم الطبيعي في صنع الثقافي، وكيف كان النتاج الأدبي والفكري عموما ناتجا عن التكيف مع البيئة واكتشاف مواردها. فبسبب النار حدث ما ذكرنا، بسبب البرد ابتكر الإنسان الثياب والبيت، وبسبب الخطر صنع السلاح. كل هذا يذكرنا أن كل ما هو ثقافي هو نتاج الطبيعي، وعلى رأس هذا الوعي الذي حدث بسبب تطور الدماغ وزيادة خلاياه بالتكيف.
هذه الرؤيا تفسّر كثيرا من الأشياء في حياتنا؛ كالحروب المستمرة إلى اليوم رغم التطور الفكري والتكنولوجي والدعوة إلى التعايش والحوار. لكن الإنسان لا يزال يرتكب المجازر، ويعود هذا ربما إلى كون الطبيعة تتغلب على الثقافة، وأنّ الافتراس الموجود في الإنسان لا يزال يغلب قيم السلم والأمان التي يتحدث عنها الجميع ولا يطبقونها.
يعني هذا أن الحيواني فينا يتغلب حين يتعلق الأمر بالبقاء، ولذلك تسقط قيم الإنسانية التي نظّرْنا لها، ويسود قانون دارويني خالص. ورغم هذا تتغلب الثقافة في حالات أخرى، فلولاها لما قام المجتمع وتعايش داخله الناس، وبها كان الكرم والتضامن والصداقة. لكن الثقافة تقوم بدور آخر يكاد يكون لا أخلاقيا؛ وهو التبرير لأفعال طبيعتنا الوحشية، فأمريكا مثلا قامت بغزو العراق مدعية أن ذلك لتخليص الناس من الدكتاتور وأيضا لزعمها أن هناك أسلحة نووية، لكن النتيجة كانت مجازر في حق الإنسان، بل ولا يزال العراق يعاني إلى اليوم من مشاكل لها علاقة بذلك الغزو.
إن أهم ما يفسر هذه الأمور هو نظرية التطور، ولذلك لم يكن دارون مجرد مسافر على سفينة البيغل، وإنما كان عقلا علميا شغوفا بمعرف أصول الأجناس والسلف المشترك. ولذا حين عاد وبعد أنْ نشر كتابه تغيّرتْ كثير من الأشياء في الوسط العلمي. ومع أن الرفض واجه نظريته في البداية، إلا أن كل الأدلة كانتْ تؤكّد أنه على صواب، وأنّ هذا الرجل قدّم تفسيرات مهمة لقضايا كانت مجهولة من قبله، وأهم ما قدمه هو فكرة البقاء والتكيف من أجله، وأن الكائنات تتصارع لتسود.
ودائما في إطار حديثنا عن الطبيعي والثقافي قدم البيولوجي ريتشارد دوكنز نظرة تتكئ على الدارويني وترى أن الأخلاق والأفعال الإيثارية كالكرم مثلا جميعها أفعال أنانية غايتها البقاء والاستمرار، فالناس قديما لم تكن تؤذي الكرماء في الحروب لأنهم يفيدونهم، وهكذا صار الكرم عاملا للاستمرار والبقاء.
تتداخل العلاقة بين الطبيعي والثقافي، لكن ما ننساه غالبا هو أن الثقافة هي نتاج الوعي، وهذا الأخير نتاج البيولوجيا، أي الطبيعة. ننسى كذلك الجانب المفترس في الإنسان بمجرد أن نراه بكوستيم وربطة عنق ويقود سيارة، بينما إذا تغير الظرف قد يتحول إلى وحش في حالة مجاعة مثلا.
لعلنا الآن سنصل إلى نتيجة مخيفة هي أن الثقافي يكون غالبا في خدمة الطبيعي، وأن مدنيتنا قائمة بسبب ظروف، ولو حدث وتغير الظرف قد نعود إلى الغابة يا صديقي الإنسان.