جلال برجس
عن القاهرة في مجلة الثقافة الجديدة
تأخرت كثيرًا في أن أرى القاهرة، لكنها من المدن التي تأتيك قبل أن تزورها؛ فقد عرفت بعضًا منها عبر القراءة قبل أن أغادر زمن المدرسة. كنت صغيرًا على أن أفهم مدينة ضاربة جذورها في حقل التاريخ الشاسع. كانت أكبر مما يمكن لواحد مثلي في ذلك الزمن يرى الأشياء عبر نافذة أعدت للأغنيات. وكان دليلي إليها الكبير نجيب محفوظ، القاهري بامتياز مذهل، حيث دلني على أبعاد لا يعرفها سوى الذين أصابهم الأدب، واختطفتهم الكتابة إلى حقيقة الأشياء.
ما يقال عن القاهرة، وما يرى عن بعد ليس إلا جانب بسيط لا يشكل ظلالًا لكامل الحقيقة؛ حقيقة الثالثوث (الإنسان، ومكانه، وزمانه) الذي كان وراء حضارة ما يزال الغموض بقداسة سرية يلفها. درس تلقيته مع أول خطوة كانت لي في تلك المدينة التي يلظم وجوهها خيط سري يرى ولا يُرى. مدينة لا يمكن لك أن تفهمها من دون أن ترخي العنان لحواسك الست لتعود إليك بصوف المعنى. تأخرت كثيرًا عن القاهرة لكني زرتها. حدث ذلك في صيف عام 2019؛ إذ هبطت الطائرة في أول لحظات الصباح، حيث كانت الشمس قد ألقت بضوئها على البنايات، والبيوت، والشوارع محدثة ذلك التمازج الجميل بين لون عتيق تتمترس وراءه الأشياء، وبين الضوء بشارة النهار. مدينة ما أن تراها للوهلة الأولى حتى تعتقد أنك أمام مشهد روائي خرج للتو من بين يدي كاتب ينحاز إلى ما وراء القشور للأشياء. إنها مدينة بلا قشور، ولا محسنات، تشبه إحساس عطشان حالفه الحظ بالشرب من رأس النبع.
كنت قد حجزت عن بعد في فندق في (الدُّقي)، مكان لم تغزوه شهوة الإسمنت ورعونته في الصعود عاليًا. أردت مساحة تأخذني إلى حيث ما يزال الناس يتمسكون بروح الرصيف، وقلب الشرفة، وقوام الحميمية في ابتكار اللحظة.
عبر الطريق إلى الفندق ثمة يد كانت تقلب صفحات الذاكرة، كأنها تدلني إلى ما قالته الكتب عن القاهرة، رغم ما يحدث من هندسة، وعمران. الهندسة رؤية جامدة لفكرة البيت، والعمران رؤية حميمية لمعنى السكن والسكينة. لكني رأيت القاهرة تداري على أصالتها رغم ما يحدث فيها من هندسة. ترتفع مآذنها كأياد تضرع إلى الله. مدينة الألف مئذنة. يحلق الحمَام في سمائها كقصائد لا تنتهي. مدينة تقنعك بأن ضجيجها وزحامها لازمتها التي تأخذك إليها من دون أن تفهم السبب.
في ذلك الصباح وبمجرد أن وصلت تركت حقيبتي في غرفتي وهبطت إلى الشارع الخلفي للفندق، ووقفت إلى عربة يتحلق حولها عدد من المصريين يأكلون الفول والطعمية والطرشي. فعلت مثلهم ورحت أتناول ما طلبته من طعام وأنصت لأحاديثهم، وأراقب من ينهون طعامهم ويمضون إلى وجهاتهم. ليس هناك من مدينة يمكن لها أن تستمر من دون هذه الطبقة من الناس التي تعرفهم المدينة جيدًا بأحلامهم، بأوجاعهم، بأفراحهم، بنزقهم الفريد. في القاهرة أنت في مدينة لها ثلاثة وجوه، وجه للصباح يريك طقوس القاهري وهو يحتفي بلحظة الشارع سعيًا إلى نهار لا يأتي بسهولة فلا يُنسى. وجه الظهيرة سيد الزحام الثري، كتب تقرأ بيسر، وتجد لها مكانها في أصص الذاكرة. ووجه الليل، ليل القاهرة التي تعقد صداقة لك حتى مع من رحلوا تاركين وراءهم طيور كلماتهم، وأوتار أصواتهم، ورؤى لها حظوة المكانة في قافلة الخلود.
أمضيت ذلك النهار في تجوال حر في الدقي، تأملت الجدران العتيقة، ووجوه المارة. تحدث إلى باعة، وعابري طرق، وموظفين، ومتسولين. القاهرة مدينة كبيرة تذوب فيها انتماءات أبناءها الجغرافية فتؤدي إلى انتماء فريد هو الوطن. أم الدنيا التي لا تنام.
في اليوم التالي اصطحبني صديق إلى الأهرامات، ومن ثم القاهرة القديمة، وإلى حي السيدة زينب، وإلى مقهى الفيشاوي، وإلى المتحف. قال لي سندلك إلينا. فأخذتني القاهرة إلى شوارعها، كتب تُقرأ بأكثر من مستوى. طافت بي في مقاهيها، شرفات للبارحة واليوم وغد. جسرت المسافة بيني وبين أناسها فربحت المحبة. دلتني إلى تاريخها، ماء يؤثث نهرًا لا ينضب.
في اليوم الثالث وجدتني أتحدث اللهجة المصرية، وأجلس إلى طاولة في مقهى في الدقى، أشرب الشاي، واقرأ الصحيفة تارة وأخرى أتأمل الحياة كيف تمضي على ذلك النحو الجميل المُعاند. في النهار أتجول في الطرقات أعيش زحام مدينة تضم زائريها بيسر إلى مطارح أبنائها. وفي الليل أنفق وقتي بين الكتاب والشعراء. ليل ينتهي بعد أدون يومية غنية لا تحدث دومًا.
في القاهرة صُنعت لي ذاكرة جديدة، أثثها أناس يحلمون بغد لا ينفصل عما مضى. كان الوقت فيها بمضي بخفة المتخفف من أوجاعه وهو على موعد مع البهجة. بهجة أهدتها لي متاحفها، مساجدها، مكتباتها، مقاهيها، أناسها البسطاء الذين ما أتت بساطتهم إلا من عمق عتيق في سبل العيش والحلم. مدينة تعلمك كيف تكون مشاءً. في آخر الليل كانت تفتح شهيتي على الكتابة، كتابة حرة عن مدينة وقعت في غرامها. هناك انبثقت الفكرة، فكرة أن أكتب عن مدينة من يزورها سيعتقد أنه فهمها، من دون أن يعي أنها علمته أن الطريق إلى الفردوس هو الفردوس ذاته.