تلعب ثقافة المجتمع بأنساقها المختلفة التي هي مجموعة من الاتفاقات(فكرية، دينية، اقتصادية، تقاليد وأعراف…) دورا مهما في التأثير على اللغة، بالضبط على الكلام المعتمد في الحكم على قضية أو موضوع. فتظهر بذلك الفوارق اللغوية وتتحدد صيغ الاستعمال الأكثر شيوعا(أمثال، حكم، جمل تستعملها الجماعة عموما). وهذه الصيغ تعبّر بالضرورة عن ثقافة المجتمع، رغم ما تبدو عليه من عفوية وغياب المقصدية والبراءة. ولذلك يكشف تفحّصها عن الخطاب المتحرك عبرها، الخطاب الذي يحرّكها أيضا والذي يكون غالبا ذاك الذي يملك السلطة ويمثل المركز بالنسبة للخطابات الأخرى. والمنطلَق إلى هذه الملاحظات يقوم على بعض مفاهيم علم الاجتماع اللغوي، وأيضا على رؤية تنظر إلى اللغة باعتبارها تفتقر إلى البراءة بالمرة، اللغة تتحرك بخبث كبير وذكي، أو بالأحرى تتحرك فيها الثقافة لتقول ما تعتبره حقيقة وما يمنحها سلطتها على بقية الخطابات. وإذ نركز هنا على اللغة فلنرصد كيف تشتغل ثقافة الذكورة على إنشاء الصيغ الكلامية والتعابير الأكثر خدمة للرجل في المجتمع العربي، والتي هي حتما ليست في خدمة المرأة بالضرورة. ولعل أثرا أدبيا كبيرا مثل ألف ليلة وليلة في التراث القديم يكشف عن ذاك الاستعمال المختزِل لدور المرأة في إمتاع الرجل جنسيا وإمتاعه بالحكاية التي تصدر من امرأة هي شهرزاد، وتتكلم من خلاله قيم المجتمع الذكوري واضحة، بداية في ربط محافظتها على رأسها وبقائها حية بمحافظتها هي على متعة شهريار:بالحكاية والجنس. وإلى اليوم لا يبدو أن الثقافة العربية غيرتْ من أحكامها تجاه المرأة، بل لا تزال، وانطلاقا من رؤية دينية تفضل الذكر على الأنثى. الثقافة ذكورية بامتياز، والناس تردد ما يعبّر عنه رجال الدين عن أفضلية الرجل، وقد بلغ الأمر إلى إشاعة أفكار مغالطة وخرافية كالقول إن الرجل يحركه العقل وتتحرك المرأة بالعاطفة وأن المرأة ناقصة على مستويات عدّة بالنظر إلى شريكها، سيّدها في هذا الطرح:الرجل. وبرغم أن العلم الحديث يثبت أن الدماغ يحرك الإنسان مهما كان جنسه؛ تقع المرأة هي نفسها ضحية هذه الأفكار التي أنتجها الذكر وحملتها المرأة بالتربية والتعوّد لأنها نشأت في بيت تحكمه قيم الرجال(وكلمة رجل في اللغة صارت تعني أكثر من ذكر، وأيضا أفضل من أنثى ومن امرأة). حين نأخذ مثالا من اللغة عن الاستعمالات الذكورية المحتقرة للمرأة، وهي كثيرة ولا تحصى؛ يمكن ملاحظتها، حين ننظر بعدسة علم الاجتماع اللغوي دائما، في قولنا مثلا:فلانة خير من ألف رجل. تبدو العبارة على ظاهرها مدحا للمرأة واعترافا بها، لكنَّها في العمق احتقار شديد وإنقاص لها، فالرجل هو المقياس للأعمال الكبيرة دوما، هو الأصل والمثال. أفكّر الآن: لمَ لم نقلْ:فلانة خير من ألف امرأة؟؟ أو فلانة شجاعة أو نبيلة أو مبدعة بدلا من هذا التعبير!!! لا يمكن قول هذا لأنّ الثقافة الذكورية تنطلق أصلا من كون المرأة أقلّ من الرجل ومن ثمة ليستْ معيارا للمفاضلة، الرجل أفضل دوما، ولذلك حتى حين تنجز أعمالا عظيمة، أعظم مما أنجزه الرجال، تُلحق بالرجولة والفحولة بالقول فلانة فحلة(المقابل غير الموجود للفحل في كثير من الكلام الدارج) أو القول هي خير من ألف رجل لا من ألف امرأة، وكأنّ المقول ينطلق أصلا من كون المرأة أقلّ مرتبة من الرجل ولو حققت المعجزات. ما المعنى في كل هذا الآن؟ ربما؛ هل يصح أن يقوم معنى حين نقف على كون الأنوثة أو الذكورة في الأصل ليسا ما تقوم المفاضلة بينه، يتفاضل الناس فيما اجتهدوا من أجل تحقيقه بأنفسهم، لا بما تحصلوا عليه بالولادة. جميعنا علميا ذكر أو أنثى بالصدفة، لم نختر ذلك، وما وصلك بهذه الطريقة ليس أبدا موضوعا للمفاخرة أو المجد. يأتي هنا المشكل اللغوي، اللغة حين تكتظّ بخطابات تحتقر المرأة وإن كان بعضها يتخفى حتى ليبدو أنه مدح لها كما أشرنا. لكن كيف تفشّى كل هذا في الكلام؟ أظن أن الاتهام يجب أنْ يوجه بالدرجة الأولى إلى رجال الدين الذين أوّلوا وفسروا ونظروا وتدخلوا في اللغة وفي علومها منذ القرون الأولى، وهم الذين يستمع الناس إلى كلامهم باعتبارهم، وهذا مما صنعوه هم، الناطق الرسمي لله في الأرض، وقلت”الناطق” لأن أصواتهم على تعددها لا تعدو أن تكون صوت الذكر الفحل المفرد في تفرقه.. أخيرا، صديقتي المرأة:لستِ مضطرة لتحمّل كل هذا..