ينشط الفنُّ التشكيليُّ العربيُّ المعاصر نشاطا ملحوظا في عصر التدفق الحر للمعلومات ولا سيما مع طفرة الفنون الرقمية، وفي خضمّ تعدُّد النَّشاطات الثقافية وتنوُّع الصناعات الإبداعية الحديثة بشكل عام، وتتجه المجاميع المهتمة إلى المشاركة في الفعاليات التي تُحْيِيها الرَّوابط الأدبية ومؤسسات الثقافة، ومن المؤكَّدِ أنَّ العقل العربي لا يريدُ أن يجِدَ نفسه معزولا عن السياقات الاجتماعيّة والسياسيّة التي تشغله، ولا بعيدا عن الموضوعات الفكرية والثقافية التي تهمُّه؛ ومن هذا المنطلق، انخرطت مجاميع الفن والإبداع العربية في ميادين العمل الثقافي ومناشطه المختلفة، وحرص الفنانون والمبدعون العرب على الاشتغال على مشاريع خاصة لتقديم أعمالهم وابتكاراتهم وتجاربهم إلى المتلقِّينَ، بنفسيّة وعقليّة جديدتين، شكَّلهما الوعي المغاير الذي أحدثه واقع مغاير.
– استئناف:
عند النظر إلى أعمال الفنانين والمبدعين العرب وبالذات أعمال الفنانين التشكيليين ننوّه إلى أن من الوارد غالبا عدم فهم المجتمعات العربية لهذه الأعمال بشكل واضح؛ لذا نجدُ الفن التشكيلي مثلا أكثر حضورا في الغرب، مع أنَّ المجتمع الحضاري العربي القديم عرف أشكالا كثيرة ومتنوعة منه، تمثلت في المنحوتات والمسكوكات والتشكيلات والرسوم التي ما تزال آثارها باقية تدل على ما كان موجودا في الوطن العربي من فنون تشكيلية بأنماطها الأولية في زمن الحضارات.
وسيجدُ المطلع على التجارب الإبداعية العربية اليوم العديد من الأسماء في مجال الفن التشكيلي، التي ربما لو أتيح لها ما يتاح للفنان في الغرب للمع نجمها على مستوى عالمي؛ وفي هذا المقال سنتناول تجربة إحدى الشخصيَّات المبدعة في هذا المجال، هي الفنانة التشكيلية السورية فيفيان الصائغ، التي عرفت من خلال مقتنيات أعمالها، ومن خلال مشاركاتها في عدد من المعارض الفنية، منها معارض مشتركة مع فنانين آخرين، في عدة دول عربية وغربية.
تتميز أعمال فيفيان الصائغ ورسومها بالتنوع والحيوية، ومن الملحوظ أنَّها تستندُ إلى فكرةٍ فلسفيةٍ ذاتية في أعمالها، ولا تقف عند تلك الحدود القسرية لمدارس الفن التشكيلي التي يعتقد نفر من الفنانين أنَّ عليهم الانتماء إليها؛ فهي – وإن تخللت أعمالَها الرمزية التعبيرية – إلا أنها تنتمي عموما إلى فنِّها فقط، ومن دُون أن تُغفِلَ فكرة الإحاطة والإلمام بالمدارس الفنية المعروفة من الواقعية إلى السريالية إلى التجريدية، إلى آخر القائمة… والانتباه إلى سماتِها وخصائصها وسماتها العامة، ولكن بما يخدم تجربتها ويمكِّنها من تضمين ذلك في أعمالها دون الركون إلى مسلَّمة الفواصل الحَدِّية، ومن هنا جاءت أعمالها أبعد ما تكون عن الأفكار المؤدلجة وأقرب ما تكون إلى الرسائل المُنَمْذَجة.
إنَّ انتماء الفنانة فيفيان الصائغ إلى ملَكتها الفنية الأنيقة وفلسفتها الإنسانية العميقة قد جعلها واحدة من أهمِّ منشئات المحتوى الفني الإبداعي العصري في مجالها، تثير شغف التأمُّل في نفس المتلقي المتذوق فيتأمل أعمالها الفنية بالقلب والعقل والعين والحواس كلها مجتمعة معًا.
عرض:
يمثل عنصر الخيال عنصرا رئيسيا في مجموع أعمال فيفيان الصائغ، مؤسسا على فكرة المعاني الدلالية المضافة إلى المعاني الجمالية، فكما أن التعرف على التفاصيل الخارجية في الفن البصري يتم عن طريق الحواس؛ فإنَّ التعرف على التفاصيل الداخلية أو المعنى المسكوت عنه (معنى المعنى/ meaning of meaning) يتم من خلال الإحساس، وهذا هو مربط الفرس كما يقال، وموضع الشاهد من كلامنا حول هذه التجربة المميزة لفنانة مميزة، فقلما نجد هندسة صامتة في مثل هذه الأعمال، فمعظمها لا يهتم بالبناء المعنوي لمضمون اللوحة وإنما يكتفي بالبناء الشكلي الخارجي لها؛ فالترميز ليس حكرا على الشعراء ومن ينحو نحوهم فقط، وإنما هو في وسع الفنانين والرسامين أيضا، ويكون في أنماط الرسم والتشكيل كما يكون في الأعمال الشعرية والروائية مثلا.
إنَّ بإمكان الفنان الحرّ الواثق من نفسه المستقل برأيه أن يفصح عن المكنونات والمشاعر المتراكمة عبر صياغة جمالية عبقرية يشعرنا من خلالها أن الفن الحيَّ يُحْيي الحياة، وهذا هو ما فعلته فيفيان الصائغ في صياغتها لرسوماتها والمحتوى الذي تقدمه لجمهورها ولعموم المهتمين، ومما يلفت النظر في لوحاتها تداخل الذاتيّ والموضوعيّ لدرجة ربما تداخل معها قبح المجتمع بجمال اللوحة، وهنا تكون الفنانة قد كسرت الحاجز النفسي من جهة، ووصفت جنون الحياة من ناحية أخرى، وتكون قد قدمت لنا تحفها الفنية بشجاعة أدبية، لتهيئ المتلقي لاستيعاب مهمة الفن التشكيلي الإنسانية، وفهم أغراضه التعبيرية، الّتي تتوازى مع غاياته الجمالية.
– من الأقصوصة إلى الأقصودة إلى الأرسومة:
تعدُّ الفكرة الإبداعية الإنسانية واحدة وإن تعددت أشكالها وصور التعبير عنها، فمن الشاعر إلى الروائي إلى الكاتب إلى الناقد إلى الرسام إلى الفنان… تشكِّل الصّور الجميلة الرائعة والأخيلة البديعة الواسعة، إضافة إلى العاطفة الصادقة والتوظيفات اللائقة، أهم عناصر العمل الفني والإبداعي، وقد نتج عن ذلك تداخل الأنواع الشعرية والأدبية والفنية والإبداعية، في حالة تُعرف لدى النقاد اصطلاحا بالتماهي، وهذا التماهي أدى في نهاية المطاف إلى استحداث ما تسمى بالأنساق المفتوحة، التي فرضتها حالة التداخل بين الموادّ النصية وترابطها موضوعيًّا، لنشهد ظهور الأقصوصة السردية، ثم ظهور الأقصودة الشعرية، وصولًا إلى ظهور ما تسمى بالأرسومة الفنية، وهذه الأرسومة تقوم على فكرة تكثيف المعنى في الرسمة أو اللوحة على غرار ما يجري له من تكثيفٍ في كل من الأقصوصة والأقصودة.
ونجدُ عند فيفيان الصائغ قدرا كبيرا من هذا التكثيف غير المخلّ في لوحاتها، من حيث اعتمادها على فكرة مركزية في عملها، تتفرع عنها – أو يمكن أن تتفرع عنها – أفكار عديدة، ويكون مردّها إلى منظومة محورية مفاهيمية واحدة، كأن تكون قضية الوطن أو المرأة أو الطفل أو المجتمع، وغيرها من قضايا الأوطان والإنسان.
لقد أبرزت في أعمالها رسالة تودُّ إيصالها من خلال الفن، وهي رسالة السلام والمحبة والتعايش والتآلف، وانتشلت بريشتها وجدان الإنسان من براثن التابوهات والخوف، ونزعت عنه الأقنعة المزيفة، لتضع حدًّا لادعاءات المثالية، ولتستنطق الحقائق الكامنة في النفس البشرية، فهي تجسد في رسومها حالات القلق والتوتر والحيرة التي يعيشها الإنسان، وتقيم عليه الحُجَّة في ما يتعلق بتناقضاته التي يتنكَّر لها ولكنه لا يستطيع أن ينكرها، فهي جزء من فطرته وطبيعته مهما حاول أن يتكلّف ما عداها.
– ختام:
من المعلوم سلفا أنَّ على المبدع أن يقول وعلينا أن نتأوُّل؛ لذا فإنَّ أحد أهمِّ مبادئ النقد، ومنه النقد التشكيلي: تحييد العاطفة وتغليب الموهبة؛ لأنَّ الفن في نهاية الأمر إنما وظيفته أن يوحي بالحقيقة بأية طريقة، وهذا هو ما وجدناه ولمسناه لدى استقرائنا أعمال الفنانة المبدعة فيفيان الصائغ.