نمت لوعة الكاتبة مع الأيام السّوداء، وعانقت فجر بيروت القتيل من مسكنها في فرنسا، وغابت مع أحلامها في ربوع الوطن. إنّها امرأة من الجيل المهاجر الملتزم بالهويّة الأصليّة.
بالرغم من غرقها في النثريّة الموحية، وضياع مشاعرها في زحمة الحزن في هياكل النصوص، فقد كتبت نثراً كأنّه شعرٌ حقيقيٌّ، ذهبت به عبر طريق الأحزان الممتد من مدينة إلى مدينة، فتناهى طريق أحزانها الطويل بغزل لقريتها الجنوبيّة “رميش” في نهاية الكتاب.
نستطيع أن نقول إنّ الكاتبة ترقّت من بعدها الإنساني إلى فضاء وطنيٍّ رحب، بالرغم من شموليّة هذا البعد الّذي هو حلم كلّ ارتقاء، وكان طريقها إلى الوطن هاجس السرد:
“من أرض جبل عامل جبلني الله
ابنةً وفيّة لمدرسة جبران النبي
حرّيتي قطفتها مع أوراق التبغ…” (صفحة ٣٢).
من خلال بوحها المنفعل الشّفاف، رسمت رنا علم طريقاً للشمس إلى غربتها، والآتية إليها من سماء وطنها. وبان حبّها العميق وطبيعتها في نصوصها، حيث توحّد حبّها بالقراءة مع نمط الحياة في دنيا الاغتراب:
“خضت غمار الأنوار
عبر صفحات من حياة
قرأتها عبر الورق” (صفحة ٩١).
إنّ الكاتبة قد لوّعها انفجار الرابع من آب، وودّت أن تضم أشلاء بيروت إلى دنياها المعذّبة في غربتها. لقد تحوّلت الغربة ومعاناة البعد والعبث لديها إلى حبٍّ وتواصل إنسانيّ مع الوطن أكثر اتّساعاً. وغدا بإمكانها أن تكرّس حضورها الفكري للحبّ، حين يغدو هذا الحبّ انفتاحاً صوفيّاً متوهّجاً على دروب الوطنيّة، وانبجاساً روحيّاً صاخباً في ضمير الذّات، المنفتحة على العاطفة والحنين لمسقط رأسها. ففي نص “آه يا بيروت”، قدّمت مشاعرها الحزينة للقراء في جو تأمليّ، وامتزج البوح بالفكر والّلوعة، لتعطي إطلاقاً مرسلاً للحقائق المؤلمة:
“جوعٌ وموتُ وانكسارات ومشاحنات
وماتت بيروت وعاشت بيروتات” (صفحة ٤٠)
إنّ رنا علم تكلّمت بحبٍّ لبلدتها، وبوعي لهذا الحبّ الذي يعيش في ذاتها. فقد بدأ حبّها لوطنها يفيض من داخلها، ليتّجه نحو جنوب الوطن بصفاء وعفويّة. ولم تكن تجربة الحبّ الّتي عاشتها بعيداً عن موطنها إلّا تجربة الكلمة التي أشرقت في ذاكرتها، لتهبها الغبطة الرضيّة؛ إنّها إنسانة تحبّ بإطلاق، وتودّ أن تقول كلمتها بإطلاق، الكلمة الّتي تعلِّمها العذاب واليقين، وتصير تجربة كاملة من خلال ارتعاشها المأسوي بسبب فقدها لحضور والديها، وغيابها عن ربوع قريتها.
إذا كان المُقام هو الإقامة، والمَقام هو محلّ الإقامة، فقد جعلت الكاتبة مُقام الروح في مَقامات عديدة من جغرافية الوطن. ويبقى أن نقول إنّ الأهميّة بين هذه المَقامات ليست بذات المستوى عند معظم الّذين كتبوا عن الوطن والوطنيّة. فقد انضمّت رنا علم إلى نادي الكتّاب الّذين عكسوا وحدة الثبات المميّزة لماهيّة المَقام وحقيقته في أبعاده الروحيّة والوجدانيّة والوجوديّة؛ وقد ربطت الأنا الوطنيّة في سلسلة كيانها الروحي.