للكاتب أحمد الفيتوري
كتب أن طه حسين، كان يكتب التقارير، عن زملائه في الجامعة والكتاب، لأجهزة الدولة، وقد يكون كتب للإنجليز أيضاً. وأن عباس محمود العقاد، لا رأي له، بل يكتب بثمن المطلوب منه، من قبل الأحزاب المصرية التي انتمى إليها، وحتى للمخابرات الإنجليزية. وأوضح رأيه في الشيخ محمد عبده، بأنه محدود المعرفة، وبأنه ألف كتاباً في التوحيد، ما هو لا يفيد إلا المبتدئين في مجاله، وأن الشيخ، كان يعمل لصالح كرومر، الحاكم الإنجليزي لمصر مدخل القرن العشرين. واعتبر جمال عبد الناصر طاغية دمر مصر، وأن تأميمه قناة السويس كان سعياً وراء الشهرة، فيما اعتبر سعد زغلول عميلاً إنجليزياً. وقد جاء هذا وغيره الكثير، في كتابه:سيرة حياتي – جزآن – 768 صفحة -الناشر المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت – سنة 2000م
ولهذا أثار الكتاب حين صدوره لغطاً كبيراً، ولم يهتم به بعد ذلك اللغط، رغم أهميته، والأهم كاتبه من ساهم في وضع لبنات الفلسفة حديثاً في الثقافة العربية
المفكر عبد الرحمن بدوي وُلد في محافظة دمياط: 17 فبراير 1917م، وتوفي بالقاهرة 25 يوليو 2002م. لكن أهم أيام عمره، كما يوحي كتابه: سيرة حياتي، السنوات المثمرة التي عاشها في بنغازي، حيث تحتل هذه السنوات ما يقارب 200 صفحة من الكتاب، ما حجمه من الورق الكبير
مما يرويه بعض تلاميذ بدوي في مدينة بنغازي: أنه اعتاد أن لا يشترى الكتب، كان يكمل الكتاب الذي بين يديه، في اتكأة على رف من أرفف مكتبة قورينا، لصاحبها عبد المولي لنقي، صديقه الحميم وأحد ناشريه
ومما تذكره كتب بدوي، عن مدينته بنغازي أن لليونانيين الليبيين، مدناً خمسة في شرق ليبيا، منها يوسبريدس أو هوسيبريدس / بنغازي، وقبل قورينا / شحات: تدور حول نشأة مدينة قورينا أساطير عدة، أثبتها هيرودوتس في المقالة الرابعة من تاريخه، وأشار إليها الشاعر اليوناني العظيم فندارس، في الفوثاويات الرابعة والخامسة والتاسعة
عملاً بنداء وحي أبولو في دلفي، الذي ناداه باسم ملك قورينا ثلاث مرات، أبحر بطوس بسفينتين ذواتي خمسين مجدافاً، متجهاً صوب ليبيا، ونزل في جزيرة صغيرة، تدعى فلاتيا، فأقام فيها عامين، حاول بعدهما العودة إلى ثيرا، لكن أهل ثيرا منعوه من النزول. فعاد إلى ليبيا، ونزل في موضع قبالة فلاتيا، يسمى آزيريس أو أزيليس، فأقام فيه هو وصحبه سبع سنوات، وفي السنة السابعة اقتاده أهل الإقليم، هو وصحبه، صوب الغرب، إلى ينبوع كان يسمى في أيام فندارس وهيرودوتس باسم ينبوع أبولو، وكان أهل ليبيا يسمونه كورا، ومن هنا قيل إن اسم كورينا جاء منه، وكان ذلك في سنة 631 قيل الميلاد
كنت مشدوداً لمحاضرة الفلسفة القورينائية أو مذهب اللذة، تردد على لسان تلاميذ بدوي، عن ظهر قلب: وفي مدينة قورينا الزاهرة الوافرة الثراء هذه، الحافلة بروائع الفن اليوناني في عصره الكلاسيكي، ولد أرسطيفوس، مؤسس المدرسة القورينائية. خلت نفسي واقفاً وقفة الاستجواب: أيها الكبير فينا كيف جئت هذه المدينة الصغيرة ومكث فيها السنين؟
عبد الرحمن بدوي: من باريس سافرت إلى بنغازي، يوم الأحد، العاشر من سبتمبر سنة 1967م، وإبان الرحلة نزلنا في طرابلس الغرب لمدة ساعتين. ووصلت إلى بنغازي في نحو الساعة التاسعة مساءً، ونزلت في فندق ضيق كئيب بشارع الاستقلال، يبعد عشرين متراً عن مقر كلية الآداب، ومع ذلك فإنني حين سألت موظفي الفندق، عن مكان إدارة الجامعة الليبية، أشاروا عليّ بأن أركب تاكسي لإيصالي إلى هناك!! لكني شككت، وأنا أعرف مقدماً أن بنغازي بلدة صغيرة، ولن أحتاج إلى ركوب تاكسي، فقررت السير في شارع الاستقلال وسؤال المارة، وأخيراً أخبرني أحدهم، إنها على بعد أمتار فقلت في نفسي: أهذا ما ينتظرني ها هنا!! إن البداية لا تبشر بأي خير
ودخلت كلية الآداب والتربية، كما كانت تسمى آنذاك، وسألت عن العميد وبعض الأساتذة المصريين، فعلمت أن الذي يتولى العمادة بالنيابة هو د. إبراهيم نصحي، العميد السابق والزميل في كلية الآداب بجامعة عين شمس، فالتقيت به، وأرسل يدعو د. علي عيسى رئيس قسم الفلسفة والاجتماع آنذاك فحضر. مع د. عيسى
ذهبت للقاء مدير الجامعة، الأستاذ عبد الولي دغمان، الذي كان قبل ذلك، مدرساً لعلم الاجتماع في كلية الآداب. فرحب بي أجمل ترحيب، وكان على شبابه واسع الاطلاع، على آخر الأبحاث في علم الاجتماع، إذ كان قبل ذلك بفترة قصيرة، طالباً يحضر للدراسات العليا في إحدى الجامعات بالولايات المتحدة، وحصل من هناك على الماجستير في علم الاجتماع، وعاد قبل أن ينجز رسالة الدكتوراه، ليتولى منصب مدير الجامعة الليبية
وكان أول مدير ليبي كفء، مختص يتولى هذا المنصب، بعد أن تولاه قبل ذلك أشخاص، لا شأن لهم بالعلم ولا بالجامعة، فمسح هذا اللقاء الجميل الانطباع السيئ، الذي بدأ يساورني. وطوال العامين اللذين كان فيهما الأستاذ عبد الولي دغمان مديراً للجامعة الليبية، كنت أشعر بالاطمئنان وأحظى بالتقدير البالغ، لهذا كان هذان العامان الأولان، من الأعوام الستة التي أقمتها في ليبيا، الفترة المضيئة الخصبة في مقامي هناك
ومن تلاميذ بدوي، من ملأ المكتبة بمؤلفاته كنجيب الحصادي: ليس في وسعي، أن ألمح إلى سيرتي الذاتية، دون أن أذكر أنني تلميذ عبد الرحمن بدوي، فما كان لأحد أن يتتلمذ على يد بدوي، دون أن يتأثر به بطريقة أو أخرى، فقد كان نموذجاً لشخصية المستبد المستنير، لم يكن يعبأ بواحد منا، وإن أحسسنا بتقدير حيي للمتفوقين يندر بندرتهم، كانت هناك هوة سحيقة إلى حد مروع تفصلنا عنه، وكنا نكتفي في أغلب الأحيان، بالتطلع عن بعد، لسطوته والتندر بزهوه
بدوي نسيج وحده، زهوه بنفسه، هوسه بالمعرفة، مثابرته وجديته، أنتج مكتبة من تألفيه وتحقيقه وترجمته. لم يتزوج، ولم ينشغل بزينة الحياة الدنيا: المال والبنين. ولهذا حق له أن يزهو بنفسه، بتفردها، وإن أجحف في حق الآخرين، فلم يكن بنفسه رحيماً
لقد سجن في ليبيا، من أثر طغيان القذافي، من ظن بسجنه الرجل يسجن الفلسفة، ما نعتها فيما بعد بالتفسير
خرج بدوي من السجن، معززاً مكرماً، وعاش في باريس، حيث لقي كل تكريم، ولم يزده السجن إلا ألقاً واتقاداً للجذوة…. ومن كل هذا وذاك، يبقي بدوي نسيجاً وحده