محمد جميل خضر ل ضفة ثالثة
دون هوادة، تتغيّر يوميًّا الاعتبارات التي تجعل من أغنية عربية ما، سائدةً بالنسبة لأرقام المتابعة، أو منسيةً، مهملةً، متروكةً في زوايا النسيان
تاريخيًّا، لم تنشأ مقامات الموسيقى العربية من عدم. كان هناك، دائمًا، وأبدًا، إما تأثيرًا شرقيًّا، أو غربيًّا، أو بيْنَ بيْن
من أربع ثقافات موسيقية رئيسية، كوّنت عائلة المَقام العربيّ الموسيقيّ أركانها: الفارسية، الكردية، الأندلسية والتركية، إضافة، طبعًا، إلى الثقافة العربية، بما لها، وما عليها، من خصوصيات، ومن تحوّلات
ما يجري حاليًّا، يركل، بالمعنى الحرفيّ للمفردة، مختلف ما تقدّم، فلا يعود لأمر انتشار أغنية ما، علاقة، لا بالمقام، ولا بالكلام، ولا بالنغم، ولا بروح الموسيقى الحقيقية، ولا بالتاريخ، ولا بما جرى مراكمته من منجزٍ موسيقيٍّ عربيٍّ، فرض نفسه في أكثر أزمنة العرب صرامة وحروبًا وخلافة متوارثة وخلافات متراكمة
ولكن، ألا يتضمّن كلامي أعلاه بعض قسوة الحكم وتسرّعه؟ ومن قال إن أي ناقد موسيقي، أو متابع متخصص، أو إعلامي في حقل الثقافة والفنون، يستطيع أن يدّعي امتلاكه ناصية الحقيقة حول أسباب ركض المستمعين والمشاهدين (شريحة الشباب على وجه الخصوص) نحو أغنية دون أخرى، وما الذي يجعل أغنية “تلات دقّات” لمغنٍ مصريٍّ اسمه (أبو) قد لا يكون سمع فيه معظم قرّاء ملحق “ضفة ثالثة” على سبيل المثال، تحقق رقم مشاهدة للفيديو كليب الخاص بها، غير مسبوق، ولا متوقع، ولا يمكن إدراجه تحت أي عنوان؛ فقد وصل عدد مشاهديها خلال أربعة أعوام منذ إطلاقها ونشرها على موقع “يوتيوب” إلى أكثر من 725 مليون مشاهدة؟
هل للأمر علاقة بالألحان الراقصة، المرتبطة بأجواء السهر والخروج عن كل مألوف ومسموح، خصوصًا في التجليّات المصرية لهذه الأجواء؟
سأحاول هنا، برفقتكم، الحصول على بعض الأجابات، ولكن قبل ذلك سأجري جولة حول أرقام أغنيات وكليبات ومهرجانات
أرقام وعلامات استفهام
محمد جميل خضر ل ضفة ثالثة
https://diffah.alaraby.co.uk/diffah
أغنية “فاضي شوية” للمغني المصري حمزة نمرة المقيم خارج مصر، وصل عدد مشاهديها خلال عام واحد منذ إطلاقها إلى 217 مليون مشاهدة. أما أغنيته “داري” فقد وصل عدد مشاهداتها خلال أربعة أعوام إلى 319 مليون مشاهدة
وكما أسلفنا “تلات دقات”، آبو، 725 مليون مشاهدة خلال أربع سنوات
“تعال أحبك” للعراقيين: علي جاسم ومحمود التركي ومصطفى العبد الله، 704 ملايين مشاهدة خلال ثلاثة أعوام
“مهرجان بنت الجيران” حسن شاكوش وعمر كمال 593 مليون مشاهدة خلال عامين. أما مهرجان “عود البطل الملفوف” للمغنييْن أنفسهما فوصلت مشاهداتها خلال عامين إلى 189 مليون مشاهدة. ولحسن شاكوش وحده دون شريكه عمر كمال في معظم أغنياتهما، أغنية “حبيبتي افتحي شباكك أنا جيت” التي تظهر معه فيها الممثلة المصرية ياسمين رئيس وتشاركه بعض مقاطعها، فقد وصل عدد مشاهديها خلال أقل من عام (زهاء 11 شهرًا) إلى 176 مليون مشاهدة. كليب مهرجان “انتي بسكوتايه مقرمشه” للمصرييْن حسن شاكوش وحماده مجدي من توزيع إسلام ساسو وإنتاج “مزيكا”، وصل عدد مشاهديه بعد عام من إطلاقه إلى أكثر من 143 مليون مشاهدة. أغنية “حته تانيه” للمطربة المصرية روبي، وصل عدد مشاهديها بعد عام من إطلاقها إلى 179 مليون مشاهدة على قناة روبي فقط، دون احتساب القنوات الأخرى على موقع “يوتيوب”
كليب مهرجان “اندال اندال” أو “مع انها لسعة شوية” للمصري أحمد موزه السلطان من إنتاج لايك استديو، وصل عدد مشاهديه بعد عام من إطلاقه إلى 244 مليون مشاهدة وفوقهم نصف مليون في خانة (الفرايط)
أغنية “آه لو لعبت يا زهر” للمغني الشعبي المصري أحمد شيبة، وصل عدد مشاهديها بعد ستة أعوام على إطلاق قناة السبكي لها، إلى ما يقترب، كثيرًا، من 397 مليون مشاهدة (396807027)
وإلى أكثر من 178 مليون مشاهد وصل عدد من طلّوا على أغنية “حلاوة روح” من الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه بطولة المغنية اللبنانية هيفاء وهبي، والأغنية بصوت المغني الشعبي المصري حكيم. وخلال ستة أعوام كسرت أغنية “يا منعنع” للمغني المصري مصطفى حجاج حاجز الربع مليار مشاهدة، بالغة 262 مليون مشاهدة. وعلى المنوال نفسه وصل عدد مشاهدي أغنية “عمّي يا صياد” للمصري محمود الليثي بعد خمسة أعوام من إطلاقها إلى أكثر من 237 مليون مشاهدة (237,535,484)
وخلال عامين، وصل متابعي أغنية “مهرجان وداع يا دنيا وداع” التي تَشارَك فيها المصري حمّو بيكا مع المصريين: حسن شاكوش وعلي قدوره ونور التوت، من موسيقى وألحان فيجو الدخلاوي، إلى 244 مليون متابع، و(الفراطة) أقل قليلًا من 700 ألف
“أصابك عشق” للسعودييْن مهاب عمر وعبد الرحمن محمد، 217 مليون مشاهدة خلال ثمانية أعوام
في حين، وخلال أربعة شهور فقط بعد إطلاقها، وصل عدد مشاهدي أغنية “تراك الموسم” للمصري تميم يونس إلى سبع ملايين و400 ألف مشاهدة
وخلال شهرين فقط، وصل عدد مشاهدي أغنية “عليكِ عيون” للمطرب المصري أحمد سعد إلى 85 مليون مشاهد. وخلال ثلاثة شهور، فقط، من تنزيلها على موقع “يوتيوب”، وصل عدد مشاهدي أغنيته “صدقيني” أو “سايرينا يا دنيا” من فيلم “من أجل زيكو” إلى 41 مليون مشاهدة. ولأحمد سعد، أيضًا، وأيضًا، ومعه مغنيا الراب المصريان (عنبه) و(دبل زوكش) أغنية اسمها “ملوك” وصل عدد مشاهديها خلال عشرة شهور إلى 61 مليون مشاهدة. وخلال عام واحد، وصل عدد مشاهدي أغنية أحمد سعد “كل يوم” شارة مسلسل “ملوك الجدعنة” من بطولة شقيقه عمرو سعد ومصطفى شعبان، إلى 83 مليون مشاهدة و(شوية فراطة). أما بالنسبة لـ(شوية الفراطة) فهي تشمل باقي الأغاني التي رصدنا عدد مشاهداتها على قناة “يوتيوب”، ويخجلني أن أقول، على سبيل المثال، إن (الفراطة) في حالة أغنية “تلات دقات” التي وصل عدد مشاهداتها إلى رقم غير مسبوق عربيًا، هي أكثر من 400 ألف مشاهدة، وهو رقم يحلم فنانون وازنون قضوا حياتهم في خدمة الموسيقى والغناء والمعنى أن يصلوا إلى (فراطته) هذه. الأرقام أعلاه تشمل تنزيلًا واحدًا على “يوتيوب”، ولا تشمل باقي من رغب تنزيل هذه الأغاني، وبعض التنزيلات الأخرى تصل أرقامها إلى سبع خانات وفي بعض الحالات ثماني خانات، أكثر أو أقل قليلًا
وخلال أيام قليلة، وصل إلى أكثر من 30 مليون عدد مشاهدي أغنية “ستّو أنا” المتعلّقة بمسلسل “مكتوب عليّا” الذي عُرض رمضان الماضي، للمصري أكرم حسني تمثيلًا في المسلسل، وغناءً للأغنية مع الممثلة المصرية آيتن عامر التي شاركته بطولة المسلسل الكوميدي. وخلال 12 يومًا فقط، وصل عدد مشاهدي أغنية “من أول دقيقة” كلمات أمير طعيمة وألحان رامي جمال للمغني المغربي سعد لمجرّد والمطربة اللبنانية أليسا، إلى أكثر من 51 مليون مشاهدة، في رقم يكسّر كل ممكنات المنطق، ويسبق كل المتسابقات والمتسابقين. أما شارات الإعجاب (اللايك) للأغنية فقد بلغت في المدة نفسها مليون و300 ألف إعجاب دون تسجيل أي حالة عدم إعجاب
ومع سعد لمجرّد أيضًا، وصل عدد مشاهدي أغنية “إنسى” التي شاركه غناءها الممثل المصري محمد رمضان إلى 362 مليون مشاهد خلال أقل من عامين
أغنية “معلقني فيك” للمغني السوري محمد العلي تلحين وتوزيع صبحي الحمد كلمات عامر لاوند، وصل عدد مشاهديها منذ إطلاقها عام 2017، إلى 113 مليون مشاهدة
الأغنية الشعبية “يمّه مال الهوا” للمغني الأردني عيسى السقّار، فقد وصل عدد مشاهديها خلال خمسة أعوام إلى أكثر من 48 مليون مشاهدة. أما أعلى رقم وصله المطرب الأردني عمر العبداللات فهو لأغنيته الخاصة بزّفتيّ العرس الأردني والفلسطيني، محققة بعد ثمانية أعوام من إطلاقها 44 مليون مشاهدة
المفارقة أن أغنية مثل “إن أن” للغزييْن ضبور و(شب جديد) بلغ عدد مشاهديها خلال أقل من عام أزيد من 44 مليون مشاهدة، حيث بلغت (الفراطة) هنا المضافة إلى خانات الملايين زهاء 477 ألف مشاهدة. في حين نالت أغنيتهما “الشيخ جراح” أقل من ثلاثة ملايين مشاهدة خلال المدة نفسها. أغنية “ميّل على بلدي” للفلسطينية غزل غريّب والفلسطيني شلبي يونس وصل عدد مشاهديها خلال أقل من عام إلى 17 مليون ونصف المليون مشاهد
الأرقام لا تتوقف عند المرصود أعلاه، ولعل توثيق الأرقام القياسية جميعها، يحتاج إلى بحث طويل وجهد استثنائي، وأما بالنسبة لنا، فقد حققنا المراد من استعراض بعضها، وهذا الغيض اليسير من فيضها
وهي بمجملها، وعلى اختلاف معطياتها، واختلاف الموسيقى المقدمة بها، وتباين موضوعاتها وأجوائها، تطرح أسئلة كبرى حول أسباب انتشار أغنية وانحسار أخرى، وهل الانتشار خاص بالأغنية نفسها أم بالفيديو كليب المرافق لها، فأنا هنا لم أرصد عدد المستمعين لأغنية ما على أثير الإذاعات، أو باستخدام الأقراص المدمّجة بدون صورة، بل عدد مشاهديها عبر موقع “يوتيوب” على وجه الخصوص
وفي حالة الأرقام المصرية التي (كسّرت الدنيا)، هل للأمر علاقة بالأنموذج الذي يقترحه المغنّون الشعبيون المصريون في كليباتهم لأغنياتهم وما يسمّونه (مهرجاناتهم): ابن البلد (ابن الحتّه)، قِيَم الجدعنة، اللحن الراقص الصاخب، الكلمات البسيطة المتداولة، التحسّر على تقلّبات الأحوال وخيانة الأنذال؟ هل لأنهم، بمجملهم، بسمرتهم وبساطتهم وغرابة أزيائهم، يحملون ملامح تشبه أهل مصر في الأحياء الشعبية والتجمعات العشوائية؟
وماذا بخصوص الأرقام القياسية لأغنية فلسطينية؟ أو بخصوص أغنية المغربي سعد لمرّد واللبناينة أليسا، وقد تجاوزت كل منطق يمكن أن نستند إليه هنا، خلال حساباتنا وقراءتنا ومحاولة تحليل الظاهرة؟
مالك ماضي: واقع الميديا
الموسيقار الأردني مالك ماضي يحيل الأمر برمّته إلى واقع الميديا في العصر الحالي، ويتطرّق، خلال اتصالنا به، إلى موضوع الفضاء المفتوح الذي “كسّر كل الضوابط”. يقول ماضي: “في الماضي كان هناك لجان ومتخصصون يقرّرون طبيعة الصوت والموسيقى المقدمة بحيث لا يخرج أي شيء للملأ والأثير والمستمعين إلا بعد أن تقرر هذه اللجان وهؤلاء المتخصصون أن يُبث. الآن وفي ظل عدم وجود ضوابط، أصبحت الفرص مفتوحة أمام من هب ودب وما هب ودب”
ماضي يشير، إلى ذلك، لمسألة الوقت المتاح لمشاهدة هذه الكليبات، فعلى مدى 24 ساعة في الـ 24 ساعة، يستطيع الراغب بمشاهدة فيديو أن يشاهده. كما يشير إلى مسألة الوحدة التي بدأ يعيشها الناس، خصوصًا الشباب منهم، مع أجهزتهم الخلوية، منقطعين عمّا حولهم، ينتقلون من هذه الأغنية إلى تلك، ومن هذا الفيديو إلى ذاك
مسألة أخرى يصوّب عليها ماضي سهم كلامه: “إنها أرقام غير دقيقة، فلو شاهدتَ ثانيةً واحدةً من هذه الفيديوهات تسجل مشاهدة وتراكم على الرقم الموجود أسفل الفيديو”. حول هذه النقطة تحديدًا، اعترضتُ عليه أن هذا الأمر ينطبق على المعروض جميعه، ومع ذلك بقيت أغنيات خالدة لأم كلثوم وفريد الأطرش وغيرهما في حدود أرقام لا يتعدى أعلاها خانة الملايين المفردة أو عشرات الملايين، فعلى سبيل المثال وصل عدد المستمعين إلى أغنية “ألف ليلة وليلة” إلى 56 مليون مستمع مع النظر إلى أن الجهة التي نشرت الأغنية على موقع “يوتيوب” هي قناة “مزيكا” الأشهر والأمهر والأكثر خبرة في هذا السياق. لم يتردد مالك ماضي من القول لي إن الأمر يتعلق هنا بأغنية تخلو من الفيديو كليب عمرها يزيد على 53 عامًا (غنتها أم كلثوم، من كلمات مرسي جميل عزيز، وألحان بليغ حمدي، عام 1969)، و”هذا ما يؤكد أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، والموسيقى الجيدة لا تموت ولا يطويها النسيان”
يقول ماضي: “كل هذا التسابق المسعور لا يلغي الشيء القيّم، ولا يشطبه من الوجود. المشاهدة ليست مقياسًا. ولكننا لا نستطيع أن ننكر أن الذائقة العامة هبطت. أرقام خيالية وغير واقعية لا معنى لها، والدليل على ذلك عودتنا إلى مقولة “فقاعات الصابون” التي تظهر وتنتهي من لحظتها”
وحول إن كان ما يجري يعني هزيمة الموسيقى العربية الأصيلة بمقاماتها الثقيلة والراكزة، يجيب ماضي بالقول إن “موسيقانا غنية وكلها كنوز ولا تحتاج إلى مراجعة، ومهما تعمّقنا بها تظل بعض أسرارها عصية علينا”. مستشهدًا بالآثار الخالدة التي “ما يزال الناس يحجّون إليها ويتأمّلون، على مدى العصور، بهاءها”
ماضي يختم بالقول “إننا نمر بلحظة لا تعبّر عن موسيقانا الحقيقية ولا عن لغتنا المبدعة، إنها مرحلة أفول واضمحلال مروّعة”
وائل أبو السعود: النغم والزمن
الملحن والمؤلف الموسيقي الأردني وائل أبو السعود ذهب نحو منطقة أخرى، رائيًا أن عناصر كثيرة ومهمّة بإمكانها أن تلعب دورًا في رفع أغنية أو تعثرها، معددًا منها: الإيقاع، صوت المغني، طبيعة اللحن. رائيًا أن تفوّق عنصر واحد منها قد يكون كافيًأ لِخدمة أغنية والإسهام بإنجاحها
أبو السعود يرى أن الأبعاد الفطرية الإيقاعية داخل أغنية ما تؤثر على الصغار قبل الكبار. وبسؤاله صغار من أي فئة عمرية يقصد؟ أجاب أن الصغار من عمر أربعة أعوام وحتى ما دون ذلك، يتفاعلون بشكلٍ فطريٍّ، ومستعدون لإعادة مشاهدة فيديو كليب أغنية مرّات ومرّات، وفي كل مرّة يرتفع رقم مشاهدات تلك الأغنية. وهم، برأيه، لا يفعلون ذلك لِما يحتويه فيديو الأغنية من مشاهد، بل الأمر يتعلق، كما يرى، بموسيقى الأغنية نفسها، ويؤكد أن التأثير الطفوليّ يظلّ كامنًا في النفس، لارتباطه بأيام الطفولة، وبمرحلة مفصلية من عمر الإنسان
أبو السعود يذهب إلى أن عنصر الإيقاع هو الأهم من بين باقي العناصر، مستشهدًا بأغنيات (الراب) المنتشرة بكثرة هذه الأيام، التي تتضمّن كلامًا عاديًا (كلامًا عاميًّا موقّعًا)، ومع ذلك تلعب دورًا تأثيريًا بليغًا
وهو يوضح أن الأوروبيين، وخصوصًا الفرنسيين، أخذوا الراب من أفريقيا، مبينًا أن أغانيهم ثلاثنييات القرن الماضي وأربعينياته وخمسينياته، كانت متأثرة بالراب الإفريقي، وبالتالي هو ليس فنًّا جديدًا.
“شوية غناء وشوية حكي”، يقول أبو السعود وكتابة لا تشترط أن يكتبها شاعر، وهذا كل ما في الأمر، مستنتجًا أن الراب، مع استثناءات قليلة، ليس عملًا فنيًّا بالضرورة، فالعمل الفني يحتاج، بحسب (أبو السعود) إلى عناصر ليتسنى لنا تسميته عملًا فنيًّا: اللحن والإيقاع والنص والصوت. والنص يتكوّن من عدة عناصر، وكذلك اللحن والإيقاع
يقول أبو السعود: “الكون كله إيقاع. خلق الله يعج بالإيقاع والنغم المقسّم زمنيًا بشكل دقيق جدًا، ودقّة متناهية، وهو عميق داخل الإنسان بحسب تلقّيه للنغم والزمن”
الربط بين الموسيقى والنغم والخلق، فالتناغم (الهارموني) والرثم (التوقيع الزمني) هما، كما يرى، أصل حكاية الخلق جميعه
ويضيف: “ما أقصده هنا عموم الإيقاع الموجود، فأي إيقاع سوف يشد الطفل بالضرورة. الزمن موقّع صوتيًا بالنسبة للطفل، والإيقاع يجسّد توقيع الزمن، وبالتالي أي إيقاع يؤثر به. والإيقاعات أنواع، منها السريع، ومنها البطيء، ومنها الوسط، ومنها البطيء جدًا، ومنها غير المسموع، والزمن عبارة عن صوت غير مسموع. الالتزام بالإيقاع أكثر من الالتزام بالنغم، والفطرة الربّانية تحتوي مختلف ما تقدّم في الكون وفي الإنسان. الزمن والنغم وفطرة الإنسان وتناغمات الخلق مع الكون”
أبو السعود يضيف لما تقدم إسهام عدم وجود مراقبة بانتشار أغانٍ هابطة. كما يرى أن الفيديو كليب المصاحب لأغنية ما “يلعب بالطبع، دورًا لأنه يشرك حاسة النظر المهمة جدًا من بين باقي الحواس، وبالتالي تشترك جميع الحواس بالتفاعل مع ما يعرض”
وهو يرى أن برامج المسابقات الغنائية أسهمت بارتفاع المشاهدات إلى أرقام غير مسبوقة، علمًا أنها، كما يكشف، جميعها، بلا استثناء، “نسخ عربية من برامج أجنبية”، مشيرًا في السياق إلى مشاهدات وهمية كما في بعض القنوات التلفزيونية المعروفة
أبو السعود يختم بالقول: “إن هذا الكم الهائل من المشاهدات لا يرتقي لأن يشكل حكمًا أن المقدّم على المستوى الفني، حتى لا أقول العلمي، المطلوب. فكثير من هذه الأعمال لا تخضع للعلم بقدر ما تخضع للفطرة بما تقدمه وما تقترحه وعلى اختلاف مستويات التلقي، وحتى لو كانت مليار مشاهدة فهذا لا يعني أننا أمام عمل جيد”
يحيى نديم: مدفوعة الأجر
الفنان المصري يحيى نديم أحد مؤسسي فرقة “عمدان النور”، يؤكد أن معظم حالات المشاهدة القياسية “مدفوعة الأجر، وهي لها شركات متخصصة بميزانيات ضخمة”. “بيلعبوها صح” يقول نديم، و”يستعيدون بأشهر قليلة المبالغ التي دفعوها التي قد تصل في بعض الأحيان إلى 50 ألف و60 ألف دولار، ويبدأون بحصد الأرباح”. المزيد من المشاهدات تعني، بحسب نديم، “المزيد من جمع المال على حساب كل شيء”
نديم يقول إن المطلوب أن “ننطنط ونرقّص على أي إيقاع محرّكين داخل البشر الغرائز البدائية”. وهو ما يفسّر، بحسبه، تفاعل الأطفال مع هذا النوع من الموسيقى ومن الغناء، فالأطفال، حتى الموهوبون منهم، “لا يرقصون، عادة ،على أي إيقاع كلاسيكي”. نديم يخلص إلى القول: “في الإيقاع ثمة بعد غريزي. الإيقاع أولًا، وأمّا النغم فهو الذي يحتاج إلى وعيٍ أعلى”
نديم يختم بالقول: “لا إنفاق في مصر على الفن الحقيقي، وبالتالي ينتشر كل ما نراه ونغرق فيه”
طارق الناصر: ثورة شبابية
من جهته يرى الموسيقي الأردني طارق الناصر مؤسس فرقة “رم” أن ما يجري على المواقع من تحوّل بعض الأغاني والفيديو كليبات إلى (ترندات) ساحقة، يعكس، بشكلٍ أو بآخر، رغبة شبابية بالتعبير عن وجهات نظرها والإشارة إلى وجودها، وبما يمكن المقاربة إليه بعبارة “نحن هنا”
إنهم، يقول الناصر، “يرغبون بوضع أنفسهم على الخريطة”، ويريدون إرسال إشارات بعينها تحمل في طياتها لفتة تضامن مع تجديد يجري على قدم وساق في غير صعيد ومستوى: في اللحن، أو على الأقل في الجمل اللحنية المقدمة، في الأجواء المصاحبة للحن والغناء، بما تعكسه بعض سرديات الكليبات من قضايا شبابية وإنسانية ساطعة التمرد واضحة الاختلاف
هؤلاء الشباب “يريدون أن ينبسطوا، ويعبّروا عن مشاعرهم من خلال آفاق موسيقية جديدة التفتقات، وعديدة اللمسات الخاصة بعالمهم وتطلعاتهم وصبواتهم، وهم، في هذا السياق، يعلنون ثورتهم”
وبدل أن ينخرطوا، تمامًا، يقول الناصر، “بالموسيقى الغربية وإيقاعاتها وتناغماتها ولغتها الصوتية الطبقية المقامية الدلالية الخاصة بها، بحثوا في موسيقاهم العربية عن بدائل ممكنة”، دون أن ينسى أن هذا لا يعني قوله بمصطلح “موسيقى بديلة” الذي يرفضه ويرى بعدم وجوده، فالموسيقى كما يراها “إرث تراكمي هرمي يستفيد جديده من قديمه ويبني عليه”
وحول أغنية “تلات دقات” على وجه الخصوص، يتبنّى الناصر قائد الفرقة التي حققت حضورًا محليًّا وعربيًّا ودوليًّا لافتًا، موقفًا إيجابيًّا يثني خلاله على عموم أجواء الأغنية: على بساطة الكلمات، وخصوصية صوت مغنيها، وملامستها الوجدان وعذوبة لحنها الذي يأخذ عليه أنه مأخوذ من لحن أميركيٍّ لاتينيٍّ، رائيًا أن أخذ لحن دون توافق وتراضٍ لا يجوز، وعلينا “أن نحترم قوانين الملكية الفكرية وأخلاقياتها”. الناصر لا يستبعد، إلى ذلك، وجود قدرات تسويقية قوية وراء هذا النجاح المتفوّق للأغنية. وكذلك وجود الفنانة يسرا في فيديو كليب الأغنية، وعدد من الفنانين الآخرين ممن قد يكونوا أسهموا بانتشارها. ويرى أن الملل من المطربين المكرّسين قد يكون أسهم، إلى ذلك، بالذهاب نحو مغنين شباب ومواهب واعدة وتطلعات طموحة يقودها أبناء جيل يقود أشرعة التغيير، وتقودها فرق تبحث لها عن مكان تحت الشمس
الناصر يرى أن الراب فرض نفسه شبابيًا وبشكل واسع لاحتوائه على محتوى تمرديٍّ عميق، واستخدامه كلمات مجردة خالية من التزويق الشعري والزخرفة الشكلية. وهو في نهاية المطاف “شكل من أشكال الموسيقى”
لا ينسى الناصر أن يشيد بعموم التجربة المصرية، قديمها وجديدها، على صعيد الموسيقى العربية والغناء العربي، ويؤكد وجود حركة موسيقية نشطة ومشعة بالحيوية والجدة، وهي، على مدار الساعة، جاهزة للعمل والإنتاج والتدفق. ويشير إلى توفّر “بنية تحتية مؤهلة في مصر لصناعةٍ موسيقية غنائية سينمائية واسعة”. وهو ما لا تنافس مصر فيه حاليًا سوى تركيا، وتحديدًا اسطنبول، حيث “الأمكنة الجميلة تنتج موسيقى جميلة” على حد قول الناصر
الناصر يختم بالقول: “التجديد ضروري.. مع المحافظة على القيم الموسيقية التي انطلق منها مطرب ما.. الإلغاء غير ممكن.. الموهبة حرز وتبقى موجودة ولها قيمتها. اللحن الجميل أزليٌّ وربّانيٌ، وهو يشكّل (حتّة) من جمالٍ وفن”