عدنان كزارة
كتب الأستاذ عدنان كزارة مقالا حول قصيدة (مواقف ومخاطبات)، قبل اثني عشر عاما تقريبا، حين كانت ثمانية مقاطع فقط، وقد أعاد نشره قبل أيام على صفحته في الفيسبوك
منذ البرهة الأولى للقصيدة يشمُ المتلقي الأنفاسَ الصوفية تضوع في ثنايا النص، وتتعملق عتبةُ العنوان في إحالتها إلى المُنجَز الصوفي في المصطلح والتجربة؛ ليجد المتلقي نفسه في مواقف ومخاطباتٍ بين مريدٍ وشيخِ طريقته
أوقفَني في بستان الوجد وقالْ
من ضلع الأنثى تبتدئ الأحوالْ
ويزداد تكثيف الحضور الصوفي مع هذه المفردة التي تُعدّ من أخصّ عوالم الصوفية (الأحوال) ليأخذ المتلقي أُهبتَه في التذوق والمشاركة. وباستخدام كلمة (الأحوال) الدالة على التطور الجدلي عدولاً عن مصطلح (المقامات) الدال على الثبات والاستقرار، تضع القصيدةُ نفسَها في فلكٍ حداثي يرتكز في وعيه الجمالي على التناقض، والدرامية، والأسطورة؛ لتصوغ رؤيتها الخاصة التي يتقاطع فيها التراثُ مع المعاصرة في أفق الحداثة. تتجلى الرؤية في الموقف من المرأة حين يُحيلنا مولانا العارفُ إلى حكمةٍ وجدانية تغايرُ موروثَنا عن أنَّ “المرأة خرجت من ضلع آدم” لتقول بأنَّ “الأحوال تبتدئ من ضلع المرأة”، فأيةُ أحوالٍ هذه التي تصدر عن جسد المرأة؟
لو أنَّ العارف يعرف حقاً
كان استلقى كالمجذوب
على سُرَّتها ثمَّ تلاشى في الموّال
ينفي العارفُ الصوفي عن نفسه صفةَ المعرفة الحقة؛ لأنه لم يستلقِ على سُرَّة الأنثى فيتلاشى في الموّال، ولكونِ الأسرار تكمن في السرَّة (نقطةِ الولوج إلى عالم الباطن) في الحدِّ الفاصل أفقياً بين منطقة اللذة الحسية وبروجِ التأمل العقلي، وجبَ على العارف أن يعيد اكتشاف الأمور بدءاً من السرَّة، فلا تحقُّقَ للجذبة الروحية والارتقاءِ إلى الملكوت الأسنى إلا من هناك، ولن يتمّ له ما أراد، بل لن تُفصح له الأنثى عن فلَكها المكنون إلا إذا كان ملمّاً بالحروفية، عارفاً بأسرار الألف، واللام، والميم، والنون، أسرارِ اللغة الصوفية التي تَمكَّن الشيخُ من بعض خفاياها، فراح يتمتم بالحروف كما فعلتْ أو كما علَّمتْه المرأة
بُنيت القصيدةُ على عدة مقاطع، وبدت في هيكليتها وحدةً عضوية يُسلِم كلُّ مقطعٍ منها نفسَه إلى مقطع تالٍ، في تصاعدٍ درامي تتوحَّد فيه الأحاسيسُ والانفعالات، وتتألق لغةُ المجاز في إيحائها وتوليدها للدلالات من البنية الجدلية للنص
كأنّي أخبطُ في
حلكٍ أبيضَ داجْ
أسقطُ من أعلاي
على حجرٍ مجروحْ
يتّكئ البنيانُ على توتُّر درامي يمنحه الإيقاعُ السريعُ لبحرِ (الخبب) بتفعلياته المَرنة (فعِلن فعِلن فعِلن فعِلن) التي تتقارب فيها الأوتاد والأسباب، مزيداً من خاصيّة التوتر، ويتساوق هذا الإيقاعُ السريع مع قلق الراوي الممثّل (الساردُ حين يكون أحد الشخصيات)، ومع تدرُّجِ الرؤيا في التشكُّل والتبلُّر على لسان شيخ الطريقة في شرحه الأحوالَ التي مرَّ بها لتلميذٍ لم يتعمَّق بعدُ أسرارَ الحروف، ولم يدركْ معنى “أن تتدلى امرأةٌ من سقف الروح وتتمدد فوق سريره، ثم تذوب؛ فلا يبتلّ برائحة التفاح، ولا يصحو من جسده المذبوح”. وتنهض مع الإيقاع موسيقا داخليةٌ تبلغ أعلى تجلٍّ لها في اختيار الرويّ المقيَّد (الساكن) الذي يدعُ سكونُه لجرسِ الحرف أن يبلغ مداه إلى الأذن، ثم يؤدّي الرِّدفُ (حرف المد قبل الرويّ) وظيفتَه في إكساب النفَس راحةً في الوقف يستشعرها من يقرأ النص على نحوٍ إيقاعيٍّ جميل
الرؤيا في القصيدة رغم طابعها الحدسي، وإيحاءاتها المعنوية تستند إلى صورٍ حسية
كانت رائحةُ التفاح
تسيل من الكلمات
وكنت أحسُّ بطعم الروحْ
الكلماتُ تسيل منها رائحة التفاح، والروحُ لها طعم، والنورُ ماء. صورٌ حسية تغصّ بها القصيدة، يوردها الشاعر بطريقة تراسل الحواس؛ ليعمِّق الإحساس لدى المتلقي، ويجعل ذائقته مَصهراً للحواس كافةً في كليتها ووحدةِ تأثيرها، حيث تتجلى الحداثة الشعرية في هذه الكلية التي يفرضها السياق والتي تنتج وحدة التأثير عبر جدلية التفاعل
التفاحُ يُحيل على الغواية الجنسية الأولى، ورائحتُه تسيل من الكلمات المكوَّنة من حروفٍ تتجسَّد فيها ماديّةُ الحواس وروحية المعاني أو تحسس المعاني. والمرأةُ حين افترَّت عن فلكها المكنون (ولا أتصورُه إلا فلكَ الجسدِ المفعم بالأسرار)، استيقظ الشاعرُ من حكمته البالية، وبكى من فرط الليمون الذي يملأ خياشيمَه، ويحول دون شمِّه لرائحة التفاحِ العابقة من الفلك المكنون. كان الشاعرُ/المريدُ بحاجةٍ إلى المعاملة، والمنازلة، والمواصلة على حدِّ تعبير الصوفية، أي: إلى الذوق، فالشرب، فالريّ؛ ولهذا أصغى إلى ما يقوله شيخه
خاطبَني وهو يبلّ يديهِ
بماءِ النورْ
يربِّت كالمحزونِ على جسدي
ويحوقلْ
من عطشٍ هذا أم من ديجورْ؟
يا بن أخي، قبضُ الريحِ
ولا جسدٌ مهجورْ
فما فائدة الجسد المهجور؟ أتنفعه الحكمة؟ إنه أشبهُ بكثيب من الرمال العطشى أو بكتلةٍ من ظلامٍ يستوطنها العفن
يقوم البعدُ الدرامي في النص على الصراع في نفس المريد، وقد كان من قبلُ صراعاً في نفس الشيخ قبل أن يهتدي إلى الطريق، ويذوق طعم التفاح، هذا الصراعُ تفرضه الأحوال التي يمرّ بها السالك (وهو في القصيدة الشاعر/المريد) أثناء المعاملة، والمنازلة سعياً للارتقاء إلى المواصلة (الكشف وحال الشهود)، وهو ارتقاء انفعالي حسي، غير أنَّ الأزمة لا تنفرج عن حلٍّ يهدِّئ نفسَ المريد التائهة الحائرة؛ لأنَّ الشيخ أوقفه في باب المرأة وقال
ما من أحدٍ يسكنُ فيها
إلا أوجعه الترحالْ
ما من أحدٍ يخرجُ منها
إلا صار إلى حجرٍ أو صلصالْ
فزاده حيرة وارتباكاً أو قلْ خوفاً ورهبة. السكنُ في المرأة وجع، والخروج منها فقدٌ للطبيعة البشرية وتحوّلٌ إلى حجر، تلك هي المأساة الوجودية، وتراجيديةُ البطل المعذَّب التي وسمتْ معظمَ شعر الحداثة على الصعيد الفردي، ومثلَّته هذه القصيدةُ في بعدها الصوفي، حيث شكّلت الرموزُ الصوفيةُ نموذجاً فنياً أو معادلاً موضوعياً للحالة النفسية والتجربة الشعورية المنبثقة عن وعيٍ جمالي حداثي، يتأدى في صورٍ فنيةٍ انفعاليةٍ تخييلية موحية، تمُتُّ بصلة قوية إلى الجمالية الشعرية لا إلى الموقف الفكريِّ المتذهِّن. إنَّ الإحالة على شكل التجربة الصوفية كان بمثابة المَركب الفني الذي استثمره الشاعر؛ لِما فيه من خصائص درامية، وإذكاءٍ للوجد والوجدان، وحمَّله رؤيتَه الفلسفية في النظرة إلى المرأة جسداً وروحاً، فهي منبعُ الأسرار (فقه الحروف)، وهي فلكٌ مكنونٌ تمسك بالمعنى حين تهبّ الريح
خاطَبني وهو يموتْ
حبلُ السرَّة أشبهُ بالملكوتْ
لا أعمدةُ الحكمةِ تمسكُ بالمعنى
حين تهبُّ الريحْ
ولا شجرُ اللاهوتْ
إنَّ الجوانب الفنية في القصيدة أوشكت أن تستأثر بالإمتاع مبنيا على التذوق الجمالي بدرجةٍ لا يختلف عليها كثرةٌ من القراء المتذوقين، وإذا كان من الجائز أخيراً أن أقوِّمَ الرؤيا التي صدرت عنها القصيدة من موقف معرفي لا إيديولوجي، ينفتح على الإنساني، ولا يتشبّث بالأفكار المسبقة أو يتعصّب لها، فإنَّ هذه الرؤية – حسب اجتهادي- لم تتعدَّ النظرةَ الشرقيةَ إلى المرأة في حسيّتها وماديّتها على الرغم من الالتواء في التعبير عن ذلك، والمماهاةِ بين الحسيِّ والروحيّ، في تجربة شخصية روحية، إذ كانت رائحةُ الحسيِّ هي الأقوى كرائحة التفاح أو أشدَّ نفاذاً، وحسبي أن أدلِّل على ذلك بهذا المقطع الذي حطَّتْ عنده القصيدة رحالَها، وبدتْ نبرتُه حاسمة قاطعة كأنه حكمةٌ أزلية أبدية
خاطبَني وهو يموتْ
حبلُ السرَّةِ أشبهُ بالملكوتْ
لا أعمدةُ الحكمةِ تُمسك بالمعنى
حين تهبُّ الريحْ
ولا شجرُ اللاهوتْ
قد تكون هذه الرؤيا مسوغة حين ننظر إلى القصيدة على أنها غنائيةٌ ذاتية فحسب رغم بعدها الدرامي، لكنّها تكون موضعَ نظر حين ننظر إليها على أنها نصٌ يسهم في تشكيل وعيٍ معرفي بقدرِ ما يسهم في تكوين وعيٍ جمالي حداثي أيضاً