1
ايام شبابنا، ونحن نحاولُ ان نكتبَ الشعرَ الذي لم نستمرَّ به طويلا، لم يكن امامَ الشعراء الا ان يتجهوا وقتَها اما الى الشعرِ الفرانكفوني والثقافة الفرنسية، واما الى الشعرِ الانكلوسكسوني والثقافة البريطانية، سوى قلةٍ من هؤلاءِ الشعراءِ، ومنهم طالب عبد العزيز مثلا، اختطَّتْ لها خطّاً مختلفا؛ فعادت الى الكتاباتِ الشذريةِ العربيةِ القديمةِ للمفكرين والصوفيين وللحكواتيين ومنهم الجاحظِ، وها نحنُ نجد ُ اليومَ تجربةً أخرى تحاولُ ان تترسّمَ المتجَهَ ذاتَهُ للكتاباتِ العربيةِ القديمةِ، هذه التجربةِ هي المدونة الشعريةِ لدلال جويد التي نعتقد نها تناصت مع المدونة الشذرية للصوفيةَ والعرفانيةَ؛ فتمثلت عندها الياتُهم بالكتابة بما يلي:
أولا، معماريةَ ديوانِها (كيف تدجِّنُ غربةً) حيث تبني دلال جويد كتابَها بمعماريةٍ تقسّمُهُ الى عددٍ من العناوينِ أسمتها (كتاب)ـا، تبتدئُ من (كتابِ الحبِ) وتنتهي بـ(كتابِنا) وبذلك يتشكلُ ديوانُها (كيف تدجن غربة) الى دائرةٍ مغلقةٍ تشبهُ (الحلقةَ) التي تتصلُ نهايتُها (كتابُنا) بأولِها (كتابُ الحبِّ) مرورا بـ(كتابِ الحربِ) -يندمج الحبُّ والحربُ، عند العراقيين القدامى، بإلاهة واحدة هي عشتار.
“منذ قرون وانا عازمة على ان اهزم الحرب بالحب”(تلاحقني في الحلم دبابة) ص20.
يحيلنا تقسيمُ الديوانِ الى كتبٍ الى ذات المرجعيةِ الصوفيةِ في تأليفِ الكتبِ، فقد قسّمَ محمد بن عبد الجبار بن الحسن البصري النفري، كتابَ المواقفِ بنفسِ الطريقةِ الى: (موقفِ العزِّ) و(موقفِ القربِ) و(موقفِ الكبرياءِ) و(موقفِ انت معنى الكونِ) و(موقفِ قد جاءَ وقتي) و(موقفِ البحرِ) …الخ، بينما جاءتْ اقسامُ (كتابِ المخاطباتِ) مرقمةً عدديا.
ويحيلُنا هذا القسيم الى كتبِ المراجعِ الدينيةِ التي تُطبعُ مستقلةً: (العباداتِ) و(المعاملاتِ) رغم الافتراضِ بكونها كتابا واحدا. وحين نقولُ انها تحيلُنا الى النصوصِ الصوفيةِ والعرفانيةِ فذلكَ يعني بالنسبةِ لنا تقنياتِ الكتابةِ أكثرَ مما تكون اقتباسا للموضوعات.
ثانيا، ان تقنيةَ الكتابةِ الشذريةِ التي تتّبعُها، وخاصة في نصوصِ: (في مديحِ الشوقِ) و(كتابِ الشوقِ) الذين فيهما، وفي عدد اخرَ كبيرٍ من النصوصِ، تترسمُ خطى تكنيكِ الكتاباتِ الصوفيةِ ولكن بصياغاتٍ وموضوعاتٍ حديثةٍ، وذلك راجعٌ الى التصاقِها بالحياةِ الحديثةِ وكتاباتِها ومنها تأثراتُ اشتغالِها في الصحافةِ ربما، مما فرضَ عليها إعادةَ النظرِ باللغةِ بهدفِ تحديثِها.
ان تجنبَ تقطيعِ النصِ الى ابياتٍ وجعْلِها قطعةً واحدةً على طريقةِ غالبيةِ شعراءِ الشذراتِ، منذ النفّري والتوحيدي، وانتهاءً بدلالِ جويد ذاتِها، هي طريقةٌ تبدو لنا محاولةً للإيغالِ في توكيدِ (نثريةِ) بمعنى (لا وزنيةِ) قصيدةِ النثرِ، مما يعني الابتعادَ، حتى شكلا، عن الشعرِ الموزونِ بشكلِهِ (الحرِ) الذي اتبعهُ السيابُ ونازك الملائكة.
2
نشعرُ ان التجربةَ الشعريةَ لدلالِ جويد هي ناتجٌ اشتغالٍ وكدٍّ وليس صفَّ جملٍ جميلةٍ، فمثلا، قد يشكّلُ التكرارُ ربما عودةً تثاقفيةً او ربما جينالوجيةً للتكرارِ في الشعرِ العراقيِّ الرافدينيِّ القديمِ، حيث نجدُ مثلا جملا ومقاطعَ تعادُ مرارا وتكرارا في (نشيدِ الاناشيدِ) او (نشيدِ الانشادِ)، ولكنه بالتأكيدِ عند الشاعرةِ دلال جويد ناتجُ كدٍّ ودراسةٍ واعية.
نموذج رافديني:
“(كلمةُ انليل) انْ هي مسّتْ السماءَ؛ فهذا هو الفيضُ اذ تنسكبُ من الأعالي الامطارُ الغزيرةُ، ولئن مستْ الأرضَ؛ فهذا هو الرخاءُ، فمن الأسفلِ تطفحُ الثرواتُ. كلمتُكَ هي النباتاتُ، كلمتُكَ هي الحبُّ، كلمتُكَ هي الفيضُ: حياةُ البلادِ جمعاء”.
نموذج من نوال جويد: “آمنتُ بغيابِكَ، آمنتُ بحبِكَ، بعناقِهِ القصير. آمنتُ بكَ وانتَ تودعُني وتوجِعُني”. (كتابُ الشوق)
ومن هنا نستنتجُ ان ما يميزُ التكرارَ عند دلال جويد هو انه لا يتحققُ بطريقةٍ مباشرةٍ، فاعتبرُهُ معالجةً حديثةً لآليةِ التكرارِ الرافدينيةِ القديمة.
3
ان الكتابةَ بشكلِ الشذراتِ التي تتبعُها دلال جويد حتّمَ بناءَ النصِّ من بؤرةٍ غالبا ما تكون مكثفةً (اقتصاديا)؛ فتعملُ على توليدِ استعاراتٍ وانزياحاتٍ لتتحولَ الشذرةُ في جوهرِها الى استعارةٍ كبرى، وهي تتصف بالتفردِ والتذويتِ والاستغوارِ النفسيِّ، وربما الشطحِ الصوفيِ بدرجةٍ طفيفةٍ وهي ليستْ بالموضوعاتِ ولكنْ بالصياغةِ وتقنيةِ الكتابة:
“الحبُّ ليس ترفا، فهو جهادُ الراغبِ بالوصلِ، ودموعِ العاجزِ عن الفراقِ، ومكابرةِ الخائفِ من الفقد. هو حمامةُ القلبِ التي تطيرُ مع النظرةِ وتحطُّ على كفِكَ حين سلام. انه شعرُ المجانين الذين تاهوا بهِ، وهو بحرُ نجاتِنا من شِباكِ التجاعيد” ص7.
4
ان الاستدراكَ الذي سادَ مؤخرا عند بعضِ الشعراءِ، ويحدثُ حين يستدركُ الشاعرُ على نفسِهِ بـ(بلْ) او (أعني) او (اقصدُ) فهو برأينا ايغالٌ في (اليومياتيةِ)، ويشكّلُ ما يماثلُ (الصدمةَ) (shook) التي تعطلُ تنامي النصِ النثري، وتخلق ارباكا في عملية التلقي.
“صندوقُ اسرارِنا المليءُ بحلوى الجداتِ، واعني الاغنيات”. (هل الحب ترف، ص7)
“الحب ورْدتُنا، أعني شوكُنا، سلامُنا، اقصدُ كلَّ خساراتِ الحروب” (ارجوحة الأسئلة، ص8).