“زعفرانة” لهدى النعيمي: غواية الغياب واستدعاء التاريخ الشخصي والوطني

         رواية “زعفرانة” للكاتبة القطرية هدى النعيمي، الصادرة عن دار الوتد – قطر في طبعتها الأولى عام 2024، تستكشف فيها أبعادًا اجتماعية وتاريخية بأسلوب سردي مشوق، تتبع فيه الكاتبة مسار شخصيات عاشت في بيئات متغيرة تعكس تحولات المجتمع.

دكتورة هدى النعيمي الأكاديمية في الفيزياء النووية، والتي  عرفتها أديبة تكتب القصة ومنها “المكحلة” و”أنثى” بالإضافة إلى كتابها قمط يمكن تصنيفه بالسيرة الذاتجمعية” وهذا مصطلح اقترحته، فيه تحكي عن كل ماصدر من  قصص الأطفال والمجلات وتلك القصص البوليسية الشهيرة التي شكلت  ذاكرة الطفل العربي، أحببت هذا المشروع النادر في التناول، وسبق إصدار الرواية موضوع المقال كتابها حين يبوح النخيل وأيضا ينضوي  تحت السيرذاتي” وفي كل أعمالها السابقة وهذه الرواية سنجد أنفسنا مشدودين إلى أسلوبها السردي الشيق.

وفي زعفرانة، نقف أمام عملٍ سردي يشتبك مع طبقات متعددة من الذاكرة والهوية والانتماء، حيث تتقاطع الحكاية الشخصية لامرأة غامضة اختفت عن قريتها عقودًا، مع التاريخ السياسي للمنطقة، لا سيما من خلال الإشارة إلى حرب ظفار التي مثّلت، في سبعينيات القرن العشرين، منعطفًا في الوعي الخليجي والمفاهيم الوطنية. الرواية تندرج ضمن ما يمكن تسميته بـ”سرد الذاكرة”، حيث تنبثق الحكايات من ظلال الماضي، وتُروى بعيون متعددة، فيتحول السرد إلى فسيفساء من الأصوات والوقائع والانفعالات.

         تنطلق الرواية من شخصية “مريم”، حفيدة زعفرانة، التي تحاول أن تكتشف ما حدث لجدتها الغامضة التي اختفت في شبابها وعادت بعد أربعين عامًا امرأةً صامتة، محطّمة، تسكن بيت الزعلان في قرية الذخ. من خلال تتبع مريم لخيوط الحكاية، تنتقل الرواية بين الماضي والحاضر، بين صوت زعفرانة كطفلة وشابة، وصوت الحفيدات والنساء اللواتي حملن سردية الأنثى في مجتمع تقليدي خاضع لقوانين العيب والتوجس من كل ما هو خارج عن المألوف. زعفرانة، الطفلة الذكية، المحبوبة، التي نشأت على البحر، تُغرم بشاب غريب يُدعى عبيد، وتختفي معه في ليلة غامضة، فيُشاع أنها اختُطفت من الجن، أو هربت، أو ماتت. هذه الحكاية تنمو لتصبح أسطورة شعبية، تُغنى، وتُروى في المجالس. لكن المفاجأة أن زعفرانة تعود لاحقًا، بلا صوت، بلا تفسير، لتسكن بيتًا على الهامش، وتثير التساؤلات.
  تطرح زعفرانة مسألة الهوية عبر شخصيات تتنقل بين أمكنة مختلفة وتتعامل مع إرثها الثقافي والاجتماعي بطرق متباينة. منذ الصفحات الأولى، نجد أن الهوية ليست كيانًا ثابتًا، بل هي في حالة تشكُّل دائم، خاصة حينما تواجه الشخصيات تحولات اجتماعية أو سياسية كبرى. نجد فيها البحث عن الجذور، وتطرح أسئلة حول الانتماء ومعنى أن يكون الإنسان جزءًا من مجتمع معين، سواء كان ذلك من خلال العائلة، القبيلة، أو الوطن.

الرواية تعتمد على ثنائية الداخل والخارج، إذ تعكس الشخصيات حيرة دائمة بين الوطن الذي تنتمي إليه بالدم والتاريخ، والمكان الذي تجد فيه ذاتها بشكل أكثر حرية. وهذا التوتر بين الانتماء والبحث عن الذات هو ما يجعل الهوية في زعفرانة أقرب إلى رحلة مستمرة.

الشخصيات  الرئيسة في الرواية والتي  تركت اثراً  خاصاً في نفسي، هي البطلة الرئيسة :

زعفرانة: وهي المحور الذي تدور حولها الرواية، تجسيد لأنثى لم تطق القالب الاجتماعي المفروض عليها، فتمردت، وغادرت، وعادت وقد أكلتها الغربة، والخذلان، وربما الحرب. صوتها في الرواية متشظي، كأنما اختارت الكاتبة أن تترك لنا  تلك الومضات من روحها فقط، فتبقى غامضة حتى في ظهورها الأخير.

مريم: الحفيدة التي تحمل الحس السردي، والتي تمثل الجيل المعاصر الساعي إلى فهم ما جرى. من خلالها يتم تجميع شظايا الحكاية، وتُستعاد سيرة زعفرانة.

عبيد: الغريب، الغامض، الشاعر، الذي يحمل في ذاته تناقضات البحر واليابسة، العاشق الثائر، والذي تتقاطع قصته مع التمرد السياسي المرتبط بحرب ظفار.

1. شخصيات النساء في القرية: من “أم يعقوب” إلى “الحجية فاطمة”، يمثلن حضورًا قويًا لسرد النسوة، الذي يتناوبن فيه على تفسير اختفاء زعفرانة وتأويل حياتها وفقًا للمعايير الاجتماعية.

توظيف حرب ظفار في الرواية

من أبرز ملامح هذه الرواية هو إدراجها البارع لحرب ظفار، وهنا لابد أن تشد القارئ المحلي المطلع على تاريخ المنطقة أو العربي،  حيث  يكشف السرد الفني  كيف يمكن للحروب سواء كانت صغيرة أو كبيرة ستترك اثراً على الإنسان، لهذا لم يتم طرحها   كحدث تاريخي موازٍ، بل  عامل فعّال في مصير الشخصيات. عبيد، الذي يغيب مع زعفرانة، يُفترض أنه شارك في تلك الحرب التي اندلعت في عُمان منتصف الستينات واستمرت حتى منتصف السبعينات. هذه الحرب التي خاضها اليساريون ضد النظام الملكي، وانخرطت فيها قوى إقليمية ودولية، تتحول في الرواية إلى خلفية سياسية ثقيلة تُسهم في تشكيل وعي زعفرانة ومأساتها.

زعفرانة لا تُختطف من الجن كما يُشاع في القرية، بل من التاريخ. تغيب في خضم التمرد والحرب، وتعود منهارة، كأنها دفعت ثمنًا باهظًا لاختياراتها. وكما تقول زعفرانة نفسها في لحظة مكاشفة:

«لم أكن أعرف سوى رائحة البحر عندما خرجت مع عبيد من الذخيرة… لكني لم أكن أعرف الجبل، وقسوة الجبال الصخرية… كنت غريبة… لم أعبأ بالشفاه الممطوطة… أحببت كل ما قدمه لي عبيد من لوازم الوجود هنا…»
هذا الاعتراف المكثف يحمل بين كلماته تشكّل هوية جديدة، مشروطة بالقسوة والتحوّل.

هذا التوظيف تتجاوز  فيه الرواية المحلي إلى السياسي، ويجعل من مصير المرأة انعكاسًا لتقلبات الوطن، حيث الحلم بالحرية كثيرًا ما يتحول إلى عبء، والتمرد إلى صمت.

الأسلوب والبنية السردية

استخدمت الكاتبة هدى النعيمي  بنية غير خطية، تعتمد على التنقل بين الفصول المتعددة ذات العناوين الإيحائية، مثل: “زعفرانة وخيوط الحكاية الظفارية”، أو “زعفرانة تبحث عن زعفران”، حيث تُلعب اللعبة السردية بين الواقع والأسطورة، بين الرمز والحقيقة. كما أن تعدد الأصوات في الرواية يجعلها أقرب إلى الحكاية الشفوية الجماعية، التي تتناقلها النساء، فتكتسب شرعية اجتماعية وإن كانت غير دقيقة تاريخيًا.

اللغة شاعرية دون أن تقع في الابتذال، وهناك ميل واضح إلى تبني رؤية نسوية، من خلال كشف القمع الذي تعرضت له البطلة، وحرمانها من حق الاختيار والتعبير، وتجريم الحب والعشق.

 رواية زعفرانة  قدمت سيرة امرأة عادت من الغياب،  من خلال  سيرة مجتمع كامل يفضل الأسطورة على الاعتراف بالخيبة، ويستبدل السؤال بالصمت.
وتُبرز رواية زعفرانة كيف أن الهوية ليست قالبًا ثابتًا، بل هي عملية معقدة تتأثر بالزمان والمكان والأحداث الكبرى مثل الحروب. لهذا استدعاء حرب ظفار،  لم يكن الكلام عن صراع عسكري، بل عن معركة أعمق تتعلق بمن نكون وإلى أين ننتمي. وبينما تبحث الشخصيات عن إجابات، تدعونا الرواية نحن أيضًا لإعادة التفكير في هويتنا وتعقيداتها المختلفة.

هدى النعيمي كتبت رواية عن الحب، والخذلان، والحنين، والاستلاب السياسي. وأعادت، بطريقة سردية سلسة، تركيب جزء من الذاكرة الخليجية المغيبة، فاستدعت ظفار، واستخدمتها كمرآة لانكسار الأنثى، وكأنما الحرب هناك كانت على جسد زعفرانة أيضًا.
هذا العمل يستحق أن يُقرأ لأنه  سردية أدبية وسياسية، تُسائل العلاقة بين الحلم والواقع، بين الأسطورة والتاريخ، وتمنح للمرأة الخليجية صوتًا، حتى وإن ظل هذا الصوت مُحاطًا بالغموض.
صوتٌ يشبه صوت دلال التي:

«تشير نحو البحر وتقول للأطفال: إنهم من هناك، من وراء البحر، من الجبل الذي لا يظهر…» في  نهاية الأمر لايمكن للقارئ إلا أن يتأثر
بهذا الصوت النسوي العابر للحدود والجغرافيا، يستبطن في عمقه رسالة الانتماء، والحنين، والحفر في الجذور.