(1)
يعد “طه حسين” (1889-1973م)، واحدًا من أبرز رواد الفكر التنويري في مصر والعالم العربي، في العصر الحديث، فمع بداية عشرينيات القرن المنقضي وثلاثينياته، دعا إلى مشروع فكري ثقافي نهضوي حديث، يرقى بالأمة المصرية، على الصعيد السياسي والاجتماعي والثقافي والإبداعي، وذلك عبر فكر ثوري واعٍ، يهدف إلى تحطيم التقاليد الجامدة والطبقية المجتمعية، والعيش تحت سطوة الماضي والأفكار اللاعقلانية، حتى تقام الدولة المصرية الحديثة.
وقد تأثر في ذلك، بمذهب العقلانية، الذي جذّر له أبو الفلسفة الحديثة في أوروبا “رينيه ديكارت” (1596-1650م)، في القرن السابع عشر، الذي امتد أثره في عصر التنوير والعقلانية في القرن الثامن عشر، على يد “فولتير” (1694-1778م)، وجان جاك روسو (1712-1778م)، وديفيد هيوم (1711-1776م)، وإيمانويل كانط (1724-1804م) وغيرهم، وهو ما أسهم – بشكل جلي– في الثورات الاجتماعية والسياسية في أوروبا، طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ مثل الثورتين الفرنسية والأمريكية، وحركات التحرر في أمريكا اللاتينية، مما أسفر عن قيام الدولة الحديثة في الغرب.
وتجلى هذا المنظور الفكري التقدمي المحفز على التثويرية، فيما خلفه “طه حسين” من منجز فكري ونقدي وإبداعي، وهو ما أثار حفيظة الاتجاه المحافظ، أمثال” مصطفى صادق الرافعي، والخضر حسين، ومحمد لطفي جمعة، والشيخ محمد الخضري، وغيرهم”، لاسيما بعد صدور كتابه “في الشعر الجاهلي” (1926م)، الذي كان من أسباب اتهام “طه حسين” بالتغريب؛ لذا يقول في تمهيد هذا الكتاب:
“وأنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قومًا، وشق على آخرين فسيرضى هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة، وزخر الأدب الجديد”( ). وهذا ما جعل “العقاد” (1889-1964م) يقول عن “طه حسين”: “إنه رجل جرئ العقل مفطور على المناجزة، والتحدي فاستطاع بذلك نقل الحراك الثقافي بين القديم، والحديث من دائرته الضيقة التي كان عليها إلى مستوى أوسع وأرحب بكثير”( ).
وفقًا لهذا السّياق الفكري، يأتي الخطاب الروائي لطه حسين، راصدًا للسائد الثقافي والاجتماعي، معبرًا عن المسكوت عنه في واقعنا المعيش في مصر، فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، لا سيما القضايا المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، كالفقر، والحرمان، والجهل، وحرية المرأة، التي سبقه إليها “قاسم أمين” (1863-1908م) في كتابيه “تحرير المرأة” (1899م)، والمرأة الجديدة (1951م).
وقد جُسّد هذا عبر خطاب سردي يتسم بالواقعية الاجتماعية، في مجمل إنتاجه الروائي مثل؛ “الأيام 1929، دعاء الكروان 1934 (محل الدراسة)، أديب 1935، الحب الضائع 1942، أحلام شهرزاد 1943، شجرة البؤس 1944، جنة الشوك 1945، المعذبون في الأرض 1949، وغيرها”. وعلى هذا، تأتي هذه الدراسة لرواية “دعاء الكروان” كنموذج تطبيقي للسّياق السّردي عند طه حسين.
(2)
يأتي الخطاب السّردي لرواية “دعاء الكروان”( ) 1934م، مقتحمًا المقموع والمسكوت عنه، في حياة المرأة الريفية في صعيد مصر، في النصف الأول من القرن العشرين، وما تعرضت له هذه المرأة من صراع حاد، مع سلطة الأفكار والقيم والعادات الموروثة السائدة، التي خلّفت القهر والفقر والحرمان والجهل، في ظل سلطة مجتمعية بطريركية قاسية، لم يكن للمرأة دور في بنائها وتكريسها، في فترة الأربعينيات؛ وهو ما انتقل به السّياق الروائي من هامش الواقع، إلى متن النص ومركزيته، عبر سياق ينتمي للواقعية الفنية، ذات الصبغة الاجتماعية النفسية، وهو ما يطرحه “هنري جيمس” في قوله:
“… إن المبرر الوحيد لوجود الرواية هو أنها تحاول بالفعل تصوير الحياة..” ( ) وعلى هذا تأتي واقعية “طه حسين” فى مرحلة وسطى، بين “زينب” محمد حسين هيكل 1914م، وواقعية نجيب محفوظ في “القاهرة الجديدة” 1945م.
وفق هذا السّياق، تنطلق شعرية هذه البنية الروائية، عبر عنوان يمثل عتبة مركزية، لها سلطة نصية، تكثف المتن الروائي، وتسهم في شعريته، بوصفها نواة سيميولوجية حاملة لجينات النص، ومفتاحًا تأويليًا( ) يطرح سؤالًا ضمنيًا يجيب عنه السياق الروائي؛ حيث يأتي العنوان مجسدًا لبنية خبرية مضافة / دعاء الكروان، متسقة مع الدلالة الكلية للنص، التي تتمحور حول موقف المرأة الريفية / آمنة من واقعها القروي الصعيدي القاسي، الذي قهرها ولفظ أسرتها وقتل أختها؛ لذا أسند الدعاء الذي يمزج الأمن والدعة بالحزن، إلى الكروان، الذي أضحى شخصية محورية، ومرآه لذات الشخصية المحورية آمنة، تفضي إليه بمأساتها، وما يمور بداخلها من مشاعر وأفكار، منذ أكثر من عشرين عامًا، فهو المحفز لها على البوح، الذي انقطع مع واقعها الريفي بثقافته التقليدية القاهرة للأنثى؛ لذا فهي تناجيه: “لبيك، لبيك أيها الطائر العزيز، إنا لنلتقي كلما انتصف الليل منذ أعوام وأعوام فندير بيننا هذا الحديث، أفتدعني أقص أطرافًا منه على الناس لعلهم أن يجدوا فيه عظة تعصم النفوس الذكية من أن تزهق والدماء البريئة من أن تراق؟!”( ) /الرواية/ ص12.
3))
يتشكل مسار الفعل السَّردي لرواية “دعاء الكروان”، عبر إطار سردي داخلي، يهيمن فيه السارد الذاتي على جميع فصول الرواية الخمسة والعشرين، وتظل سلطة ضمير الحاضر/ أنا المؤطر الرئيسي لبرنامجها السردي.
حيث تسرد الشخصية المحورية الساردة، الفتاة الريفية آمنة، تجربتها المأساوية، في قرية (بني وركان)، بالجبل الغربي، في صعيد مصر، فترة الأربعينيات، كاشفة عن سلطة منظومة القيم القاسية الموروثة، المفعمة بالخشونة والجهل والفقر والقهر للمرأة وغيرها، ممن يفكر في أن يحيد عنها؛ لذا تنطلق آمنة بالفعل السردي من وسط الأحداث، وهو ما جعل سياق الرواية يرتبط بسياق الملحمة في أسلوبها المسمى ” فى قلب الأحداث” In Mediace res؛ الذى فيه تنطلق الملحمة من وسط مجرى حياة الأبطال، ثم تمضي في تركيزها على بطل واحد(7):
” لم يكن يقدر أني سألقاه قائمة باسمة حين أقبل إلي في ظلمة الليل يسعى كأنه الحية أو كأنه اللص، ولكنه لم يكد يبلغ باب الغرفة ويتبين شخصي ماثلًا في وسطها وعلى وجهه ابتسامة شاحبة كأنها ابتسامة الأشباح، حتى أخذه شيء من الذعر فتراجع خطوات ثم قال في صوت أبيض جعل يأخذ صوته الطبيعي قليلًا قليلًا: ماذا! ألا تزالين ساهرة إلى الآن؟ أتعلمين متى أنت من الليل؟ قلت: لقد جاوزت ثلثيه وما كان ينبغى لي أن أنام قبل أن ينام سيدي فما يدريني لعله يحتاج إلى شيء…” ( / الرواية/ ص11.
ثم تعود الشخصية المحورية الساردة إلى ماضي التجربة، عبر الاسترجاع التذكري والاستبطان، حتى تسبر أغوار هذا الواقع التراجيدي، الذي مارس سلطته الجماعية القهرية على حرية الفرد، فبمجرد أن صرع أبو آمنة، ضحية لشهوة من شهواته الآثمة ؛ فـ”… لم يكن صاحب حشمة ووقار وسيرة حسنة؛ إنما كان زير نساء يحب الدعابة والمجون….”/(9) الرواية /صــ15؛ تنكرت القرية لهذا العار، وأكرهت الأم زهرة وابنتيها؛ هنادى وآمنة، على الرحيل وعبور البحر، والاندفاع في أرض الريف، بلا سند ولا ركن يأوين إليه، “لقد انكرتها الأسرة وجفاها الأهل، ونفتها القرية، وأصبحت وحيدة تعول ابنتين بائستين…”/(10)الرواية/صــ29. ومن ثم؛ تحرك مصيرهن بالضرورة، خضوعًا لسلطة هذه البيئة الذكورية القاسية، التي انتقلت بحركة السرد من قهر القرية (بني وركان) في الغرب، إلى غواية المدينة في الشرق،”… هذه المدينة الواسعة ذات الأطراف البعيدة والسكان الكثيرين، والتي تشقها الطريق الحديدية نصفين…” (11)/الرواية/صصـ20-21. ويقطنها الموظفون والرجال الأثرياء الذين تشتد حاجتهم إلى الخدم؛ وبذلك انتقلت آمنة وأمها وأختها الكبرى هنادي، من حياة الأسرة المستقرة في القرية، إلى حياة الخدم، ومن ثم انتقل صراع الشخصيات، من سلطة المجتمع القروى، إلى طبقية المدينة المنفتحة؛ حيث”……..انقضت أيام قليلة ، ولكنها ثقيلة كانت أمنا تدور فيها بنفسها وبنا على البيوت تعرض نفسها، وتعرضنا للخدمة كما تعرض الإماء على السادة “(12)/ الرواية/صـــ23 .
على أن هذا الانتقال الزمكانى، لآمنة وأمها وأختها، يضعنا حيال ثلاثة أنماط مركزية لشخصية المرأة في طوايا السياق السردي للرواية؛ أولها النموذج التقليدي الخاضع، الذي يعيش دائمًا في نوستالجيا المكان وثقافته، الذى لم يستطع أن يتمرد ولو جزئيًا على السلطة المجتمعية؛ مثلما نجد في شخصية الأم زهرة، التي تجسد الثقافة التقليدية المنغلقة، كقرية (بني وركان)؛ حيث تقول لآمنة، في لغة حوارية، تجسد ثقافتها التقليدية، “… فإن المرأة لا تستطيع أن تعيش، ولا أن تأمن، ولا أن تستقيم أمورها إذا لم يحمها أب أو أخ أو زوج. قلت: فليس لنا أب ولا أخ ولا زوج. قالت بل لنا من يحمينا، وقريتنا التي نفينا عنها أحق بنا ونحن أجدر أن نعود إليها، ولئن بلغناها ليعلمن الذين جفونا ونفونا أن من العار أن تنفي الأسر نسائها وكرمائها، فالمرأة عورة يجب أن تستر، وحرمة يجب أن تراعى، وعرض يجب أن يصان”(13) /الرواية/صـصـ43-44.
ويتمثل النمط الثاني، في الأخت الكبيرة (هنادي)، التى حاولت أن تتمرد جزئيًا، على سلطة الثقافة التقليدية، فمارست حريتها في الحب، دون وعي ولا علم؛ حيث أحبت سيدها مهندس الري، الذي أطاح بعذريتها، فلم تلق غير الموت، على يد خالها ناصر، وثقافته الذكورية القاسية، بعد أن أبلغته الأم بالأمر؛ لذا تقول هنادي لأختها الصغرى آمنة “إياك أن تفعلي ما فعلت أو تخدعي أو تدفعي إلى مثل ما دفعت إليه. إنك إن تفعلي تري نفسك في مثل ما ترينني فيه الآن من الجزع والهلع، ومن اليأس حتى من رحمة الله، ومن القنوط حتى من روح الله الذي لا يقنط منه إلا الكافرون”(14) /الرواية/صــصــ35/36 .
وهناك النمط الشهرزادي، الثوري المتمرد، الذي يمتلك قدرًا من الثقافة والمعرفة ورجاحة العقل، وتجسد ذلك في شخصية الابنة الصغرى آمنة، التي تمثل “… نمطًا ثوريا للمرأة التي تمردت على القالب الأنثوي المتوقع في طبقتها،… لقد اتسمت بالمغامرة، ومن ثم رفضت الدور الأنثوي المتوقع في مثل طبقتها،…”(15)؛ حيث تسلحت آمنة بالقراءة والثقافة من قبل “خديجة”، ابنة الطبقة المتوسطة في بيت المأمور، ” أين القراءة مع خديجة ، وأين القراءة منفردة، أين هذه الكتب العربية وهذه الكتب الفرنسية التي كنت أنفق معها أكثر النهار وشطرًا من الليل قارئة أو متحدثة عما قرأت أو متمنية لاستئناف القراءة ؟…” (16) / الرواية/ صــ164؛ وعلى هذا تحول مصير الشخصية الساردة من البراءة والانغلاق، إلى العقلانية، والتراكم المعرفي، الذي منحها ثقة التمرد على سلطة قريتها، وبطريركية خالها ناصر، الذي أعادها مع أمها إلى السلطة الموروثة، فأطاحت بها، وقررت الرحيل منها، والعودة إلى المدينة فى الشرق.
“…وماذا أصنع في تلك القرية، وأي حياة تهيأ لى فيها!؟ كلها شظف وخشونة، وكلها جهل وغفلة، وكلها رجوع إلى ذلك الطور الأبله الذي جعلت أخرج منه قليلًا قليلًا حتى امتزت من أمي وأختي وأخذت أشعر أنني أحسن منهما فهما للحياة، وأصدق منهما حكمًا على الأشياء ،…”(17) /الرواية/صــصـ72-73.
فهذا التمرد على قبضة سجن سلطة الجهل والقهر، يمثل نوعًا من الإيمان بقيمة الحرية التي جربتها آمنة ورأتها في بيت المأمور، وتريد أن تنغمس فيها مهما كلفها هذا من مرارة:
” نعم إني لأراني في هذه الطريق وحيدة شريدة لا أملك إلا نفسي الضعيفة البائسة، وإلا جسمي النحيل الضئيل، وإلا ثيابا بالية أو كالبالية، وأنا مع ذلك لا أحفل بما تركت ولا بمن تركت، ولا أسأل عما أنا مقدمة عليه من الأمر، ولا عمن أنا مقبلة عليهم من الناس، إنما هو الهيام في الأرض والسكر بهذا الشراب الخطر الذى نسميه حب الحرية والذي يكلفنا أحيانا من أمرنا شططا…” (18)/ الرواية/ صـ107.
ولم يقتصر الوعي المتجاوز لدى الشخصية المحورية آمنة، عند حدود هزيمة ثقافة قريتها السلطوية؛ بل تجاوزت ذلك، بما تمتلكه من مكر وكيد أنثوي، إلى إقامة صراع هادئ مع مجتمع المدينة الطبقي، حتى تنتقم من هذا الجنوح الشهرياري المغتصب، وتثأر من مهندس الري، الذي كان سببًا في موت هنادي في ذلك الفضاء الواسع؛ لذا تقول: “… فقد خلا الجو لي في المدينة وأصبح من الممكن أن تتصل الأسباب بيني وبين هذا المهندس الشاب، وأصبح من الممكن بل أصبح مما لابد منه أن يكون الصراع بينه وبيني، فيعلمن بعد وقت قصير أو طويل أذهب دم هنادي هدرًا أم لا يزال على هذه الأرض من هو قادر على أن يظفر له بالثأر ويشفي نفسه بالانتقام ..” (19)”/الرواية/ صـــــ167.
لذا وظفت هذه الذات القادرة / آمنة / مفردات صراعها (الصراع، الثأر، الانتقام) ضد هذا الشهريار، بأن أفسدت خطبته لمعلمتها الأولى خديجة ابنة المأمور، وكأنها ترد لها الجميل، وتحميها من هذا المغتصب،”… كنت مدفوعة إلى إفساد هذا الأمر الذي يدبر، ومنع الأسباب أن توصل بين خديجة وبين هذا المهندس الشاب الذي كان لأختي منذ حين والذى يجب أن يكون لي بعد حين، كأنما ورثته عنها بعد الموت!” (20) /الرواية/صـــ143.
ويحسب لهذه الفتاة الساردة، أنها وصلت إلى درجة كبيرة من الوعي والحكمة، للوصول إلى هدفها / بيت مهندس الرى؛ حيث تجاوزت دهاء أصحاب الخبرات، من جنسها / زنوبة المرابية صاحبة التاريخ الحافل بالخطوب والأحداث، وخضرة الدلالة التي لم تقل خطرًا عن زنوبة، ونفيسة العرافة، التي كانت لها صلة قوية بالجن والشياطين، فضلًا عن اختراقها للخادمة سكينة الخادمة في بيت المهندس، التي تمثل امتدادًا لهنادي في بيت هذا المغتصب؛ ولهذا تقول آمنة في حوارها مع زنوبة :” وأنا أسمع منها وأبسم لها وأرفق بها، فلا أنبئها بأني قد دبرت لها اليوم تدبيرًا، وأعددت له إعدادًا، واشتريته بالمال، وانتظرت مقدمه واثقة بأنه سيقدم، مطمئنة إلى أنه سيحين. ولم أظهرها على هذا كله، وأمري كله في حاجة إلى الحزم وفى حاجة إلى المكر والكيد”(21) / الرواية/صـ 182.
على أن هذا العناد الكامن في شخصية آمنة؛ وإصرارها على هزيمة عدوها/ المهندس، يكشف مدى الصراع الداخلي لهذه الشخصية، الذي يخترق صلابة الحاضر السّردي عبر غزو ذكريات الماضي، واستبطان الشخصية لذاتها، وهو ما ينتقل بالمسار السّردي للرواية، من الخارج السردي إلى داخل الذات الساردة آمنة، ويعكس مدى الحيرة التي تعيشها، وهو ما يتجلى في حوارها مع نفسها:
“… ولست أكذب نفسي فكثيرًا ما سألتها: أترى شهوته قد استحالت إلى حب، أما الآن فأنا مستيقنة أنه لا يحبني، بل لم يحبني قط، وأنه لا يشتهيني، ولعله يزدريني، وإنما يريد أن يقهر فيّ عدوًا متمردًا وخصمًا عنيدًا، فألقين البأس بالبأس ولألقين العناد بالعناد”(22)/ الرواية، صـ198.
ورغم هذا العنفوان المتجلي في ذات آمنة، تجاه مهندس الري، غير أن ما تسلحت به من معرفة ورجاحة عقل، قد انتصرا عليها، ودفعاها لتفادي الصراع الدموي مع المجتمع، وتحويل الصراع، إلى صراع نفسي وفكري، فانتقلت من غواية الثأر إلى انتصار الحب، بمجرد أن شعرت أن سيدها مهندس الري، يتلطف معها، ويعلن عن حبه لها، “ثم يا للهول ماذا أرى! وماذا أسمع! وماذا أجد! هذا سيدي ماثلًا بين يدي يتلطف ويترفق ثم يستعطف ويستجدي…
… فليس عندي شك الآن في أن سيدي لا يشتهي ولا يبتغي أن يظهر عليّ وينتصر على خصم عنيد، وإنما هو الحب…(23)”/الرواية/ صصـ 196-202.
وبذلك تحولت روح الانتقام العاصف لدى آمنة، إلى عاطفة رقيقة تملأ القلب والجوانح، وتجتاح بذور الكراهية وكل حواجز الكبرياء. وهي عاطفة على استحياء، متأرجحة بين ذكرى الأخت (هنادي)، وكبرياء الأنثى (آمنة)؛ ولكنها لا تلبث أن تصبح قدرًا لا مفر منه، وإذعانًا لا ثورة بعدها، واستسلامًا لا رجوع فيه.
فقد طهّر هذا الحب نفس آمنة، من كل ما يشوبها من رواسب الحقد والانتقام، فأصبح اسماها (آمنة، وسعاد في بيت المهندس) متوافقين مع دلالة الاسم، الذي يشي بالسكينة والسعادة والاستقرار، فضلًا عن ذلك؛ فقد أزالت هذه العاطفة الفوارق الطبقية بين آمنة والمهندس، لا سيما بعد أن ذهبا إلى بيت – أبويه – في القاهرة “فقد جعل ينظر إليّ كلما تقدمت الأيام كما ينظر إلى الصديق لا كما ينظر إلى الخادم، قد اصطفاني لنفسه، واختصني بوده، وجعل يشكرني في كثير من أمره(24)”/الرواية/ صـ209.
وبذلك نلحظ، أن بنية الخطاب السّردي لرواية “دعاء الكروان”، قد انتصرت للمعرفة والثقافة والفكر العقلاني لدى المرأة، فانتقلت من سرد الانتقام والثأر، إلى سرد الحب وإرادة الزواج، “قال .. وإني الآن إنما أريدك على الزواج..
قال في صوت هادئ حزين: أتقبلين؟ قلت في صوت ليس أقل من صوته هدوءًا ولا حزنًا: فإن سيدي يعلم أن ليس إلى هذا من سبيل…
ومن ثم؛ تمتنع آمنة، عن زواجها من المهندس، رغم حبها له، وفاءً لأختها الكبرى (هنادي)، التي صرعت بسببه من قبل، في ذلك الفضاء الواسع:
“ولكن صوتك أيها الطائر العزيز يبلغني فينزعني انتزاعًا من هذا الصمت العميق، فأثب وجلة مذعورة، ويثب هو وجلًا مذعورًا، ثم لا نلبث أن يثوب إليها الأمن ويرد علينا الهدوء، فأما أنا فتنحدر على خدي دمعتان حارتان، وأما هو فيقول وقد اعتمد بيديه على المائدة: دعاء الكروان! أترينه كان يرجّع صورته هذا الترجيع حين صرعت هنادي في ذلك الفضاء الواسع؟!”(26)/الرواية/صـ218.
وعلى هذا، تتجلى آمنة، أمينة على أختها، ووفية لدمها المراق، مضحية بحبها، وهي في ثوب جديد عنوانه المعرفة والثقافة ورجاحة العقل، وهو ما أيده طه حسين في حياته وكتاباته؛ حيث كان”… مؤيدًا للمرأة يقف بجانبها دائمًا، يلمس مدى ما تلقاه من ظلم، ومن رواسب، ومن أغلال، ومن قيود، ويتمنى لها التطور والخلاص من أسر التقاليد، ويريد لها التغير الاجتماعي والثقافي، ….” (27).
وهو ما انطبق على التغيرات الاجتماعية والثقافية، في ذات الشخصية المحورية آمنة – عبر مسار الفعل السردي لرواية “دعاء الكروان”، الذي انتصر لسلطة المرأة المثقفة الواعية بمصيرها، على سلطة المجتمع المنغلق الذي يفتقر إلى معرفة الوعي.
على أن هذا النموذج القاسي للسلطة القاهرة للمرأة، لم يقتصر على الخطاب السّردي لرواية “دعاء الكروان” في إبداع طه حسين السردي، بل نجد ظلالًا لهذه السلطة أيضًا، في عديد من رواياته، فنجد (سميحة) في رواية “شجرة البؤس”، تعاني من القهر الأبوي، وهناك (خديجة) في (المعذبون في الأرض)، تعاني من قهر الفقر والبؤس والقهر الأسري، ونجد نموذج المرأة التي قهرت كرامتها من زوجها، عبر علاقة هذا الزوج بصديقتها، في رواية (الحب الضائع)، إلى غير هذه الأنماط الإنسانية من النساء اللائي يعانين قهر السلطة المجتمعية، في إبداع طه حسين، وإبداعات غيره، ويعود هذا في مجتمعاتنا “لأن المرأة تعتبر شريكًا في المجتمع سواء وجدت من يعترف بذلك أو لم تجد، فإن هذا الشريك يقع تحت طائلة السلطة بمعناها الإنساني الأشمل، سواء سلطة الفرد، أو سلطة الدولة…” (28).
وبالنسبة لبنية الزمن في رواية “دعاء الكروان” نلحظ أنه كيان غير مستقر، وبه توتر بين الأزمنة، ورفض للمسار الخطي لحياة مستقرة الملامح، وحالة من التداخل المفعم بالصراع بين الحاضر والماضي، المجسد لحالة الصراع الداخلي والأزمة المنصهرة في ذات الشخصية المحورية الساردة (آمنة)؛ حيث تنغلق آمنة في ماضيها، وتقتحم ذكرياتها النابضة بالمأساة والقهر والموت، حاضرها السّردي، وتدفع به جانبًا، فحاضرها واهن جدًا، بحيث تهيمن صور الماضي على ذاكرتها، وفقًا لهذا، نلحظ أن المسار الزمني لهذه الرواية، ينطلق من لحظة حاضرة تمثل وسط الأحداث، ثم تنجرف الشخصية الساردة نحو ماضيها، عبر الاسترجاع التذكري، وذاكرتها المثالية، ثم تعود لتلتحم بهذا الحاضر السّردي مرة أخرى، في الفصل الثاني والعشرين/الرواية/ص140، وتتجه حركة الفعل السردي نحو نهاية الرواية. وهو ما يلائم طبيعة أحداث الرواية، فهذه الدائرية الزمنية للفصول الأولى تجسد حالة الصراع الدائم في ذات الشخصية المحورية / آمنة، وانغلاقها على واقعها المأساوي الذي أثمر عن موت أختها الكبرى هنادي.
وقد جاء هذا الاسترجاع التذكري، في طوايا السياق الروائي ممتزجًا بفعل السّرد، وفي المشاهد الحوارية، وفي الحوار الداخلي؛ كي تستعيد به الساردة أحداثًا سابقة عن اللحظة الحاضرة للسرد، أو لاسترجاع أحداث أو مكان أو شخصية، كما تسترجع آمنة، خالها ناصر، الذي بطش بهما وقتل أختها خوفًا من العار؛ ومن ثم تكشف طبيعته الخشنة القاسية:
“نعم عرفت خالي ناصرًا وذكرت أني كنت سيئة الظن به، شديدة النفور منه، وأني كنت ألوم نفسي أحيانًا على سوء ظني وشدة نفوري، حتى إذا صرع أبونا ورأيت كيف استقبل أمي بأنباء هذا المصرع وكيف قسا عليها وعلينا، ولم يفكر في أنها أيّم وفي أننا يتيمتان وإنما فكر في الأسرة وحديث الناس عنها، وما يجر عليها هذا الخطاب من عار…”(29) /الرواية/صـ67.
وجدير بالملاحظة، في هذه البنية الزمنية للرواية، أن الشخصية المحورية الساردة / آمنة كثيرًا ما تتجاوز حاجز الزمن المنطقي، إلى ما يعرف بالزمن الفني الداخلي، الذي تنتقل فيه حركة السرد نحو الوعي الداخلي للشخصية، مستعينة في ذلك بالحوار الداخلي، وهو تقنية من تقنيات تيار الوعي في الرواية الحديثة، وفيه ينتقل السارد بالمتلقي إلى وعي الشخصية، من خلال أسلوب مباشر حر، يمنح الشخصية الساردة قدرة على البوح، عما بداخلها من مشاعر وأحاسيس، مستعينة في ذلك بضمير الـ(أنا) أو الـ(هو) أو الـ(أنت)، أو بالانتقال بين الضمائر كلها، “… ومن ثم يقود السارد بوظيفته التعبيرية The function of communication على ما يرى جيرار جنيت – والتي تتطابق مع الوظيفة الانفعالية The Emotional function عند رومان ياكوبسون” أو ما يعرف بالتحفيز السيكولوجي The psychological motivation عند توماشفسكي” وهو ما يكثر – بشكل واضح – في السرد النفسي “Psycho Narration”(30) مثلما نلحظ في حوار آمنة مع ذاتها، والذي يعكس حالة من الحيرة، تجاه حب مهندس الري لها:
“كلا، كلا! فكري يا آمنة، ماذا أقول؟ فكري يا سعاد .. فقد محي اسم آمنة منذ دخلت هذا الدار.
فكري يا سعاد فقد آن لك أن تفكري، وأعزمي أمرك فقد آن لك أن تعزميه، أقيمي كما تقيم العاشقة أو ارتحلي كما ترتحل القالية، فأما هذه الحياة المعلقة فليس لأحد فيها خير وليس لأحد فيها غناء، ولم يبق لك إلى احتمالها سبيل!” (31) /الرواية/صـ203.
فهذا الزمن الداخلي، يمثل حالة من حالات الكشف عما يحدث داخل ذهن شخصية آمنة، من ارتباك حيال قرارها تجاه علاقتها بمهندس الري، وقد استتبعه حالة من الانفتاح على الضمائر، أضفت على السّارد الذاتي، هيئة السارد العليم، الذى يعرف الظاهر والباطن؛ لأنه يمثل صورة من صور الإله، على ما يرى السرديون.
وأحيانًا ما ترتبط آلية الاسترجاع الزمني، بصيغة الحلم، وهو ما يخلق نوعًا من السّرد الزمني متعدد المستويات، إذ يمزج السارد الذاتي الوعي باللاوعي أو الحقيقة بالوهم، في مستوى السرد العام، ثم يطمس الحدود بين الحلم واليقظة، مثلما فعلت الشخصية المحورية السّاردة آمنة، وهي في طريقها مع خالها أو أمها وأختها نحو الغرب/ قريتها، فإذا بها تترك حاضر السرد وتعود بحلمها نحو الشرق، إلى بيت المأمور، الذي يمثل لها بيت المعرفة والاستقرار، لا سيما معلمتها الأولى خديجة.
“وينتهي إلى صوتك أيها الطائر العزيز، وأنا أسبح في نوم غير عميق، وأرى من الأحلام صورًا قريبة مألوفة تمثل لي خديجة وهي تلعب وتدعوني إلى أن أشاركها في اللعب، وتمثل لي سيدة البيت وهي تأمر وتنهي، وتصعد وتهبط، وتذهب في تدبير بيتها وتجئ، وتمثل لي المأمور وقد أقبل مع الظهر فاضطرب لمقدمة البيت، ثم عاد إلى هدوء يوشك أن يكون السكون، ثم فرغ أهل البيت كلهم لهذا الرجل يعنون به، ويتوفرون على خدمته، كأنهم لم يخلقوا الإله، ولم يوقفوا عليه”( 32 ) / الرواية/صـ29.
على أن هذا الحلم يكشف ما يمور في ذهن آمنة، من أمل في العودة إلى أسرة خديجة، وقد هيمنت المضارعة زمنيًا على حلمها، وهو ما عكس سرعة إيقاع البيت في حالة وجود المأمور، وأضاف نوعًا من البصرية السردية، المستقرة في ذهن آمنة، وحبها لهذا المكان وأهله.
(4)
يقول السرديون “لا سرد بلا إيقاع”، وهو ما يعني كما أن للشعر إيقاعًا يتمثل في الوزن والقافية، فضلًا عن الصوت والجناس والتصريح وحسن التقسيم/الازدواج…الخ، فإن للسرد – أيضًا – إيقاعه، الذي يرتبط بشكل أساسي بآلية المسار الزمني للخطاب السّردي، من حيث السرعة الإيقاعية وبطئها أو اعتدالها، وفقاً لآليات حركة الفعل السردي، من قفزة وتلخيص ومشاهد حوارية ووصف، وغيرها، وفق تعلقها بمدى النص الروائي وسعته، وبالنظر إلى الزمنية السردية لرواية “دعاء الكروان”، نلحظ أنها تمثل سرد بوح، يكثر فيه استبطان الذات الساردة لذاتها، وهيمنة الحوارية الداخلية، التي تميل إلى التركيز على نقل التفاصيل النفسية للشخصية المحورية آمنة إلى جانب التعليق، وفي مقابل هذا تقل المشاهد الحوارية الخارجية، وهو ما يعني ميل الإيقاع السردي لهذه الرواية نحو الإيقاع البطئ، لأنه إيقاع نفسي في المقام الأول، ولكن السارد أحياناً ما يقلل من هذا البطء الإيقاعي، باستخدام المضارعة التي تمنح المشهد السردي جزءاً من البصرية التي تكثف من سرعة حركة المشهد؛ ومن ثم تنحو صوب الاعتدال الإيقاعي، في بعض مسارات الفعل السّردي داخل الرواية، مثلما نلحظ في قول شيخ أحد عرب المدينة لزهرة أم البنتين، موضحًا لها طبيعة سكان هذه المنطقة من التجار والموظفين:
“عند هؤلاء التجار الذين يبيعون الأقمشة والأحذية والأثاث، يجلبونها من مصر ويبيعونها في المدينة وفي القرى، ويربحون منها الأموال الضخمة، ويعيشون في بيوتهم عيشة السادة والأمراء. لا يأكلون على الأرض وإنما يأكلون على الموائد، لا يأكلون الذرة وإنما يأكلون خبز الحنطة، لا يأكلون في أطباق النحاس وإنما يأكلون في أطباق الخزف، لا يسمحون لنسائهم أن يخرجن مبتذلات، وإنما يخرجن ملففات في هذه الثياب، يتخذنها من الحرير، وعلى وجوههن هذه البراقع الصفاف، وعلى أنوفهن هذه القصبات من الذهب الخالص أو من الفضة المذهبة”( 33 )/الرواية /صـ22؛ حيث تكرر فعل المضارعة (خمس عشرة مرة)؛ وهو ما كثف من المشهدية البصرية الحركية التي أضفت نوعًا من السرعة الإيقاعية للفعل السردي، التي أبرزت الطبقية، التي يعيشها هؤلاء السكان، في هذه المدينة في الشرق.
(5)
وبالنسبة للمكان في رواية “دعاء الكروان” فقد لعب دورًا حيويًا ومؤثرًا، في تشكيل البنية السردية لعالم الرواية؛ حيث تجلى المكان بوصفه ممارسة إنسانية مرتبطة بالشخصيات، والزمان وبقية عناصر الخطاب الروائي، مما أسهم – بشكل فاعل – في بلورة الدلالة السياقية العامة للنص.
حيث جاء المكان منصهرًا في الزمان، ومتقاطعًا معه، في هيئة زمكان فني، على حد تعبير “ميخائيل باختين”(34)، يمثل بنية سردية إطارية، تصور مراحل التطور والتحول في تجربة الشخصية المحورية “آمنة” في واقعها الاجتماعي النفسي، المفعم بالمأساوية، وذلك من خلال ثنائية كبرى تشي بالمفارقة الدلالية، تتمثل في قرية بني وركان، الغرب/الانغلاق/القيد/البطش/الجهل/الفقر/الكره/الموت، وبين المدينة،الشرق/الحرية/المعرفة/الثقافة/الثراء/الحب/الحياة.
والمتأمل في هذا التأطير المكاني، داخل سياق الرواية؛ يلحظ أن معلوماتية السارد عن قرية (بني وركان)؛ هذه البيئة الصعيدية، التي نشأت فيها آمنة، يشي بالانعزال الفكري والمكاني، ويفتقد إلى التحضر الإنساني؛ حيث “كانت زهرة أم آمنة وأختها هنادي امرأة بدوية ريفية، تقيم في قرية من القرى المعلقة بهذه الهضاب والتي لا يستقر أهلها فيها إلا ريثما يزيلهم عنها فوج من أفواج الأعراب الذين يقبلون من الصحراء ليتعلموا الاستقرار في الأرض والحياة في أطراف الريف… وهم يتقدمون نحو الأرض المتحضرة دائمًا حتى يبلغوا حدود البادية أو حدود هذا الريف المتبدي،…” (35)/الرواية/ص18.
وعلى هذا، فرغم أن “…المكانية في الأدب هي الصورة الفنية التي تذكرنا أو تبعث فينا ذكريات بيت الطفولة…” (36)، على ما يرى غالب هلسا، ومن ثم تصبح جاذبة لأصحابها، وهو ما لم يوجد في قرية آمنة، حيث أضحت مكاناً طارداً، لقهرها السلطوي تجاه المرأة، وكل من يخالف منظومتها الثقافية المشوهة، لذا تقول آمنة “… وأذكر مكاني في دارنا تلك في أقصى الريف نحو الغرب أثناء العلة…” ( 37 )/الرواية/ص184؛ ونتيجة ذلك تشعر آمنة دائمًا “… أنا مضطربة دائمًا بين أهلي الذين فررت منهم فرارًا…”( 38 ) /الرواية/صـ159.
ونقيض ذلك يتجلى في انجذاب آمنة – هذه الفتاة الريفية البدوية – نحو الشرق، تجاه مدينة المعرفة والوعي والحب، وتصر في الوصول إلى هذه الغاية، التى تحقق لها حياة الأمن والوداعة والحرية، بعيدًا عن يد الخال ناصر، السلطوية الباطشة:
“أنا ماضية نحو الشرق، لا أنحرف عن غايتي إلى يمين أو إلى شمال إلا لأقضي ليلة في هذه القرية أو لأستريح ساعات أو لأستريح يوماً في هذه القرية أو تلك، ولكنني على جناح سفر دائماً، متجهة نحو الشرق دائماً، ممعنة في الشعور بالأمن كلما ازددت من الغاية دنواً ومن المدينة قرباً. فالمدينة إذن هي غايتي من كل هذا السعي، فيها ألتمس الأمن وبين أهلها ألتمس الحياة الوادعة! وبيت المأمور هو غايتي من المدينة إليه ألجأ وإلى من فيه أفزع وبمن فيه أستعين، في ظله أريد أن ألتمس الراحة لهذه النفس المعذبة، والشفاء لهذا القلب المريض. لن آمن حتى أبلغ هذا الدار،… إذا بلغت هذه الدار فستقصر يد خالي دون أن تبلغني..” ( 39 ) /الرواية/صصـ 109-110.
وفقًا لهذا، تعكس آلية المكان حالة من الجدل بين الداخل والخارج، بين الغرب القاسي والشرق الآمن، وهو ما يجسد حالة الصراع النفسي داخل ذات آمنة، بين الفرار من القرية، والذهاب إلى المدينة، ومن ثم تنتقل من ثقافة التشيوء إلى ثقافة القيمة الإنسانية، لأن “… المكان الذي يعيش فيه البشر مكان ثقافي، أي أن الإنسان يحول معطيات الواقع المحسوس وينظمها، لا من خلال توظيفها المادي لسد حاجاته المعيشية فقط، بل من خلال إعطائها دلالة وقيمة…” (40).
وعلى ما سبق؛ فإن الخطاب السّردي لرواية “دعاء الكروان” لطه حسين، استطاع أن يطرح تراجيديا المرأة في واقع قرى الصعيد في مصر، في فترة الأربعينيات من القرن العشرين؛ من خلال بنية سردية داخلية، تنتمي للسرد الواقعي السوسيونفسي، ترصد فيها الساردة المشخصة آمنة، معاناة المرأة في ظل قيم مشوهة، تشيء المرأة، وترفض إنسانيتها، وحريتها في تقرير مصيرها، لذا فهذه الرواية تمثل صرخة مبكرة لهذه المرأة في وجه المجتمع الصعيدي الذي قهرها كثيراً، في بيئة تعاني الفقر والجهل والذكورية المجتمعية.
وقد صيغت هذه التجربة المجتمعية الإنسانية، فى بنية سردية تميل لسرد البوح، وتعتمد في بنائها على الاسترجاع التذكري، والاستبطان والحوار الداخلي، وبنية المكان التي تحمل دلالة المفارقة بين بيئة طاردة/القرية، وبيئة حاضنة بثقافتها ووعيها/المدينة.
الهوامش
1) طه حسين – في الشعر الجاهلي – دار المعارف للطباعة والنشر – تونس – ط2- 1998- ص13.
2) راجع – ar.wikipedia.org
3) طه حسين – دعاء الكروان – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1994م.
4) هنري جيمس – الفن الروائي – مقال ضمن كتاب نظرية الرواية في الأدب الإنجليزي الحديث – ترجمة وتقديم: أنجيل بطرس سمعان، مراجعة: رشاد رشدي – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1994 – ص72.
5) لمزيد من التفصيل راجع: صدوق نور الدين – البداية في النص الروائي – دارالحوار للنشر والتوزيع – اللاذقية – سورية – ط1 – 1994- ص70. وشعيب حليفي – هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل- المجلس الأعلى للثقافة – 2004م – ص9.
6) دعاء الكروان- صـ12.
7) روبرت همفرى- تيار الوعى فى الرواية الحديثة- ترجمه وقدم له وعلق عليه: محمود الربيعى- دار الهانى للطباعة- 1973م- ص122.
دعاء الكروان- صـ 11.
9) نفسه- صـ15.
10) نفسه- صـ29.
11) نفسه- صـصـ20-21.
12) نفسه- صـ23.
13) نفسه- صـصـ 43- 44.
14) نفسه- صـصـ 35- 36.
15) آمال طنطاوى- المهمشون فى صعيد مصر: آليات السيطرة والخضوع- إنسانيات- مكتبة الأسرة- الهيئة المصرية العامة للكتاب- 2012م- صـ102.
16) دعاء الكروان- صـ164.
17) نفسه- صصـ 72- 73.
18) نفسه- صـ 107.
19) نفسه – صـ167.
20) نفسه- صـ 143.
21) نفسه- صـ 182.
22) نفسه- صـ 198.
23) نفسه- صصـ 196- 202.
24) نفسه- ص209.
25) نفسه- صصـ 213- 215.
26) نفسه- صـ 218.
27) مديحة أبو زيد – المرأة في حياة طه حسين – الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة – ط1- 2010- ص54.
28) عفاف عبد المعطي – المرأة والسلطة في مصر “الواقع السياسي والأدبي” (1919-1981) مركز الحضارة العربية – 2005م ص3.
29) دعاء الكروان- صـ 67.
30) شريف الجيار – التداخل الثقافي في سرديات إحسان عبد القدوس (مدخل نقدي) – الهيئة العامة لقصور الثقافة – كتابات نقدية – عدد 155- 2005م – صصـ 164-165.
31) دعاء الكروان- صـ 203.
32) نفسه- صـ29.
33) نفسه-صـ 22.
34) راجع: ميخائيل باختين – أشكال الزمان والمكان في الرواية – ترجمة: يوسف حلاق – دراسات نقدية عالمية “و” – منشورات وزارة الثقافة – دمشق – 1990م – ص5.
35) دعاء الكروان- صـ18.
36) مقدمة كتاب: غاستون باشلار – جماليات المكان – ترجمة غالب هلسا – المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – بيروت – لبنان – ط2- 1984م – ص6.
37) دعاء الكروان- صـ 184.
38) نفسه- صـ109.
39) نفسه- صصـ109- 110.
40) يوري لوتمان – مشكلة المكان الفني – تقديم وترجمة: سيزا قاسم دراز – ضمن كتاب جماليات المكان – عيون المقالات للنشر – الدار البيضاء – ط2- 1988م- ص64.