د. عبد الحكيم الزبيدي
حظيت المرأة باهتمام الشاعر الكبير الدكتور شهاب غانم، فقد كتب قصائد عن الأم والزوجة والإبنة والحفيدة. كما كتب قصائد عن المرأة المعشوقة والحبيبة. وسنحاول في هذه الورقة تسليط الضوء على صورة المرأة المعشوقة والحبيبة في شعر شهاب غانم، من خلال نماذج مختارة من شعره الغزلي الذي جمعه في ديوان خاص جعل عنوانه: (معاني الهوى عندي)، ويحوي حوالي ثمانين قصيدة. وقبل أن نتناول صورة المرأة في شعر شهاب غانم يحسن بنا أن نقف قليلًا عند معنى الحب عنده
الحب عند شهاب غانم
يقول الشاعر في قصيدة (معاني الهوى عندي)، بأنه لا يمجد الجمال المحسوس، وأن للحب عنده معاني سامية، يقول
وما كان عندي زائل الشكل مأربًا ولا استحوذ المحسوسُ يومًا على حسي
فما الشكل إلا هيكلُ الطين ينتهي على حسنه الخلابِ في طينة الرمسِ
وللحسن معنىً غيرَ قدٍ مهفهفٍ وغيرَ شفاهٍ عذبةٍ حلوةٍ لُعسِ
سواي بتمويه المظاهر يستبي ويؤخذ بالشكلِ المُنمقِ واللُبسِ
وأنه يكتفي من الحسن بمجرد إلهام الشعر:
لكنني أكتفي بالحسنِ يُلهمني قصيدةً ولغيري الماءُ والطينُ
هذا إجمالًا ما يقوله شهاب غانم عن معنى الهوى عنده، أنه يستلهم من الحسن الشعر ويترك لغيره (الماء والطين). إلا أننا إذا تصفحنا قصائد الغزل عنده سنجد ما يدحض ذلك؛ فالشاعر يمجد الجمال ويعشق حسن الشكل الذي أسماه (هيكل الطين)، بل ويحث المعشوقة أن تنيله مبتغاه من هذا الجمال قبل أن يذوي ويصير طعامًا للدود
كلُ هذا الجمالِ يومًا سيمضي وطعامًا للدودِ سوف يكونُ
فسيفنى النهدُ الجموحُ ويفنى وجهُها البضُّ واللمى والعيونُ
إلى أن يقول
وامنحيني من قبل فوت أوانٍ بعض وصلٍ فنحن ماءٌ وطينُ
أنا أهواكِ للجمالِ … ولكن قبل هذا في القلبِ حبٌ دفينُ
فهو يقر، في البيت الأخير، أنه يهواها لجمالها، وإن حاول التحايل بالقول إن الحب في قلبه موجود قبل وجود الجمال
وكثيرًا ما يشبه الشاعر نفسه بالفراشة في تهافته على الجمال، كما يتهافت الفراش على النار
أرى الطلعة الحسناء كالبدر في الدجى تنادي فؤادي كي يُكبلَ في الأسرِ
فأمضي إليها كالفراشِ إلى اللظى يطير ليلقى الحتف في حضنها المغري
ويشبّه قلبه أيضًا بالفراشة التي لا تصبر عن التنقل من زهرة لأخرى
لا تضربي حول الفؤاد حصارا ودعيه يحيي اللحن والأشعارا
هو كالفراشة تنطوي إن لم تذق كأس الرحيق وترشف الأزهارا
والطريف أنه يحذر الفتيات في قصيدة (فراشة وورد) من الفراشات التي تتنقل من وردة إلى أخرى، ثم تتركها بعد أن تمتص رحيقها
كم وردةٍ سال الندى في خدِها يبكي الخديعةَ قلبُها الموتورُ
هي عبرةٌ للغانيات لو أنه قد كان يجدي في الهوى تحذيرُ
ويرى بعض من تناولوا شعر شهاب غانم بالدراسة أنه متعدد العشيقات، يقول جاك صبري شماس: “ويبدو أن الشاعر شهاب غانم قد تجاوز عمر بن أبي ربيعة في تجاربه الغزلية”، ولكن الشاعر يزعم أنه موحد في الحب، وأنه لم يغير فتاته
لم أغيّر فتاتي
ولكنني في كل مرة
أو قل، إذا شئت، في كل نظرة
كأني أراك لأول مرة
ولعله يقصد بهذه الفتاة زوجته، حيث زعم في قصيدته التي رثاها بها أن معظم قصائده الغزلية التي جمعها في ديوان (معاني الهوى عندي)، كانت فيها
يا اْبنة الشعر كنتِ منبعَ شعري كل تلك السنين فيك انسابا
نحو خمسين من قصائدِ شعري في (معاني الهوى) تضم العجابا
وإذا حاولنا التعرف على نوع الحب الذي تصوره قصائد شهاب غانم الغزلية فسنجده لا يخرج عن النوعين الذين أشار إليهما في قوله
وللحب ألوانٌ فمنه الهوى الذي يثور غريزيًا ومنه الهوى العذري
وبناء عليه، فإنه يمكن القول إن صورة المرأة في قصائد شهاب غانم الغزلية تندرج ضمن إطارين: إطارِ الصورة الحسّية، وهي القصائد التي تصور المرأة في صورة الأنثى المشتهاة التي تثير الغريزة، وتجعل الدم يصهل في العروق، وهذه قطعًا كتبت في نساء مختلفات، وهي قليلة في شعره. والإطار الثاني هو إطار الصورة الرومانسية، ونعني بها تلك القصائد التي تصور المرأة في صورة الفاتنة المدلة بجمالها التي تسلب لب الشاعر وتجعله يتذلل لها ويستجديها العطف والوصال، وهذه من الممكن أن تكون في امرأة واحدة، وهي تشمل معظم قصائده الغزلية. وسنحاول في السطور الآتية استعراض أمثلة من قصائد الإطارين، لندلل على ما نقول
الصورة الحسّية
تعد قصيدة (راقصةُ الجليد) أفضلَ قصيدة، في رأيي، تمثل هذا النوع من الغزل الحسّي، في شعر شهاب غانم على ندرته في شعره. ففيها يصف فتاة تتزلج على الجليد متراقصة على أنغام الموسيقى وتتلوى في حركات مثيرة، تزيدها صخابة الموسيقى وتتابع الأضواء الملونة الساقطة عليها فتنة وإثارة
تتزلجين
كالحلم
كالأنسام
كاللحن الحزين
كالزئبق الرجراج
كالماء المعين
مثل الشفاه على الشفاه.. لدى اعتناق العاشقين
كالنور عند الفجر تنسابين.. تنسابين.. تنسابين
وتدندنُ الألحانُ.. مثل العشقِ مكتومَ الأنين
فنراه يصفها بألفاظ تنم عما يعتلج في خاطره من رغبة مكبوتة، فهي كالزئبق الرجراج، وكالتقاء شفاه العاشقين، والموسيقى تدندن كأنين العشق المكتوم، وكل هذه أوصاف تنطبق على حالته هو وتصور معاناته وهو يلتهمها بعينيه
وقد وفق الشاعر في اختيار البحر الكامل المُذيّل لقصيدته، فجاءت قصيدته راقصة تتناسب مع وصف راقصة الجليد. فبحر الكامل، كما يقول الدكتور عبد الله الطيب في كتابه (المرشد)، “أكثر بحور الشعر جلجلة وحركات، وفيه لون خاص من الموسيقى يجعله -إن أريد به إلى الغزل وما بمجراه من أبواب اللين والرقة- حلوًا مع صلصلة كصلصلة الأجراس”
وقد أحسن الشاعر في مزجه في كتابة القصيدة بين نظام التفعيلة ونظام الشطرين لتتناسب مع حالته الشعورية، فجاء تقطيع الألفاظ في الأسطر الستة الأولى مناسبًا لحالة الشاعر، وهو يتابعها بنظراته، فجاءت كلماته متقطعة، وأضاف النقط بعد الكلمات ليعطي للقارئ فرصة لالتقاط أنفاسه وهو يتابع مشهد الفتاة وهي تتراقص على الجليد. وجاء عروض القصيدة على وزن (متفاعلان) ليدل على أن الشاعر استخدم مجزوء الكامل المذيل، وعليه جاءت أول كلمة في القصيدة (تتزلجين)، ونهاية كل بيت (الحزين، المعين.. إلخ)
ويستمر في الوصف
تثبين كالآرام
تلتفين حول النفسِ كالخُذروفِ
تنطلقين.. تنطلقين.. تنطلقين
ذات الشمال.. كما يمر السهمُ.. أو ذات اليمين
ودوائرُ الأضواءِ كم تجلو لعين الناظرين
تحت الشعاعِ الزاهرِ الألوانِ آياتٍ من السحر المبين
وأخال أسمعُ وهي تلهثُ في مطاردةِ الفتون
وتضم سحرَك في جنون
وتكاد تلتهمُ المفاتن.. مثل آلاف العيون
ويدق نبضي في الوتين
رباه.. هل هذا الجمالُ الفذّ من ماءٍ وطين
فالأضواء المتراقصة تجلو آياتِ سحرها وتطارد مفاتنها وتلتهمها مثل آلاف العيون، وعيون الشاعر من بينها، وكأنه بذلك يسوّغ لنفسه بأنه ليس وحده المفتون بسحرها، بل حتى الأضواء والجمهور، كلهم يحملق فيها. ويكرر الشاعر كلمة (تنطلقين) ثلاث مرات، ليصور سرعة حركتها وتتابعها، وقد أحسن حين شبهها بالخُذروف، و هو “شيءٌ يُدوِّرُه الصبي بخيط في يده فيُسْمَع له دَويّ”، وهي وإن كانت كلمة غريبة على جيل اليوم، إلا أن القارئ لا يحس بثقلٍ لها، لخفة حروفها، وحسن وقعها على الأذن. وتبلغ به النشوة ذروتها حين يصرخ متسائلًا
رباه .. هل هذا الجمال الفذ من ماءٍ وطين؟
ويستمر في الوصف محاولا السيطرة على ألفاظه حتى لا يخرج عن الحد المسموح به، ولكنه في النهاية يعجز ويرى أن الألفاظ المباحة تضيق عن وصفها ووصف مشاعره وأنه لو استمر فلابد أن يخرج إلى ما يعرف بالأدب المكشوف، فيقرر الصمت
تتزلجين
كريشةٍ تنساب في كف الرياح
كالطيرِ مبسوطَ الجناح
كالجدولِ الرقراقِ بالماءِ القُراح
كالقطرِ فوق الوردِ يجري عند ميلادِ الصباح
كالـ.. ما أقول؟
يضيق بي التعبير بالقولِ المُباح
ورغم ما تنضح به القصيدة من رغبة مكبوتة إلا أن الشاعر لم ينجرف إلى وصف مكشوف، مما يوحي بعفة لسانه وضميره مع فسق نظره، كما هو حال الشاعر العباس بن الأحنف الذي يقول
أتأذنون لصبٍ في زيارتكم فعندكم شهواتُ السمعِ والبصرِ
لا يضمر السوء إن طال الجلوسُ به عفُّ الضميرِ ولكن فاسقُ النظرِ
الصورة الرومانسية
وإذا استعرضنا قصائد الإطار الثاني وهي القصائد التي أطلقنا عليها القصائد الرومانسية لنميز بينها وبين تلك الحسّية، فإننا سنجدها في مجملها تصف الحسن والجمال، وتشكو من لوعة الحب، ونار الهجر والصدود، وتتذلل للمحب وتستعطفه الوصال، وتعاتبه
وهذه القصائد، من الممكن، كما أسلفنا، أن تكون في فتاة بعينها، ومن الممكن أن تكون كلها أو بعضها في زوجته، فقد ذكر الشاعر في مرثيته لها أن شعره فيها كان عشقًا وعتابًا
يا ابنة الشعر كنتِ منبع شعري .. كل تلك السنين فيك انسابا
كان شعري حبًا وعشقًا ووجْدًا واشتياقًا .. وكان شعري عتابا
وما دعانا إلى القول إن معظم هذه القصائد، إن لم يكن كلها، في فتاة بعينها، هو تشابه صفات المعشوقة في هذه القصائد. وأول هذه الصفات وأهمها هو الجمال الفائق، فكأنها ابنة الحسن:
يا ابنة الحسن في بناني يراعي عاجز أن يصوغ فيك المزيدا
وقد اجتمع فيها حسن كل المعشوقات في التاريخ
فأنت بثينٌ في الجمال وعبلةٌ ولبنى وهندٌ قد جُمعن مع ليلى
ولكنها، وهذه هي الصفة الثانية فيها، تجمع بين نور الحسن ونار الصدود
يا من تحملين الحُسنَ مثل النور في كفٍ
ونارَ الصد في الأخرى
ومن صفاتها أنها قاسية في تعاملها معه وكأن قلبها قد من صخر
أتعس الناس شاعرٌ مَن هواها حملت في ضلوعها جلمودا
وبحر هواها كله جزر بلا مد
بحار هواكِ جزرٌ بعد جزرٍ وكنت رضيتُها جزرًا ومدا
ولا تبادله مشاعر الحب، أو هكذا يبدو له
كأنما من حظوظي الحب من طرفٍ وأن أعيش طوال العمر مكتئبا
وعمره كله ضاع دون أن يقطف ثمار الحب
حنانيك ضاع العمر أحلى سنينِه ولم أجنِ شهدًا لا ولم أرشف القطرا
ورغم كل هذا الصدود فإنه يظل يعيش على أماني الوصال
أعيش من الوصال على الأماني أناجي الليل بالضوء الهزيلِ
حتى أنه ليحلم بلحظة وصل يستمتع بها قبل وفاته
الهجر أضناني فهل من لحظة أحظى بها بالوصل قبل حمامي
ويقنع من الحبيبة بمجرد الحديث:
حدثيني ففي الحديث وصالٌ قد يحيل الصحراء روضًا مطيرًا
وتكفيه البسمة
دعيني، ولكن أشتهي منك بسمةً لأقنع بالحب الهلامي والذكرى
الصفة الثالثة أنها لا تتأثر بما يكتبه فيها من قصائد
هجرتِني بعد عمرٍ رحت أنثُرهُ على القوافي على الرؤيا على الصورِ
مع أنها قرأت هذه الأشعار ولكنها لم تؤثر فيها لا هي ولا دموعه
وربما قرأت عيناكِ ما نزفت يراعتي وشهدتِ الدمع منسكبا
فلم تؤثر ولو مقدار خردلةٍ في مهجةٍ صاغها مَن صاغها خشبا
وقد وفق الشاعر في قوله (قرأت عيناك) كناية عن أن هذه الأشعار لم تلامس قلبها وإنما مرت أمام عينيها. ويبدو أن معشوقته قد فطنت إلى أن صدّها يهيّج شعره ويوقد قريحته، فتمادت في ذلك عن قصد، لتستمتع بأشعاره، وقد صرحت له بذلك حين سألها
بربكِ ما سر الصدودِ الذي أرى وأيةُ أفعالٍ تبيح جفائي
فقالت: أردتُ الشعر أن يبلغ المدى فكان مع حبي الأكيدِ جفائي
أو لعله تخيّل منها هذا الرد ليوهم نفسه أنها تبادله الحب، ولكنها إنما تتدلل لتطرب أسماعها بغزله فيها وتذللـه لها. ويبدو أن الشاعر من كثرة إدمانه للهجر والتمنع، أصبح يستمتع به، لدرجة أنه يصرح بأنه يحب التمنع
أحبكِ بل أهوى التمنعَ في الهوى فإنك يحلو في هواك التمنعُ
بل يطلب من محبوبته أن لا تستجيب لتضرعاته، ليزيد من تضرعه في قصائدَ جديدة
ولا تستجيبي إن أتى الشعرُ ضارعًا وزيدي صدودًا كي يزيد التضرعُ
ولكنه في بعض الأحيان يضيق بالهجر والخصام، ويعلن أن ذلك وإن كان قليلٌ منه ضروريًا للحب كملح الطعام، إلا أنه لا يستطيع أن يعيش على الملح فقط
أعرف أن قليلا من هجرٍ وخصام
قد يشبه ملح طعام
لكن هل يقدر إنسانٌ كل الأيام
أن يحيا في الليل وفي الصبح
لا يطعم شيئًا غير الملح؟
كل هذه الصفات المشتركة في المحبوبة، وفي معاناته من صدودها وتدللها، تجعلنا نكاد نجزم أنها في محبوبة بعينها.
خاتمة
وهكذا استعرضنا في السطور السابقة، صورة المرأة في شعر شهاب غانم ورأينا أنها تجلت في صورتين: صورة حسّية، تصور المرأة على أنها شهوة متقدة، وفتنة عارمة، وهذه الصورة جاءت في قصائد معدودة للشاعر، مع حفاظه على عفة ألفاظه وعدم وقوعه فيما يسمى بالأدب المكشوف. والصورة الثانية وهي الأعم الأغلب فقد صورت المرأة فيها جميلة مدلة بجمالها، تتلذذ بتعذيب عاشقها من خلال تمنعها وهجرها ودلالها، ولا تسمح بوصلها إلا في لحظات خاطفة، وساعات قليلة. ورأينا أن الحب عند شهاب غانم هو في التمتع بالحسن، وتحمل الهجر والخصام، ترقبًا للحظات الوصال القليلة