أ.د درية فرحات ناقدة وقاصة وأكاديمية / الجامعة اللبنانية
عطر التّراب مجموعة قصصية للقاص والرّوائي الدّكتور علي حجازي صادرة عن دار البيان للدّراسات والنّشر بطبعتها الأولى في العام 2023. وفي دراسة الغلاف الأمامي لهذه المجموعة سيميائيًّا نرى على المستوى البصريّ أنّه يقسّم قسمين الأوّل الأوّل يذكر العنوان، مع الكاتب، وترد كلمة قصص أخرى، فتشير إلى طبيعة هذا النّوع الأدبيّ للكتاب، أي أنّه مجموعة قصصيّة. وهو يعلو القسم الثاني من الغلاف، أي اللّوحة التي جاءت بألوان متعدّدة، اللافت فيها الأزرق الذي يأخذ من السّماء صفاءها، والأصفر مع ما فيه من إشارة إلى الدّهشة والسّعادة، ويكتمل المشهد ليقدم لنا منظر الطّبيعة الخلابة بلونها الأخضر. وقد توحي لنا اللّوحة بوجود ظلال بعض الأشخاص من بعيد، مع الإشارة إلى أنّ لوحة الغلاف تشير إلى طبيعة نقية هادئة غير غاضبة.
والعنوان الذي يعدّ عتبة نصّيّة سيميائية مهمة، يقود المتلقي إلى فضاء النّص ويشكّل التّعالق بين العنوان والغلاف عامل جذب للمتلقي، فالعنوان يتكوّن من كلمتين عطر التّراب، والعلاقة القائمة بينهما هي علاقة الإضافة، والإضافة لدى النّحاة هي ضم اسم إلى آخر مع تنزيل الثّاني من الأوّل منزلة تنوينيّة، أو ما يقوم مقام تنوينه، وبحيث لا يتمّ المعنى المقصود إلّا بالكلمتين المركبتين معًا، لذلك كان للمضاف إليه وظيفة تعريف المضاف وتخصيصه وكأنّه ما جيء به إلّا لينوب عن (ألـ) التّعريف التي حذفت من الاسم الذي أضيفت إليه، ولكن (ألـ) التّعريفيّة للاسم لا تفيد بنفسها تحديدً للمعرّف بها، على عكس التّعريف بالإضافة، لأنّ التّعريف بالإضافة في اللغة خاص بإنتاج دلالة أكثر تحديدًا كما يتّضح من (العطر) و(عطر التّراب)، هذه الإضافة التي تفتح الباب لمجازات متعدّدة، وعليه فإنّ العنوان هنا استمدّ تعريفه من الاسم الذي تلاه لا من ذاته، فالمعنى لم يتم إلا بالكلمتين المركبتين معًا، والتركيب الإضافي هنا يحدّد المعنى ويخصّصه
ونسأل أنفسنا هل للتّراب عطر، فدلالة كلمة عطر أنّها اسم جامع للأشياء التي يُتطيّب بها لحس رائحتها، أمّا عطر التّراب فهو القفو أو رائحة الأرض النّديّة أو رائحة المطر وهي رائحة أرضيّة تنتج عند سقوط المطر على تربة جافة.
فما هو العطر الذي أراد علي حجازي أن يسكبه على الجفاف الذي رآه؟
ضمّت مجموعة عطر التّراب اثنتي عشرة قصّة، وفي البحث بما وسمت به من عناوين، نجد أنّها ارتبطت بحقل معجميّ مع عنوان المجموعة، إذ تنتمي إلى الطّبيعة: الدّواري/ شجرة/ نخلة/ الرّاضوع/ زنبقة/ الدّالية/ العورنين/ اللوزة/ وقد تنتمي إلى هذا الحقل بشكل غير مباشر : الصّياد/ وحيد القرن/ الأسد. وإذا قمنا بمسح إحصائي للمفرادات والتّعابير في المجموعة سنجد معظمها ينتمي إلى الحقول المعجمية والدّلاليّة والمفهوميّة للطّبيعة.
هذه الطبيعة تناغمت مع الكاتب، وراودته بعد أن رأته يحمل قلمه ودفتره، طالبة منه أن ينقل رسائلها إلى الجميع، لهذا كان الإهداء لها، بعد أن قدّمت له الأسرار كاملة كما يقول حجازي في الإهداء “أعدك بأن أفتح لك باب أسراري التي لم أبح بها بعد لتنقلها إلى عشاق الكشف والتّبصّر والرؤى”. فالطّبيعة مانحة الخير، وهي التي تضفي الفتنة والجمال وحبّها يرتبط بانتمائها إلى التّراب الذي يحتويها.
ومن هنا فإن المبحر في هذه القصص يجد أنّ الطّبيعة حملت أبعادًا دلاليّة متنوّعة، ففي قصّة “اللّوزة الحريصة” وبعد أن استفاضت الجدّة الرّاوية في هذه القصة بعرض الأمثال الشّعبيّة المرتبطة بالطّبيعة، وكانت تهدف من ذلك أن توصل لحفيدها كيف يمكن أن يتعرّف مزاج الطّبيعة الشّباطيّة عبر تجربة مباشرة مع شباط الذي ليس على كلامه رباط أو شباط “الأزوط”، وعبر ذلك نفهم كما فهم الحفيد يوسف حكمة الطّبيعة، وندرك أنّ في الإكثار من الولادة نهجًا نضاليًّا يمكن من خلاله مواجهة العدو، ولا يتوقّف الأمر عند ذلك بل إنّ علي حجازي يوجّه عبر هذه القصّة رسالة إلى كلّ من يرفض أو يسخر أو ربما يتعجب من الولادات الكثيرة لأبناء البيئة التي يعنيها القاص، وهي غير خافية عن القارئ إنّه يقصد أبناء الجنوب الذين يواجهوان العدو بأكثر من طريقة، وأبعد من ذلك أيضا فهي إحدى وسائل النّضال التي يتبعها أبناء فلسطين، وربما كما قال يوسف الحفيد “إذا كانت شجرة اللوز تحسب للعواصف ألف حساب فتكثر من الزّهر، فعلى الشّعوب التي تتهدّدها الحروب بالإبادة الإكثال من الولادات” (ص 73).
هذا العطاء الذي تقدّمه الطّبيعة لا يقتصر على هذه الحكمة، بل إنّها السّبيل لترسيخ ثقافة الانتماء إلى الأرض وإلى الوطن، ففي قصّة “دروك الدّالية”، وعبر المونولج الدّاخلي / تيار الوعي يستعيد الرّاوي المتكلّم المهاجرين الذين تركوا أوطانهم، متعجبًا كيف أنّهم تخلّوا عن الوطن مع أوّل صعوبة واجهوها فيه، أو مع معاناتهم مع العقبات والأزمات التي مرّوا بها في الوطن، بينما استطاعت العريشة وأشجار الحديقة كلّها من مواجهة العاصفة القوية، فكانت الدّروك الدّقيقة الملتفة على الأشجار سدًّا منيعًا، ونهجًا مقاومًا يواجه كلّ الصّعوبات، ومن هنا جاءت المفارقة التي أذهلت المتحدّث كيف يتجاهل النّاس كلّ سبل المقاومة أو الرّفض أو التّمرّد في وجه المعوّقات، ويقبلون الرّحيل عن الوطن، هي رسالة أخرى تقدّمها لنا الطّبيعة، “إذا كانت هذه المخلوقات متشبثة بأرضها، تمدّ أسباب صمودها البسيطة، متحدّية العواصف والرّياح، فكيف للبشر لا يبتدعون أسباب صمودهم في أرضهم الرّحبة المانحة حبًّا وزهرًا وأشياء أخرى لا تقدّر؟” (ص 61).
وفي قصّة “زنبقة الدّار” يترك علي حجازي تيار الوعي ليقدّم لنا رسالة الانتماء إلى الوطن، وإلى ضرورة التّشبث بأرض الوطن عبر يوسف صديق الرّاوي الذي تعلّم من الزّنبقة كيف حافظت على بقائها على الرّغم مما واجهته من اقتلاعها بأسلوب غير سليم ما يسبب موتها، وكان تعليل الرّاوي بأنّ “المخلوقات التي ترغد بالعيش كثيرًا قليلًا ما ترتبط بمكان واحد، وتخفّ إلى مغادرة المكان الذي شهد إنباتها وغزهارها. فالماء الكثير الذي نزل دفعة واحدة على جذعها سرعان ما عمل على فكّ ارتباطها الوثيق بتربتها”(ص 56)، وفي هذه المقارنة بين الماء القليل الذي تحتاجه الزّنبقة لإعادة زرعها وبين الماء الكثير الذي أغرق بها الصّديق يوسف يشير على حجازي إلى مغريات يطمع بها المغترب فيرحل ليتغلّب على عطشه في الوطن، فيكون الحل عنده بالقناعة بالقليل داخل الوطن مقابل الكثير بعيدًا منه.
ويترسّخ الانتماء في قصّة “عطر التّراب” فيتعلّم الحفيد سامر من جدّه كيف يمكن أن يكون للتراب عطرٌ يعجز عطارو العالم عن صنعه، هو العطر الذي يفوح من الأرض التي نقدّم لها الرّعاية والاهتمام فنحرثها ونسمّدها فيكتمل عرس الحراثة والمحراث، وتكون النتيجة أنّ “الأرض أمّ تحرث الآن، ثمّ تحتضن الحبوب، وتتعهد عملية ولادتها، وتزويدها بالنّماء حتّى ميعاد الحصاد، حصاد الجنى” (ص 342)
وكي تستمر هذه الطّبيعة بتقديم خيراتها علينا أن نقاوم للحفاظ عليها، ففي قصّة “نخلة الوطن” قدّمت لنا هذه النّخلة ثلاث مواعظ، الأولى تتمثّل بضرورة اعتماد وسيلة دفاعيّة فكانت الأشواك هي هذه الوسيلة على الرّغم من أنّها سببت الأذى للحفيد نادر، والموعظة الثّانية بأنّ الأشواك هي “درس تعليميّ هادف إلى لفت أنظار البشر المتنازعين، والمتقاتلين، بأنّها تحتضن سعفها، تجمعها الواحدة إلى حضن أختها بوساطة هذه الخيطان المستخرجة منها بغية صنع ساق ميتة ملتفة تعلو وتشمخ كثيرًا” (ص46)، أمّا الموعظة الثالثة فهي أنّ النخل يلقّح، ومن هذه الدروس نصل إلى وجوب أن نكون سعفات بشريّة متراصّة ومتلاحمة لنصنع ساقًا طويلة شامخة لوطن واحد، وفي ذلك يقدّم حجازي درسًا بليغًا لكّل ساعٍ إلى تفتيت الوطن وكلّ داعٍ إلى الفتنة والتّفرقة، وخصوصًا في الموقف من تأمين وسائل الدّفاع عن الوطن، وهو لا يرى ذلك إلّا عبر تكاتف أبناء الوطن معًا بكل طوائفهم ومشاربهم.
لهذا يعلنها صراحة في قصّة “الرّاضوع” فيكون الدّرس للحفيدة مريم بأنّ الشّجر يتبع نظام الحماية الشّخصيّة فالغصن الأوّل يحمل الثّمر والغصن الثّاني المسمّى بالرّاضوع مهمته حماية الثّمر، فتشكّل هذه الأغصان الجنود الذين يتولّون حماية الدّولة، وبذلك يؤكد حجازي أنّ حماية الوطن لن تكون بالتخلّي عن سبل الحماية والدّفاع.
وتتعدّد الدّروس التي يقدّمها لنا حجازي في مجموعته فيكون للطّبيعة وظيفة جماليّة تتحوّل من واقعها حقيقة موضوعيّة إلى واقع تخييليّ. وإنّ توظيف الكاتب للطّبيعة في العمل القصصيّ أهمية كبيرة، فهي تبين لنا اتّجاه القاص، وتظهر لنا قدرته على رسم صورته وطرائق استعانته بعناصر الطّبيعة التي تصبح قادرة على تحريك الشّخصيّات في رسم الأحداث وإبراز المعاني والأفكار.
واللافت في هذه القصص أنّها حوارات بين الجد وأحفاده، ولن يخفى عن القارئ من هو هذا الجد ومن هم هؤلاء الأحفاد الذين تُقدَّم لهم المواعظ التي وأن جاءت أحيانا مباشرة وتقريرية، لكنّ في تأويل رمزيّة الطّبيعة بعدًّا تخييليا يجعلنا نحتسي العبرة وكأنّها ماء زلالًا صافيًا، وإذا لمسنا خصوصية الجد والأحفاد، فإنّ المتلقي يرى فيهم صورة عامة يسقطها على أي جد وحفيد، إضافة إلى أنّ اختيار هذا العمر من الأحفاد القريب من عمر اليافعين، يدفعنا إلى تصنيف هذه المجموعة ضمن أدب اليافعين والناشئة، وفي هذا حديث آخر.
في الختام شكرا دكتور علي حجازي
شكرا غرفة 19 والشكر للشاعرة إخلاص