بقلم الشاعر جميل داري
١٤ عامًا على رحيله
وما زال على أبواب القيامة
«لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»
هنا الجدارية التي لا تهرم
جدارية محمود درويش في ذكرى محمود درويش
جميل داري
أبدا مفرشه صهوة القصيدة و قميصه مسرودة من حديد التحدي و الكبرياء.. هكذا كالمتنبي يطل محمود درويش مضرجا برموزه و كنوزه ..بعذابه وعذوبته.. بخيط الجرح المكابر.. و يرمم بعضا من خرائب الروح و يسدل على ذاكرة النسيان ستائر الذكرى
أنا الآن أمام (( جدارية محمود درويش )) وقبل ذلك كنت مع ( لماذا تركت الحصان وحيدا ) ( و سرير الغريبة)
و منذ شبابي الآفل و أنا متابع هذا الشاعر الاستئناتي .. و مازلت أذكر و أردد
سدوا علي النور في زنزانة
فتوهجت في القلب شمس مشاعلي
كما أذكر
هل خر مهرك يا صلاح الدين… هل هوت البيارق ؟
هل صار سيفك.. صار مارق ؟
و كنت أقرأ بشغف (( بطاقة هوية ))
(( وعابرون في طريق عابر )) و ( سنة أخرى ) الخ
و بذلك أكد لي :” أن الحياة تصبح أقل جدارة بأن تعاش إذا خلت من الشعر” حسب روزنتال
الكثيرون من قبلي ومن بعدي علمهم درويش حب الشعر و حب التحدي و حب الحياة فهو إحدى قلاعنا الشعرية
و هو” خيمتنا الأخيرة…. نجمتنا الأخيرة “
في ( الجدارية ) يخفت التوهج الثوري الذي عهدناه في قصائده السابقة في مرحلة ما قبل ” تركت الحصان وحيدا”
ترى هل للزمن دور؟هل للمكان دور؟ هل خفت وخفتت المعاناة التي هي وراء كل إبداع عظيم ؟! و من هنا قيل:” إن روميات أبي فراس كانت نعمة على الأدب العربي و نقمة عليه” و درويش نفسه يؤكد في إحدى مقالاته (( أنقذونا من هذا الشعر )) :” إن الفرح العظيم و الحزن العظيم وحدهما يصنعان شعرا…” لكن كعادته المعهودة و المحمودة يستنفر كل طاقته التعبيرية فيمزج اللغة بالرمز و التاريخ و الأسطورة و الغنائية و الملحمية بكل ثقة و اقتدار.. فإذا القصيدة سفر في سفر التاريخ غابرا و حاضرا و في ثنائية الموت و الحياة.. و العدم و الوجود.. و الفناء و الخلود
قرأت القصيدة مرارا و سأقرؤها تكرارا.. فاستوقفتني أربعة اقانيم حوارية هي : المرض – الموت – الحصان – السحاب ..في مقاطع المرض يستخدم تفعيلة المتقارب / فعولن / و من خلال المنولوج نتعرف إلى البيئة المحيطة : طبيب يثير الامتعاض.. تداعيات بعيدة : أب مغمى عليه .. شباب مغاربة .. رفاق يخيطون كفنه.. و المعري الذي يطرد نقاده من قصيدته.. و من البعيد تفوح رائحة الخبز “فمازال تنور أمك مشتعلا و التحية ساخنة كالرغيف”
أما الموت فيبدو معه الشاعر في غاية الدماثة و اللطف.. حيث يدير معه حوارا هادئا طالبا منه التمهل ريثما ينهي قراءة “طرفة بن العبد” و يتلو كل وصاياه و يلملم أدواته الشخصية متسائلا عن أحوال المناخ هناك في الأبدية البيضاء…….. و طبيعة اللغة السائدة أهي دارجة أم فصحى..؟ طالبا منه عدم الغدر و استغلال نقطة الضعف.. محذرا إياه من التدخل في شؤون قصيدته.. إلى أن يقول : (( هزمتك يا موت الفنون جميعها”
بهذه الجملة الشعرية كثف الشاعر في جداريته ما حاول أن يقوله بأساليب متنوعة على مدى هذه القصيدة _الديوان_كما جاء في الغلاف الأخير.
إن هذا ذكرني بقول أحد الشعراء الإنكليز:”ما من أحد يستطيع القفز فوق ظله ولكن الشعراء يقفزون فوق الموت”
وبذلك يتآلف ويتحالف مع الموت..من دون أن يخاف أحدهما الآخر..فبينهما “إمتاع ومؤانسة”وبكل بساطة يحدد الشاعر مساحة المكان التي سيشغلها ..يقول:”لي متر و75سنتمترا”ويبدو لي التناغم والانسجام بين هذه الجملة وعنوان القصيدة فكأن” الجدارية “هي شاهدة قبره المنتظر
ومن محاورة الموت إلى محاورة الحصان_كما فعل مالك بن الريب وعنترة_طالبا منه أن يحك بحافر الشهوات أوعية الصدى
كما إن حواره مع انكيدو لا يقل روعة عن حواره مع السجان الابن المكلف بحماية المدينة من نشيده
إذا..لكي يستطيع الشاعر مجابهة الموت يلوذ في قصيدته بالرمز والأسطورة والتاريخ كما فعل معظم شعراء الحداثة كالسياب وحاوي وادونيس
فأوزوريس هو من أعظم آلهة المصريين القدماء قتل ورمي في النيل ثم بعث بفضل زوجته إيزيس..فأصبح رمز القيامة لكل حي
وكلكامش في الملحمة البابلية يبحث عن سر الخلود.. وانكيدو البطل الأسطوري..رافق كلكامش وشاركه في مغامراته ..وهناك أسماء أخرى مثل:امرؤ القيس_مجنون ليلى_قابيل_أيوب_لوط
ولا يكتفي درويش من الحداثة بذلك بل يمتشق خياله المجنح ويشهره في وجوه المنظرين من أرباب الحداثة وكهنة ما بعد الحداثة متكئا على إيقاع البحر الكامل أكثر بحور الشعر حركات..ليثبت من جديد أن التفعيلة ما شاخت ولن تشيخ
في مجال الخيال يستخدم التصوير الكلي الممتد الحافل بالظلال والألوان والتصوير الجزئي :تشبيه_استعارة _كناية.بل حتى الصور التراثية طوعها للحداثة حتى باتت صورا حديثة مبتكرة ضمن السياق البلاغي الفني.
لا يتسع المجال للحديث المسهب عن هندسة الشاعر لقصيدته فقد تعهدها بالرعاية حتى غدت شجرة وارفة الظلال فيها فاكهة الإيجاز والإطناب.. والبلاغة_ كما هو معلوم_ هي: مراعاة مقتضى الحال.. كما إنها مكتظة بالتداعي اللفظي والمصاحبات اللغوية والطباق والمقابلة.. وقد كرر بعض المفردات والجمل لا على سبيل الزينة اللفظية فحسب بل هي حاجة نفسية وشعورية
أما الموسيقا فالشاعر_ كما هو معلوم_ ضليع بالإيقاع متمكن منه إلى أقصى حد وهو لا يخفي ولعه بالبحر الكامل _متفاعلن_غير أنه استخدم تفعيلات أخرى مثل_ فعولن _فاعلن_يبدو أنها الرغبة في إثارة الانتباه وشحذ الذهن.. والقوافي مطلقة ومقيدة حسب الحالة النفسية وقد تضافرت الموسيقا الخارجية مع الموسيقا الداخلية لتضفي على النصوص إيقاعا عذبا أخاذا.أما التضمين فقد كان معبرا إلى أقصى حد كما مزج بين التراث والحداثة مزجا لا يشق له غبار.. وأكاد أجزم: إن درويش وحده أتقن هذه اللعبة كونه لم يسع وراء موضة الحداثة المفتعلة.. لأنها في نظره تطور طبيعي…. فكل الحداثويين الحقيقيين نهلوا من حليب التراث ..وليس من الحليب الاصطناعي المستورد من هنا وهناك وهنالك..ربما لهذا السبب نرى درويشا مقبولا من ذوي كل المدارس والاتجاهات الشعرية شرقا وغربا
إن” الجدارية” سجل حافل باللغة الحبلى والإيقاع الجميل والخيال المجنح والصور الخلابة والثقافة العميقة والمعاناة الصادقة…. كل هذه الأشياء صهرها الشاعر في بوتقة موهبته الثرة والثرية.. وتجربته العميقة _في الشعر وفي الحياة_فكان لنا هذا الفن الغني العظيم الذي هو “أعظم فرح يمنحه الإنسان لنفسه “على حد قول أحد الفلاسفة
“رأيت المعري يطرد نقاده من قصيدته” أرجو ألا يطردني محمود درويش من قصيدته فلست ناقدا بل أنا قارئ ذمي أتسكع على قارعة الكلام… أستجدي من الشعر كشحاذ بعضا من خبز الروح وظلال الكلام
محمود درويش من جديد في “الجدارية”وبكل جدارة يقبض على جمرة الشعر
يجترح معجزته الخالدة
تعليقات 1