إن عبارة: “الحياة ذات صلة بالسّرد” نكررّها كثيرًا، حيث لا يمكن أن نصف التواشج بين الحياة والموت والرّبط بين الفرح والحزن، والرضى والغضب إلا عبر السّرد والأدب، برغم أن الأدب ليس من شأنه أن يسيلَ مع الدّمِ المراقِ، ولا أن يكسو أولئك العراة، لكنّه زادٌ روحيٌ يمنح الشعور بالاكتفاء. فهل تشاركه المرايا تلك الصّفة، وهل تكون حفلات الخيبة الصّاخبة التي نقيمها في ذواتنا إعلانًا صريحًا عن تلك المرايا المهشّمة في زمنٍ محفوفٍ بالعنف والخراب ولا يسعنا تهميشه؟
في تلخيص الرواية عبر سطور موجزة
( في مجتمعٍ جائرٍ لا يعرف قواعدًا للحقوق تحولت دلال الفتاة الجميلة إلى يتيمة وابنة لأرملة جميلة كانت تخشى على ذاتها وفتياتها الثلاثة من مُديات المجتمع التي تنظر للمرأة كفريسة بعد وفاة زوجها إثر جلطة قلبية، فسارعت في تزويجها قبل أن تغادر بئر الفجيعة وصدمة غياب والدها، حين لم يمهلْها الموتُ لتتأقلمِ مع فكرة رحيل ابيها، كانت في الرابعة عشرة من عمرها زوّجت من رجل أقل ما يقال عنه أنّه ظلّ حائط لم يكن أكثر تفاعلًا منه، فما عرفت للألفة معه طريق طيلة سنواتها السبعة معه، وذلك الأمر سبب شرخًا كبيرًا في نفسها، وخسارة لأحلامها بالالتحاق بكلية الفنون الجميلة التي لازمتها في وعيها وخارج وعيها، وفي ليلةٍ سافر فيه الزوج لرؤية أمه المريضة، غلبها اليأس والاستسلام وأقامت طقوس خيبتها معلنة انكسارها ووحدتها، فاستغلّ صاحب ورشة النجارة التي يعمل بها الزوج أجيرًا تلك الفرصة، وعلى حين مقاومة هشّة من دلال اغتصب حياتها قبل جسدها وبضراوة، ولسوء حظّها حملت في جوفها ثمرة للخطيئة، أنتجت صطوف الطفل الذي دفع ثمن ذنب لم يرتكبه، وعاش مشوّه الروح فهشّم مرايا الأمومة الحقيقية التي تتمثل بالفضيلة بفعل غير أخلاقي وهو اغتصاب جثة امرأة تشبه حبيبته).
لنبدأ من فعل الاغتصاب الذي من الممكن وفي حالات نادرة أن يثمر عن طفل وإن اختلفت الظروف والمصير للضحايا، يعدّ الفعل المدمّر أشد فتكًا من الحروب لأنه يدمّر الإنسانية بصمت، فكم من فتاة انكسرت واهتز كيانها وتزلزلت فعاشت بين الأحياء وهي شبه ميته نتيجة هذا الفعل المشين لا تجرؤ أن تخبر أحدًا كيف سلبت روحها منها بسبب اغتصاب. الاغتصاب لا يشمل معاناة الأم وتحطيمها فقط بل يتعداها إلى الطفل الذي يدفع عمره ثمن ذنب لم يرتكبه يقول إميل سيوران” أمن أجل نشوة لا تتعدى تسع ثوانٍ يولد إنسان يشقى سبعين عامًا”.
إذن في السرد قوّة خفيّة تجذبنا لنفكّك طلاسمه وفي الرواية الكثير مما يدعونا لنقرأها بعد جمال اللغة والأسلوب، وبدءًا من العنوان المثير دعونا نستنطق الكلمات والأسماء للكشف عن ذواتها، فالاسم والمضمون شأنهما شأن الدّال والمدلول، والعنوان ابتدأ بكلمة ” رجل” للوهلة الأولى وقبل إضافته إلى كلمة المرايا ليتم تعريفه بدا أنّ الرّجل هو الكائن الأول وكينونته سبقت كينونة الأنثى ولكن ما الذي كانت تعنيه كلمة رجل في حياة دلال؟
لم يكن اختيار اسم دلال للبطلة عبثيّا، فوالدها هو الرّجل الأول في حياتها بلا منازع، الرّجل الذي أوضحت كيف أغدق عليها بالمحبة والعاطفة والكثير من التدليل، والطفل إذ يتعلّق بأحد والديه فهو حتما سيكون ذلك الذي يزوده بالإدراك الذي يحقق أناه منذ الطفولة، فشكّل فقدانه المفاجئ عقدة النقص للغياب، وغاب في حياتها معنى كلمة رجل بكل ما تحتويه الكلمة من معانٍ ينضوي تحتها كلمات أخرى كالحماية والملاذ والأنيس والشريك المساند في الحياة بغياب الوالد، ولم يكن ليعوضها أحد، فقد ذكرت في عبارة ص 13( أكانت ساعة من الزمن تلك التي وقفتها دلال أمام قبر والدها؟ ساعة تحولت خلالها الدنيا إلى قبر كبير أودعت الفتاة فيه الكثير من أحلام باغتتها يد القدر وباتت صاحبتها تعلم أنها لن تحققها يوما ساعة صار القبر كونا والكون قبرًا) في هذه العبارة حولت دلال كينونة وجودها الحي المتحرّك إلى ثبات الموت بلا إدراك، معلنة بذلك سلبيتها وتوقف كل مساعيها نحو الأمل والتغيير، حتّى أن الزوج ديبو لم يرتقِ إلى مستوى يلامس تلك الرتبة التي وضعت فيها والدها وميدالية الأحلام خاصّتها، وخاصة بأن صفات الزوج لم تكن مريحة لها بأنّه في بداية الصلع له عينان تنخفض زواياها لتصبح وحشية والملامح تنم عن الحزن والتشاؤم اشترك طبعُه بهما. وظلّ سلبيًا منكمش التعابير، ومسالمًا بلا هوادة، يحب العزلة الاجتماعية فلم يرغب بزيارة الجيران ولا استقبالهم في ظل غياب أهله في القرية، كان هادئًا حدّ الموت. فكيف لامرأة كانت تحمل روح النزق والحيوية وحبّ الفن والتمرّد والجمال أن تتواءم مع تلك الطباع، وكيف يتم الجمع بين الحياة والموت؟
مع ذلك هي رضخت ولم تحرّك ساكنًا وفضلت الاستسلام لقدرها والرضى بخيبتها في منتهى الغربة والصمت.
وحسب إدلر فكل إنسان يعاني من عقد نفسيّة إما أن تكون عضويّة، وإما أن تكون نفسية كما في حال دلال بعد غياب الأب الذي شكّل لديها عقدة نفسية، ولكنها لم تسعى لتفادي هذا النقص بعد صدمتها بالزوج الضعيف إنما استسلمت للخيبات والانكسار.
والفتاة التي نشأت في أسرة تضم (أم وثلاث بنات) بلا أخ وعانت بعد وفاة الأب لم تستطع أن تحلّ مقام الذكر في مهامه حيث أنّ هذا الأمر يلقي عليها التزامات لا تنسجم مع استرخائها الداخلي، خاصة وهي الأنثى الرّقيقة التي طالما حلمت بالفنون الجميلة، فتحولت إلى شخصيّة عصابية هشّة، تنكسر بسهولة، وعند أول موقف صعب تعرضت له وهو هجوم أبو نعيم صاحب المنجرة التي يعمل فيها زوجها دياب لم تستطع مقاومته جسديا وإنما يتأتّى ذلك من شدة الضعف المعنوي ليس الجسدي، فالأنثى القويّة من الداخل وعادةً تتحوّل إلى نمرة في أوقات الشدّة لكن الاستلاب المجتمعي حفر موضعًا له في نفسها بسبب غياب الرّجل الحقيقي من حياتها، فكان بإمكانها أن تصرخ وتلمّ عليه الجيران ومع ذلك صمتت ورضخت له كلوح خشب جامد بيد نجار متمرّس، وحتى حين عودة زوجها من السّفر كان لديها خيارات كثيرة تبدأ بمصارحته، أو اللجوء للشرطة، وأيضًا فضلت السّكوت الآثم إلى آخر لحظة خوفا على ابنيها من زوجها فهي لا تريد أن تخسرهما في حال لم يتفهّم الظلم الذي وقع عليها وقد يطلقها.
كذلك عقدة النقص عند دلال هي عقدة نفسية تشكلت وفق وعي تام، أوجدتها الظروف الاجتماعية، التي انعكست في البناء الماهوي لشخصيتها فكانت مسيطرة عليها تبرر فيها خيبتها وفشلها في الحصول على ظروف أفضل ( من وجهة نظري كان بإمكانها أن تعمل بمهن نسائية بسيطة كالحياكة أو الخياطة التي اشتهرت فيها النساء في بلاد الشام) لتساعد زوجها في الحصول على جزء من أمنياتها، وعلى الأقل في تجديد طلاء البيت وترميم شقوق السقف الذي ظلت تنظر إليه في تلك الليلة الوحشية قبل الاغتصاب وبعده وحتّى تلك الليلة لحظة حصل فيها ابنها صطوف على حضنها وحظي بالنوم قربها للمرة الأولى والأخيرة لكنها مع الأسف كانت لحظة موتها في سريرها.
فكانت سلبية جدا لم تقدم أي فكرة لمساعدة نفسها بالدراسة المنزلية أو غيرها وظلت غاضبة طيلة الوقت تجتر الخيبات، ما دعاها لاجتذاب طاقات سلبية أخرى وشريرة منها أبو نعيم المغتصِب فوصلت في النهاية إلى مرحلة اليأس الشديد بولادة الطفل المشوّه في نظرها وهي المرحلة التي يصعب فيها الخلاص من تلك العقدة النفسية التي أودت بها إلى تخيل أشباح وتوابع يلاحقونها طيلة الوقت وحان أجلها.
وكان التكوين الأنطولوجي لدلال وأبعاده الماهوية هو الدافع الرئيسي لإصابتها بالقلق والخيبة الناتجة عن عقدة الشعور بالنقص الحادة.
ولو انتقلنا إلى الكلمة التي أضيفت أليها كلمة رجل ستكون المرايا، إن المرايا هي وسيلة لصهر الزمن الميت في الزمن الحي، فهي على المستوى المعرفي حالة من التحوّل المتواصل في تسلسل الذّوات وإحالتها المستمرة إلى غيرها، وهذا ما كان في الحدث البشع الذي تمثل في الاغتصاب ثم ولادة الطفل صطوف ليغدوا بعد ذلك رجلا هشّا مشوّها نفسيّا. فأصبح رجل المرايا المهشّمة انعكاسًا لروح دلال المهشّمة في الأصل. وإن لم تكن البطلة دلال موجودة في النهاية بسبب موتها المبكر، لكن صطوف وهو ثمرة الخطيئة فهناك مستويين لمناقشة شخصيته:
-الأول من خلال دلال الأمّ التي صنعت شخصية صطوف المشوّهة في ظل غياب فضيلة الأمومة رغم تواجد الأم والمرحلة المرآويّة.
(وحسب لاكان الذي قسم تكوين شخصية الطفل بمراحل المرآوية وما قبل المرآوية، أما المرآويّة فهي المرحلة التي يكوّنها الطفل بالآخرين بعد أن يجتاز شعوره بذاته، وذلك باستخدام المرآة، فهنا كانت العلاقة بين الطفل وذاته بعيدة عن واقعها، وتأتي اللاواقعيّة بثلاثة مستويات تفاعليّة: 1- يتفاعل مع صورته في المرآة، 2- يحدث انزياح في موضوع صورته كشيء واقعي يتوقّف عند مستوى التّفاعل، 3- مرحلة التقمّص لشخصيّة الصّورة في المرآة ويتعامل معها بأنها صورة لشخص آخر. من ثم يحدث التحوّل في الذّات ويبدأ معها مرحلة التنافر التي تولدها المرآة بين الذّات وواقعها، وهذه المرحلة لم يمر بها صطوف لأنه مزروع في رأسه فكرة أن خدّه الأيمن مشوّه منذ الولادة فصار يخاف من النظر إلى المرآة، وحتى عندما كبر عمل نجارًا ويصنع غرف نوم ظلّ يتحاشى أن ينظر في المرآة. إن التنافر بين الذّات والواقع يُنتج فضاءًا من الاختلاف بين الطّرفين، في مفهوم خلق صيغ إنتاج مشتركات بين الطرفين ومن يطابق مَن، لكن صطوف خسر هذا التطابق النفسي الذي كان يجب أن يتولد لديه بعد التنافر في مرحلة المرآوية فظلّت شخصيّته مُبهمة بالنسبة له، فهو الولد اللطيف المهذّب في نظر الجميع ولكنه الطفل الغاضب في ذاته ذلك عندما أقدم على فعل الاغتصاب خرج صطوف الحقيقي الذي كان يخفيه خلف المثاليّة.
وذلك بعد أن استقبلته بالصراخ والخوف حين قالت” أبعدوه عني.. هذا ابن الشيطان”، وقالت لزوجها” سمّه ما شئت، سمّه ابليسًا إن أردت” ورمته جانبًا كما لو كان وسادة على السرير، وكأنها لا تراه ولا تريد أن تسمعه فظلّت مفجوعة، وكانت هي حجر الأساس الأول الذي بنيت عليه شخصية طفلها، إذا ما كان الأساس هشّا فكيف سيستقرّ البناء ولا يتهدّم. فهي بعقدتها لابد لها أن تضع اللوم على شخص ما لتهرب من الالتزام نحو الطفل.
-والثاني وحسب “سيكولوجية الإنسان المقهور” وهو بالمناسبة عنوان كتاب للمفكر وعالم النفس اللبناني الدكتور مصطفى حجازي، فنستطيع القول أن صطوف هو الشخصية المتخلفة بنظر المجتمع المنطوي على ذاته صاحب التردد والحركات البندولية غير الإرادية في نصفه الجسدي العلوي كلّما قابل امرأة كان صناعة دلال الأم بامتياز فهي التي صرخت لحظة رؤيته للمرة الأولى وهي التي نبذته ولم ترضعه حليب من ثديها فخسر كل مشاعر الأمومة المصاحبة للرضاعة، و لم تحتضنه أبدا حتى لحظة التي سمحت له بأن يحتضنها كما اعتقدَ ببراءته كانت ميتة)، فشكلت بأفعالها الملامح النفسية الأولى لوجود التخلف النفسي للطفل، فالتخلف وإن كان في جوهره استلاب اجتماعي إلا أنه يولّد استلاب نفسي على المستوى الذاتي الفردي، فهو وأقصد صطوف الولد الذي عانى من القمع والنبذ والقهر، والتسلط سواء من الأم أو تجاهل الأخ الأكبر ناجي، والأخ الأوسط سالم إلا بنسبة ضئيلة منه فكان ينظر له بشفقة، وكذلك من الزملاء في المدرسة الذين تعرضوه وضربوه فشعر بفقدان كرامته الإنسانية، حتى المعلمة كانت سلبيه بحيث لم تنصره ولم تشجعه وتقوي من ثقته كمربية بل تركته يأخذ زاويته بصمت معتقدة أن حركاته تلك تحرجه فهي ستحفظ له حقه في الخصوصية والاحترام ولم تسهم في دمجه مع أقرانه، فتحول إلى مجرد شيء صديقه الوحيد هو الكائن الفرائي القطّ الأعور الذي اكتشفنا في النهاية أنه ميت منذ زمن بعيد، فصار صطوف مجرد أداة لمساعدة إخوته وزوجة أبيه بعد وفاة أمه. لا يحمل أي قيمة ذاتية فتحوّل إلى إنسان متخلف في نظرهم، ما دعا أهله لأن يبعدوه عن الدراسة برغم تفوقه معتقدين أنه لا أمل له، وانخرط في ورشة النجارة ليتعرّف إليه أبو نعيم عن قرب ويدرك بعض الشبه في تفاصيل الجسد بينه وبين الطفل وتلك المفارقة التي تمت بموت ابنه في نفس يوم ولادة صطوف، ولكن ذلك لم يغير شيئًا في القصّة وأثبت صطوف تميزه في العمل بورشة النجارة ثم دخلت زوجة الأب الجديدة إلى حياته فانتبه إلى وجود امرأة أخرى في البيت وبدأ يسأل أسئلة من منحى آخر لتذهب إلى منحى الوجودية وطرح السؤال الأهم على نفسه؟ من أنت؟ وماذا تريد في الحياة؟ بدخول هذه الانثى جديدة وهي ابنة أخت زوجة الأب فانقلبت حياته رأسًا على عقب وصار يشعر بأهميّته ونبضه ويستحم في اليوم الذي تزورهم فيه الفتاة ويتعطر بل ويبتسم، وعاش تجربة الحبّ من طرف واحد بكل جمالها مع ” مها” ابنة أخت زوجة أبيه، وسرعان ما اصطدم بالواقع، بعد أن فطن لهيئته التي بدا فيها شبه مختل وأنه تارك للتعليم، وكسره أكثر أن أخاه سالم الوسيم الجامعي كان يحبّها وهي تبدي موافقتها لذلك الحبّ حتى صارت زوجة أخيه بالفعل.
فتفاقمت عقدته النفسية عبر الإحساس الدائم بالعجز وتوضحت أكثر بعد أن عرض عليه أخاه سالم وظيفة حكومية تضمن له الأمان أكثر من عمل الورشة، وحصل على وظيفة حارس برادات الموتى ثم حصل على أول مرتّب منها ليشعر بالاستقلال التّام فاستأجر بيت صغير ليخرج من دائرة حياة أبيه وزوجته ويبتعد عن رؤية زوجة أخيه مها، ففوجئ بتقرب صاحب البيت الجار منه ليزوجه ابنته ( وافق صطوف وأهله كذلك برغم الأسئلة التي طرحت نفسها، لماذا يزوجه تلك الفتاة وهي صغيرة ومتوسطة الجمال)، لكن عقدة النقص التي تسيطر عليه أكثر وتفقده الثقة بنفسه تعاظمت حينما علم أن سبب تزويجه هو كونه ستارة تخفي خلفها رذيلة تضاهي فعل الاغتصاب وهي اغتصاب المحارم فكان الأب يجبر ابنته على القبول بالرذيلة بمنتهى العنف، ولم يستطع صطوف ان يواجه والد زوجته بفعل الرذيلة والاغتصاب المتكرر لابنته التي صارت عروسه، ما جعلها تهرب منه بعد زواجها الصّوري بأيام قليلة لتهشّم روحه أكثر فأكثر، ويعترف بعجزه النفسي عن المواجهة في أشدّ اللحظات التي كان يجب عليه كرجل أن يكون قويّا ويحمي زوجته من أبيها، تماما نفس اللحظة التي غُلبت فيها الأم دلال وتهشّمت وعجزت عن مواجهة المغتصب لها ودفعه عنها ولم تفعل أي شيء سوى الصمت فعكست المرآة ذلك الرجل صطوف في روح دلال، فولدت لديه عقدة العار لتتبع النقص، فالإنسان المقهور يخجل من عجزه وهوانه، ويعيش العار بينه وبين نفسه، الذي يتحوّل إلى غضب، والمقهور ليس فقط المشوّه الذي مثله صطوف إنما يمكن أن يوجد في أي مكان من العالم ليملك عقدة النقص وعقدة العار، فكم من أم غاضبة في بيت الزوجية مثلتها دلال وأنجبت أبنائها برضاها من زوجها بلا اغتصاب ومع ذلك بسبب القهر الذي تشكله المجتمعات والضغوطات الكثيرة التي لا تجد سبيلا إلى الحلول تجعلها تربي أبنائها بكمٍّ من العنف والغضب فامتلأ المجتمع بصطوفات آخرين كحالات جماعية مملوءين بالعقد والنقص والقهر.
ذلك وأشد على يدّ الكاتبة في طرح هذا الموضوع الهام جدا برغم أنها فاقمته بالاغتصاب وجعلت منه حدثًا مثيرًا ولا فتًا أكثر، لكن الأصل والكثرة في المجتمعات هو النساء المقهورات في بيوت الأزواج لأسباب عديدة الذين يربون أبنائهم تحت العنف والقهر أو الدلال والإهمال، وذلك يعود لهشاشة المرأة أولا، فهي إما ابنة عانت من تشكل غير سوي في شخصيتها أثناء الطفولة وإما زوجة مع رجل لم تتناسب فكريا وروحيا معه، وأرجو من الكوادر التربوية أن يزودوا الطلاب والطالبات في المناهج المدرسيّة بحصص تدعم تكوين الشخصية والثقة بالنفس، كذلك أن يحصل المعلمون والمربون على دورات تثقيفيّة للتعامل مع حالات منفردة أمثال صطوف.
في النهاية دفع فعل الانتقام صطوف برد الاغتصاب الذي تعرضت له دلال باغتصاب أبشع منه مع جثة عروسة متوفاة قبل ساعات ، وبحسب عمله الذي يتيح له لقاء الموتى واستلامهم فهو حارس برادات جثث، بانعكاس حقيقي مثلته المرآة، وهكذا ارتبط الاسم بالمرايا كلّيا، فالبطلة غير موجودة لكنها أحالت ذاتَها إلى ذاتٍ أخرى وهذا فع المرآة، وهو( صطوف الذي عاملته أمّه كطفل مشوّه الوجه إنما في للواقع لم يكن كذلك، فلم يكن سوى انعكاسًا لذات البطلة دلال المشوّهة بسبب فعل الاغتصاب الآثم الذي تعرضت له ولم تستطع الدفاع عن نفسها، أو الاعتراف لزوجها مخافة أن يطلقها ويتهمها بالفجور ويسلبها ابنيها).
إن انعكاس النقص الذي تشكّل في شخصية الأم عبر المرايا على الولد هو الذي دفعه لفعل الاغتصاب مع جثة يتصورها مها حبيبته، فكان صطوف هو مرآة الأم المهشّمة.
في النهاية كانت ثيمة الغضب من كل الظروف المحيطة التي بدأت بغياب الأب وتبعتها الأحداث، بمثابة لعنة لازمت روح الزوجة الأم فسلبتها أجمل ما يميزها في الكون كأمّ وهو الرحمة والحنان والتّضحية، والزوجة السلبية التي لم تمنح زوجها أيّا من المساعدة اللازمة لصنع حياة أفضل فرضيت بالخيبة.
أبدعت الكاتبة لبنى في وصف تسلط الأمهات المقهورات وجعلتهم المسؤولات عن تنشئة أجيالا مهزوزة لا تملك الثقة بنفسها، وينقصها الكثير من المحبة اللازمة لبناء شخصياتهم، فنحن على مستوى التربية وسيكولوجية الطفل يلزمنا المعرفة. ليس من المهم أن أمنح الطفل طلباته لأثبت له أنني أحبه، أو أغدقه بالدلال لأعتقد أنني أم كاملة. في المقابل ليست الشدّة المعنِّفة نفسيًا هي الحل، إنما الموضوع برمته هو بمثابة طبخة صنعت بحبّ بلا مقادير ثابتة تجيدها فقط الأمهات اللواتي يمتلكن سلوك نفسي قويم، أولئك الذين يرفقن بالأطفال ويمنحوهم حقوقهم الكاملة على الأقل في الاحترام وبناء الثقة إن لم تكن المحبة حاضرة.
بلغة شعرية وارفة وعبارة طويلة مزخرفة لكنّها مُنتجة أبدعت الروائية في سردها وكانت رسالتها الواضحة حول ثيمة الغياب: ” أن الأم هي مرآة للطفل وبغياب والحماية عنها الذي لم تستوعبه غابت هي عن حياة طفلها بشكل كلي”. فاقتص صطوف لأمه من الأموات.