الطبعة الأولى – 2020
دار يافا العلمية للنشر والتوزيع – الأردن
سبق أن قرأتُ للكاتبة فاطمة النهام مجموعة قصصية بعنوان “يوميات أخصائية اجتماعية”، التي أظهرت فيها موهبتها الكتابية باحترافية عالية، وسردية واقعية تليق بمتخصصة في هذا المضمار.
وبعد مضي أكثر من خمسة أعوام، عدت لقراءة مجموعتها القصصية الجديدة “مقهى الموت”. لفتني الغلاف الجميل والرسومات الداخلية الجذابة، فاسترسلت في قراءتها وتعمقت في معانيها، ووجدت نفسي أمام إنجاز عائلي رائع؛ إذ تقدم نموذجًا مميزًا لأمٍّ تكتب وتشاركها ابنتاها أمل وأسيل في رسم مضمون كتابتها، فشكّلت بذلك نوعًا أدبيًا عائليًا مميزًا للقراءة، وقدوة مُلهمة في تبني مواضيع تُظهر أهمية الأسرة، والعمل الجماعي، والإحساس بالفرد والاهتمام به.
وبما أن الكاتبة متخصصة في المجال النفسي، فقد استندت إلى مرجعية علمية ونفسية واضحة، عالجت بها كل فرد في المجتمع بغض النظر عن عمره أو حالته. وقد أبدعت بجرأة في اقتحام مجال الفلسفة في هذه المجموعة.
تجلّى إبداعها في قدرتها على استحضار الصور والمشاعر والسيناريوهات الحيّة إلى ذهن القارئ، متجاوزة حدود الواقع لتترك بصمتها الخاصة، من خلال تنوّع فريد في الطرح.
وقد تمكنت من الموازنة بين عتبات نصوصها والمواضيع التي طرحتها، عبر انتقائها شخصياتها بعناية فائقة، ونسج حبكتها بأسلوب فني لا يخلو من القيم والرسائل الأخلاقية المثيرة للتفكير.
كما وظّفت قدرتها على إحكام الأسلوب السردي المشوق، الذي يتخلله عنصر المفاجأة، في خدمة فكرتها بأسلوبٍ جذاب.
استطاعت بإيجاز أن تركز على فكرة واحدة في كل قصة، لتكون محورها المركزي دون تشتيت، متحركة ضمن مساحة ضيقة لكنها عميقة تخدم فكرتها بإحكام.
كما جاءت الرمزية والإيحاءات مناسبة للمواضيع المطروحة، وفي إطار محدود، مع براعة واضحة في انتقاء الكلمات المناسبة لبناء أدبي يخدم المعنى القصصي.
وقد اختارت شخصياتها بعناية من حيث العدد، والتركيب، والتطوّر، لامتلاكها مهارة عالية في انتقاء الأبعاد النفسية والدرامية الملائمة، مبتعدة بذلك عن النمطية، وغاصت في العمق النفسي للشخصيات، ومستوى تعقيدها الإنساني، وعلاقتها بنفسها والآخرين.
أظهرت الكاتبة الصراعات الداخلية وما يتبعها من تحولات خلال الأحداث، دون إغفال أهمية الشخصيات الثانوية حيثما تطلب الأمر ذلك.
أبدعت في اختيار البيئة الاجتماعية المناسبة لكل شخصية، بما يخدم الفكرة والفكر على اختلاف روافده، ويتوافق مع بدايات القصص أو حسم نهاياتها، بأسلوب سلس وجاذب، لا يخلو من التناقض أو عنصر المفاجأة أحيانًا.
أسلوبها الخاصّ لا يخلو من التأثير القوي في القارئ، إذ تمتلك قدرة فنية على استثارة الحواس، والتلاعب بتقنيات سرد الزمن، لبناء حبكة متماسكة دون إطالة.
كما أبدعت في توظيف لغة سرد مناسبة تُظهر سعة اطلاعها وحرصها على توعية وإنارة المجتمع بقلمها المتميز.
جمالية الجو العام للقصص ساهمت في نجاحها في نقل الفكرة العميقة، مستفيدة من الصور البلاغية، والتشبيهات، وتنويع القضايا، مع التركيز على العلاقة بين الموت والحياة والحرية الشخصية ضمن إطار ضيق، لكن مؤثر في فكر القارئ، بوقع عاطفي غني ومتنوّع، يعزز التأمل والتفكير في كل بداية ونهاية.
وباختصار، وبعد قراءتي لعتباتها الثلاثة عشر:
الجمجمة، الحذاء القديم، الغرفة 9، المرأة الأخطبوط، عازفة الكمان، غرفة الكشف رقم 7، حقيبة السفر، ثوب النشل، السكينة، ورود البنفسج، مقهى الموت، الشهيدة، وأمل… خلصتُ إلى أن الكاتبة حرصت على غرس بصيص من الأمل في ختام مجموعتها.
في الجمجمة، تنهي القصة بصوت يصدر منها ليكون صوت الحبيبة، بعد صراع نفسي مرير للبطل.
في الحذاء القديم، طرحت قضية العلم والعمل، وتأثير الجمل الموروثة من الأهل على مستقبل الأبناء، لينتهي المشهد باحتراق الحذاء كرمزية للتحرر.
في الغرفة 9، نعيش مع الخزعبلات والأشباح، والنهاية المفتوحة تثير سؤالًا: هل الغرفة مسكونة؟
في المرأة الأخطبوط، تناولت عالم التشوهات النفسية والجسدية، وقصة حب تتعطل بسبب قفاز يُخفي التشويه.
في عازفة الكمان، نُقلنا إلى لندن مع أماندا الفقيرة، وحلمها المعزوف فقط في الخيال.
في غرفة الكشف رقم 7، تتعمق الكاتبة في وهم الزوجة حول طفل مفقود، وتعبّر عن الإنهاك النفسي الطويل.
في حقيبة السفر، سلطت الضوء على انقطاع الأب واختفاءه الغامض، دون تفسير واضح.
في ورود البنفسج، قصة حب تنتهي بإحباط ولكن بإخلاص، تُظهِر أن الحب لا يموت.
في ثوب النشل، سردت بلغة بحرينية جميلة معاناة المرأة من الزواج الثاني، وقدّمت نهاية رمزية مؤثرة.
في السكينة، وصفت ألعاب الطفولة بحسّ مرهف، وانتهت القصة بموت الأب وتحطم الأماني.
في مقهى الموت، جمعت الفانتازيا والواقع في قصة عن صحفي ضحية وسط عالم من الوحوش البشرية.
في الشهيدة، سُردت يوميات من أرض محتلة، وفقدان مستمر في مشهد مؤلم لاستشهاد الأخت.
أما في أمل، فالحب أقوى من الموت، وسردٌ مؤثر لوقع فَقْد الأم، لكنه مليء بالعزيمة والاتكال على الله.
وفي الختام، أبارك لكِ كتابكِ هذا، ولو جاء متأخرًا، وأعتذر لتأخري في قراءته رغم أنني قرأته أكثر من مرة. لكنني اليوم وجدت أن نبض حرفكِ لا يزال مؤثرًا، فهو صالح لكل زمان ومكان.
وفقك الله أينما كنتِ، وأوصي أن تقتنيه كل أسرة تربوية لتتعظ بما قدمتِ من رسائل أدبية ثرية.

د. أمل بورشك
اتحاد الكتّاب والأدباء الأردنيين – عمان
10/5/2025