تعد الأمهات هن الأكثر قدرة على ابتكار الأجوبة، لما يواجهنه من تساؤلات أطفالهم الشبقة، التي تهاجمهن بغتة، فتتطلب منهن اِستحضار خطوط دفاعهن بشكل مستمر؛ لكن يحق لي القول إن أمي واحدة من أكثر الأمهات تسلحًا بالأجوبة، فقد اِمتلكت في جعبتها ما جعلها قادرة ليس فقط على مواجهة أسئلتي التي أستقيها من مارد خيالي، بل أيضًا سقي ذلك الخيال الخصب. المبهر في الأمر أنها حتى يومنا هذا لا تدرك مدى ما تركته إجاباتها داخلي من تأثيرات. لذا دعني أخبرك بأكثر الإجابات إلهامًا في طفولتي
طوال طفولتي اِمتلكت حلمًا، كان بسيطًا تمثل في الرغبة بالخروج للشارع في منتصف الليل، وداخل منزل كمنزلنا يغلق أقفاله قبل الساعة العاشرة، ولأني كنت أخلد إلى فراشي في تمام التاسعة، كنت أشعر بلذة الانتصار إذا بقيت مستيقظة حتى الساعة الحادية عشر، وقد فعلتها أكثر من مرة؛ لكن الإنسان كائن مصاب بداء الطمع في تكوينه، فبعد ثلاث مرات تأكدت فيها من بقائي مستيقظة حتى الحادية عشر مساء، أشاهد فيلم السهرة، بدأ الطموح يراودني لأبعد من ذلك، فبدأت أحاول التسلل للشرفة والنظر منها في الحادية عشر مساء، ولم يكن من عادتنا الوقوف في الشرفة – حتى نهارًا- لأن ماما أخبرتني أن رأس الإنسان أثقل من جسده، وهي معلومة صحيحة، لكن ينقصها الجزء الأخير منها رأس الانسان أثقل من جسده في وضع معين، حين يكون رأسه مائلاً للأمام بموازاة جذعه تقريبًا؛ لكن بالنسبة لأمي، لم يكن الجزء المتبقي ذو أهمية كبيرة، وأنا بالطبع لم أكن أرغب بالوقوع من شرفتنا وقتها لتكسر رقبتي، فلم أكن أخرج للشرفة، ويبدو أن والدتي كانت تملك رؤية أبعد عن حدود مارد إبنتها الصغيرة المتحكم برأسها، فما إن حققت انتصاري الثاني ونظرت من الشرفة في تمام الحادية عشر والنصف مساءً، اِرتفع صوت برأسي يقول: ماذا لو خرجت للطريق الآن؟
وعلة الرغم من محاولاتي إسكاته لكن صوته كان مرتفع، وبعد وقت ليس بقصير قررت عرض الأمر على أمي، وتحويله من أمنية إلى طلب، في البداية تجاهلتني أمي، كانت واقفة بالمطبخ تعد الغداء، وهي حجة كافية في كثير من الأحيان، لكني لم أستسلم، ووقفت أردد السؤال أكثر من مرة، فلم تجد حلاً إلا الالتفات لي قائلة: “لا يجوز أن تخرج الفتيات إلى الطريق ليلاً”
أجبت: “لأني صغيرة؟”
فقالت: “بالضبط”
كان تساؤلي كالنجدة لها، لكني أكملت متسائلة
“حين أكبر يمكنني الخروج ليلاً؟”
كان يمكن أن تتجاهل أمي التساؤل، وكنت سأرضخ، وأضم أمنيتي لقائمة الأمنيات اللاتي دونتهن حتى موعد أبلغ فيه مبلغ الكبار، لكن أمي قررت أخذ حذرها فأجابت: “لا، ولا حتى حين تكبرين، لأن لا أحد يسير في الطريق ليلاً باستثناء الراقصات”
كانت جملة فتحت أبواب خيالي الواسعة التي يجلس خلفها جبل قاف ذاته بجنه وعفاريته متربعًا، بل وتتسع الرقعة لجبلين جانبه
لم تكن أمي تعلم أني بداخلي أضمر للراقصات محبة وإعجاب، تمامًا كإعجابي بكل ما هو مختلف عن عالمي ولا يشبهني. ومن وقتها أصبح جزء من خيالي مقتطعًا لتخيل راقصات حَيِّنا، ما أشكالهن؟ وماذا يرتدين؟ فاكتشفت بدلات الرقص، والشمعدانات التي وضعتها الراقصات فوق رأسهن بالأفلام، ورحت أتأمل تغير تصميم بدلات الرقص بين أفلام الأبيض والأسود والألوان
أذكر يومًا صرخت فيه مشيرة إلى التلفاز، حين رأيت نجوي فؤاد ترقص بفستان سواريه وليس بدلة رقص، كنت أخشى ان تكون التصميمات المعتادة تغيرت دون اِنتباه مني
وبعد سنوات، تسللت خلالها أكثر من مرة إلى الشرفة في موعد متأخر ورأيت أشخاصًا يسيرون، وعدد قليل من النساء، لكنهن لا يرتدين بدلة الرقص، نغص الأمر مضجعي طوال الليل، حتى فكرت بإطلاع ماما على هذا الحدث الجليل، لكنها كانت نائمة وقتها؛ فاضطررت للانتظار لليوم التالي
أثناء الليل وجبت الإجابة داخل رأسي: “لابد أنهن يبدلن ثيابهن قبل الخروج من أماكن عملهن”
استطعت النوم بعد ذلك التبرير الموفق
مرت سنوات وخلال مرحلة الإعدادية والثانوية تقريبًا توقفت عن التفكير في الأمر؛ لكن أحيانًا كانت تطرق رأسي أسئلة على شاكلة: “هل يعدن بصحبة فرقتهن أم وحدهن؟ وهل تشرب الفرقة الخمر؟ هل يركبن ميكروباص واحدًا أثناء عودتهن معًا حتى لا يضطررن للركوب مع المواطنين العاديين؟”.. لا أذكر باقي الأسئلة، لكني واثقة أن جميع تلك الاحتمالات لم تزدني إلا إعجابًا بالراقصات، وتمنيت لو رأيتهن وصادقت إحداهن، بلغ إعجابي بهن ذروته بعدما شاهدت فيلم “الراقصة والسياسي” لنبيلة عبيد، التي تعد أجمل راقصة بنظري ولازالت
وبعد ثلاث سنوات من دخولي الجامعة والتحاقي بكلية الهندسة التي تتطلب مشاريعها الدائمة العودة بوقت متأخر، أو النزول في أوقات تسبق الفجر لحجز دور لك في طابور طابعة البنرات، وبالتحديد كان يوم تسليم المرحلة الأولى من مشروع مادة التنفيذية. خرجت في تمام الساعة الثانية والنصف فجرًا ورافقتي أمي إلى المكتبة الهندسية الأقرب لنا، وكان يفصلها عنا مسافة خمس عشر دقيقة في الطريق الرئيسي، كنت أسير بجانب ماما برأس منحن من أثر عظام متكسرة من ساعات السهر على مدار الأيام السابقة، وبين الفينة والأخرى أتحسس جيبي للتأكد من وجود “الفلاشة” حيث تستقر ما يزيد عن خمس وعشرون لوحة بصيغة الـ pdf والملف الأصلي بصيغة الـ”أوتوكاد”، والذي أرسلته للإيميل الخاص بي أكثر من مرة، تجنبًا لأي كارثة يمكن أن تحدث لحظة الطباعة والتي لا تمنعها أي احتياطات متخذة من قبلي
عند المكتبة أسندت رأسي المنتفخة وجاهدت لفتح عيني النصف نائمة لتراقب لوحاتي تخرج من آلة الطباعة. كانت اللوحة مليئة بالأخطاء، وجزء من الخط غير واضح والأبعاد غير متشابهة وفي لحظة أدركت أن اللوحة التي تخرج حاليًا هي لوحة مستخرجة من ملف قديم لم يشهد التعديل الأخير؛ لكني لم أعترض فقد انخفضت طموحاتي في تلك اللحظة حتى باتت أقل من طاقتي المتبقية والتي تعينني بالكاد على الوقوف وحمل اللوحات والذهاب للجامعة
بعد خروج اللوحة الأخيرة، ولا أظن أنها ستعينني على الوصول لمسجد الكلية لإلقاء جثتي الهامدة حتى موعد استلام نتيجة اللوحات المسلمة بالمرحلة، وفجأة أطلت علي ذكرى من موضع ما برأسي، حين سقط حبر أحمر فوق الأرض، كان الرجل المسؤل عن الماكينة قد أحضره ليبدل علب الحبر الفارغة بها، و خرجت من فمي كلمة متحمسة: نبيلة عبيد
لم يعرني أحد انتباهًا، فمن بين الطلاب الواقفين لم ينم أحد، والتخاريف في تلك اللحظات أمر مباح، لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك الحد، فجأة استجمعت قواي وخطوت خارج المكتبة، نزلت الدرج ووقفت أتلفت من حولي، كان الشفق يطل بشعاعه الأول مخترقًا السماء الكاحلة، بقيت أتلفت يمينًا و يسارًا، حتي خرجت ماما متسائلة عما إذا كنت قد أضعت شيئًا، فانتهزت الفرصة وسألتها: “أين الراقصات؟”
لم تفهم سؤالي في البداية فاضطررت لتذكيرها بما قالته لي في الطفولة، والعجيب أني كنت لازلت مؤمنة بالأمر إيمانًا عميقًا، بالرغم من ثبوت عكس ذلك مرات عديدة، لكن يقين الطفولة كان مسيطرًا علي، ولم أكن لأقبل بضحكة ماما الهازئة لحظتها، فوقفت أنظر إليها نظرة جادة انتظر إجابة واضحة ومحددة: “أين الراقصات؟”
وبعد لحظات أدركت ماما وضعها الحرج، فالواقفة أمامها الآن ليست إبنتها فقط، بل إبنتها التي لم تنم منذ وقت طويل، وقد صرخت لتوها باسم نبيلة عبيد، أي يمكن أن تقدم على أي تصرف الآن، وليس من الحكمة الاعتراف بالكذب عليها في الطفولة
بحثت أمي داخل جعبتها مجددًا حتى وجدت الإجابة، فنظرت إلي بثقة قائلة: “لن ترينهن، لأن راقصات حَيِّنا ينمن مبكرًا”
و الواقع أن أمي لم تكن وحدها داخل أسرتي التي تستحضر أجوبة ملهمة، بل أذكر أن أختي أخبرتني يومًا أن جارتنا التي تسكن في العمارة المجاورة لنا هي ذاتها “أبلة نظيرة” التي كانت تطل علينا في إعلانات المنظفات تمسك قطنتها وتمررها فوق أحد الأسطح، ثم توجه نظرة واثقة إلى الكاميرا، وهي تقول بنغمة موسيقية: “والقطنة مبتكدبش”، ولم يتطلب الأمر الكثير من الجهد لأصدقها، فبشكل ما طابق خيالي صورة جارتنا تلك مع ما علق برأسي من صورة “أبلة نظيرة”، و لم أكن أرى جارتنا إلا وهي تنظف “تندة” الشرفة خاصتها، أو الهاندريل. وأذكر أنها كانت تعطي لأمي نصائح عن المنظفات، لذا لم لا تكون هي “أبلة نظيرة”؟، وفي يوم أخر كنت لتوي قد أخذت الهرم الغذائي في مادة العلوم، وكنت منبهرة بأن النباتات من فواكه وخضراوات كائنات حية، ولأني أحب الموز محبة القرود له فقد أمسكت بموزة وما إن بدأت بتقشيرها حتى تذكرت أنها كائن حي فنكزني ضميري، وبقيت وقت بين تعذيب معدتي وتأنيب ضميري فقررت الاستعانة بأختي وسؤالها إن كان تناول الموز حلال أم حرام، فهو بالنهاية كائن حي فهل يجوز أم لا؟ فصمتت طويلاً، ثم نظرت لي بثقة وأجابت
– لا لا يجوز
– لماذا؟
– لأن النباتات كائن حي
ثم استطردت حين رأت الحزن علي
– صحيح أن النباتات كائن حي، لكن الموز ليس نباتًا، هو حيوان
نظرت إليها نظرة شك استشعرتها فسارعت بالإجابة قائلة
– الموز حيوان لأنه يملك عمود فقري، هي تلك السلسلة الواقعة داخل منتصف قطره
توقفت عن تناول الموز بعدها لمدة ثلاث أيام وبمجرد ان اشترينا كمية جديدة من الموز نسيت وعدت لتناوله بشراهة، متصالحة مع حقيقة أنه حيوان، لكن أليس السمك والدجاج حيوانات أيضًا؟
السنوات تمر ونسيان خيالات الطفولة نكبة بنظري، ولازلت واثقة أن شخوص خيالي الطفولي هن الأكثر إمتاعًا من شخوص خيالي الحاليين، والأهم أنني كلما تأخرت إلى يومنا هذا تقول لي ماما: “راجعة متأخر زي الرقاصات!!”
اسلوب سرد رائع وممتع ،اختيار الكلمات جعل القارئ كأنه يري المشاهد والمواقف الحوارية بعينيه وليس مجرد كلمات يقرأها بلسانه فقط ،
استمري وبالتوفيق دايما إن شاء الله