نجاة الصغيرة.. لزمن طويل كنت أستغرب الصفة؛ الصغيرة، فهي ليست صغيرة مقارنة بشادية وفايزة أحمد ووردة وغيرهن، ثم عرفت أنها بدأت الغناء طفلة، وكانت “نجاة علي” إحدى نجمات الغناء في ذلك الوقت، فأطلق لقب الصغيرة تمييزًا لها، ثم نسى الناس نجاة علي، وأصبح اسم نجاة يشير مباشرة إلى المطربة التي أتحدث عنها الآن، قرأت أن والدها كان يجعلها تشرب الخل لتظل صغيرة ولا تنمو سريعًا حتى لا يفقد ميزة كونها “الطفلة المعجزة”، فتعاطفت معها، وأشفقت عليها، وأحببت أبي الذي لا يفعل معي مثل هذه الأشياء، بصرف النظر عن أنني لم أكن طفلًا معجزة أصلًا.
لم أكن لأصدق من يخبرني أن الفن له تأثيرات فيزيقية لولا أنني مررت بتجربتين، إحداهما تخص نجاة الصغيرة.
التحليق بالكمنجة
كنت وزوجتي في دار أوبرا الإسكندرية، مسرح سيد درويش، مطربات ومطربو الإسكندرية الشباب ذوو الأصوات الرائعة يشدون بأغنيات كبار مطربي مصر الراحلين، والمايسترو عبد الحميد عبد الغفار يقود الفرقة الموسيقية، ثم لحظة صمت، يقف عازف آلة الكمان (لا أحب اسم آلة هنا) د.إيهاب عبد الحميد، ليعزف “صولو” إحدى أغنيات ليلى مراد. يحتضن الكمنجة بعشق، يميل برأسه على صدرها، يغيب عن العالم، يصل إلى مقطع “أما أنا مهما جرى. ح أفضل أصون عهد الهوى”، ويكرره أكثر من مرة، وأنا مشدوه، أهمس لزوجتي بصوت ظننت أن كل من في المسرح قد سمعه، روحي ملتهبة حماسة “إنه يطير”، لم أكن أتوهم، كنت أراه بعيني اللتين سيأكلهما الدود بالهناء والشفاء، وهو يرتفع بحبيبته الكمنجه بضعة سنتيمترات عن خشبة المسرح. ظللت لعدة أيام محلقًا في سماء هذه التجربة، وعندما التقيت د.إيهاب في الأردن بعد ذلك بسنوات، حكيت له ما حدث، تعجب أنني لم أتحدث إليه ليلتها، أخبرته أننى كنت في فقاعة التجربة، ولم أكن أحب أن أخرج منها سريعًا، لكنه لم يتذكر تفاصيل تلك الليلة، وإن أخبرني أنه عندما يحتضن الكمنجة ويعزف يغيب فعلًا عما حوله.
طراوة صوت نجاة في حر الصيف
أما الموقف الذي يخص نجاة فقد كان بجوار دار الأوبرا أيضًا، لكن في القاهرة. في حر الصيف الشديد. أسير بجوار سور دار الأوبرا، حاملًا كيسين ثقيلين بما فيهما من كتب، لا أستطيع حتى أن أمسح حبات العرق التي تسقط من فوق جبيني على أنفي ورموشي، أشعر بالبؤس الشديد، وضيق الصدر، أذناي ملتهبتان بسبب أصوات أبواق السيارات التي تقف طابورًا طويلًا جدًا لا يتحرك. اقتربت من سيارة شباكها مفتوح، وليس بها جهاز تكييف، سمعت نجاة تغني “أما براوة براوة أما براوة.. دوار حبيبي طراوة آخر طرواة”، شعرت بنسمة هواء تجفف عرقي، وتنعش روحي، ومسام صدري تتفتح، وأصوات الأبواق العنيفة تختفي، ذهلت، فلم يكن هذا خيالًا، هذا ما جربه جسدي حرفيًا. ظللت أسير بجوار السيارة، في معية صوت نجاة، كأنه واحة في جهنم القاهرة، حتى وصلت إلى باب المركز القومي للترجمة، دخلت، فعادت مشاعر الاختناق والحر الشديد تغزوني.
لم تكن نجاة فتاة أحلام بالنسبة لي، لكني كنت أحبها هي وفايزة أحمد تأثرًا بجدي لأمى “سيدي العربي”، الذي لم يكن عاشقًا للغناء، لكنه يفتح الراديو طوال اليوم، كأن الأصوات القادمة منه مكملة لجو العمل بورشته، أراه ينتبه إذا أذيعت أغنية لفايزة أحمد أو نجاة أو آيات قرآنية بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، لدرجة أنه قد يترك ما بيده من يعمل وينصت باهتمام شديد ومحبة.
شوق نجاة يكسر الجليد
أشفقت على نجاة من جبروت صالح سليم، لدرجة أنني فكرت أن أسمم كلبه روي، وأضرب صالح نفسه في أنفه حتى ينزف، لكنني لم أفعل، فانا أخشى الكلاب، وأحب صالح سليم، ونجاة أحبته أيضًا عندما اكتشفت نبع الحنان في قلبه المخبوء تحت قشرة القسوة. وأحببتها وهى تقود الفتيات في رحلة الصيف إلى الإسكندرية، تغني “ع اليادي اليادي اليادي.. ياما جرح الورد أيادي.. حتى الجناينية”، وحسن يوسف وثلاثي أضواء المسرح يطاردونها ليحموها كما طلب أبوها عبد المنعم مدبولي الخائف على ابنته حد الرعب، كنت أضحك على مدبولي لمبالغاته، ما الذي يرعبه هكذا هذا الأحمق، نجاة لن يصيبها مكروه، لكنني عندما أصبحت “أبو البنات”، أشاهد الفيلم ولا أضحك على مدبولي، بل أتعاطف معه، وأتماهى مع مخاوفه، وأخشى على نجاة كإحدى بناتي.
لكن المفاجأة كانت في علاقتها غير المشروعة مع الصحفي محمود ياسين، فكرة الفيلم مكررة، قدمتها السينما المصرية والغربية كثيرًا، لكن مع نجاة ومحمود ياسين ننسى كل الاعتراضات الأخلاقية والاجتماعية على هذه العلاقة، ولا نتذكر سوى عودته إليها بشوق، “قرب قرب قرب يا قلبي يا متغرب” واحتضانه لها، ودورانه بها حول نفسه كمن يحمل فتاة صغيرة ليطيرا معًا.
لا تكذبي
تضايقت منها ربما حد الكراهية عندما قرأت عن قصتها مع كامل الشناوي. كتب الكثيرون عن هذه الحكاية، وحكي لي كاتب من الجيل الذهبي نقلًا عن أقرب أصدقاء كامل الشناوي وكاتب سيرته، أن كامل قرأ لها قصيدة لا تكذبي في التليفون، فقالت له “حلوة، سأغنيها”، بدلًا من أن تبكي وتعتذر له عن الطعنة التي قتلت روحه عندما رآها مع غيره، رغم معرفتها بعشقه لها. وعن تعليق محمد عبد الوهاب على “إني رأيتكما معًا” إذ قال لكامل الشناوي ضاحكًا:”يا أستاذ! قل إني ضبطكما معًا!”. أراحني ما قالته لمصطفى أمين أن كامل أحبها كامرأة، وهي أحبته كأب، وهذا الاختلاف هو سبب كل مشاكل كامل معها. ثم قررت أن أنسى الحكاية برمتها، أصبحت من أنصار “مالنا والحياة الخاصة للفنان، هو نحلة تقرص من تشاء أو يقرصها من يشاء، وليس لنا سوى العسل!”.
أحب ذكاء محمد عبد الوهاب، وأرى أنه وصل إلى قمة هذا الذكاء الفني في استخدامه لصوت نجاة ككمنجة، في “أسألك الرحيل”.. “ابق معي إذا أنا سألتك الرحيلا تيرا رارا تيرا رارا…”، الصوت الخالص، الملائكي كأفضل ما نظن عن أصوات الملائكة، المشع بالأحاسيس التي تجرح جمالها وتخدش جلالها الكلمات، حتى وإن كانت كلمات نزار قباني.
لن أنسى كمنجة د.إيهاب عبد الحميد، ولا نسمة الجنة التي منحتها لي نجاة ذات صيف شديد الحرارة، ولا كمنجة صوت نجاة التي عزف عليها ذكاء عبد الوهاب.. وسأنسى كل شيء آخر، لتبقى الصورة الذهنية/الروحية قابعة في أعماقي تمتعني بعيدًا عن تعقيدات الحياة التي أعيشها والتي عاشتها نجاة وكامل وعبد الوهاب وكل البشر في كل وقت.