د. نداء عادل
كانت سهرة ثرية بالنقاش الأدبي والإنساني في صالون الأديبة هالة البدري، يوم أهداني الأديب عادل سعد روايته “أبو نقاب”، والعنوان ذكرني بحادثة تداولتها الصحافة السورية مطلع تسعينات القرن الماضي، فضحكت وانتظرت فرصة القراءة حتى أعرف كيف تخيل الكاتب هنا في مصر هذا الحدث
استطاع الأديب عادل سعد أن يحيك قصة مختلفة تمامًا في وقعها على نفسي، إذ أنه أربك مشاعري في رسم شخصيات الرواية التي تدور في فلك أسرة واحدة، تجمع الأبناء في العجز والفقر وتنقلهم إلى الجحود، بينما البنات تتحول مفردات حياتهن بقرار تتخذه الأم مرغمة وهي ترى كل شيء ينهار تحتها
أقتبس عن لسان البطل وصفه للقطة الحياة من وجهة نظره إذ يقول
“يمكن لأنها تشبهنا كتير.. قرون زحمة واقفة ورا بعضها.. إحنا يا باشا غلابة.. بنتولد بامية خضرا.. لكن مع الأسف واحد ورا واحد.. بيشق قلبنا الإبرة.. وبيدخل جوانا الخيط.. ويقتلنا.. لحد ما بنتحنط وننشف.. ونموت.. تعبت يا باشا م القعدة مع العنكبوت الخضرااا وتعبت من منظر جوزها العبيط”
وفي مشهد الختام، يضعنا الأديب عادل سعد، داخل قفص الموت وهو يكتب
“كان لا يزال يهز كرباجه في ضجر، بينما سكنت بجواره أخيرًا في القفص أصوات نصف دستة من العصافير، بعد أن ماتوا جميعًا، ولم ينتبه”
الرواية التي تدور أحداثها في مدينة فقيرة بعيدة على ما يبدو في وصفها عن القاهرة، تدخلنا إلى عالم غريب، ولا أتحدث هنا عن المكان، بل عن الأنفس البشرية التي تتعدد صفاتها وتختلف ملامحها، ولكنها جميعًا تلتقي بالضياع، والغياب الأخلاقي، والتدني القيمي
تبدأ الحكاية من أم سيد، المرأة المكافحة التي يموت عنها زوجها بعدما أنجبت 11 طفلاً، فتضطر إلى إعالتهم وحيدة، بدخل بسيط للغاية لا يتكافأ واحتياج أسرة بهذا العدد الكبير من الأفراد
البطل، سيد، أو “سبايكو” نسبة إلى مهنته (سباك)، تدور عليه رحى الحياة، فمن طفل يحب التعلم إلى خارج من سلك التعليم بسبب تنمر زملائه، يبدأ الحياة العملية مبكرًا، حتى يصل إلى المهنة التي تصبح صبغته أيضًا، يدخل البيوت، ويلتقي بالنساء والفتيات، يقيم العلاقات، ويسرد تاريخ حياته القصيرة في أروقة قسم للشرطة، كي يكون كما عصافير الضابط في القفص، واحد من ستة قتلهم الحجز
الحجز هنا ليس حجزًا جسديًا وحسب، بل هو حجز معنوي، تقوده الرغبات، والآمال والطموح، ويقتل أصحابه كل بطريقة مختلفة عن الآخر، وحدهن الفتيات بنات أم سيد من تتغير حياتهن إلى الأفضل، من بين كل أفراد الرواية من الأسرة وخارجها
العلاقات البينية بين أفراد الأسرة الصغيرة، والعائلة الكبيرة، ورحلة الطفل في أزقة الوجع، يلتقطها الأديب عادل سعد بمهارة وحرفية عالية واصفا المشهد تلو الآخر، حابكا السيناريو ليدفع القارئ دفعا نحو المناطق العشوائية في مصر. هي ليست عشوائية من حيث المباني وحسب، بل أيضا من حيث أسلوب العيش، الذي يدور في فلك المخدرات والكحول والجنس، لتكون المرأة هي المحرك الأول والأخير لخيوط اللعبة ومداراتها. الحياة هناك بعيدة عن تصورنا حتى للأحياء الشعبية، فالأحوال في العشوائيات عبر رصد الروائي، تدفع الابن إلى سرقة أمه، وأخيه، فقط من أجل حلم يتخيله لنفسه نجاة
وبعدمية شديدة نرى كيف نسج عادل سعد شبكة “البامية الخضرا” وهي في طريقها إلى المشنقة ومن ثم إلى اكتمال الانطفاء
الرواية المكتوبة بطريقة السيناريو، تؤكد لي إن الأديب الحقيقي المتسق مع ذاته حين يرصد واقع مجتمعه يرصد بصدق كيف هي أحوال أفراده، الطيور التي نجت من قفص العشوائية (بنات أم سيد التي منحتهن الأجنحة للنجاة من الجحيم الذي أحاط بها حتى قتلها الحنين) وتلك التي ماتت تحت أنقاض البيت الذي كان ملاذهم الأخير والصورة الوحيدة التي يمكننا استيعابها عن البيت إنه كبيت العنكبوت
البطل، والكابوس الذي يظل يلاحقه بعدما يتراجع عن الحصول على جثة أمه، ويظل يبحث عن مصيرها، هو مشهد الضمير الحي الذي يقتل صاحبه كلما راوده
أما عن أثر الرواية عليّ، فقد تمكن عادل سعد من أن يعيدني مرة أخرى نحو العمل الاجتماعي بقوة، ومهما فعل الفرد منا في المجتمع المحيط به سيظل غير كاف ما دام بجهد فردي، لكنها ربما تمنح أحدهم فرصة للنجاة من “طابور الموت” الذي ينتظرهم، ولا يعرفون له بديلا، ولا إلى غيره سبيلا
غرفة 19
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- فيروز امرأة كونيّة من لبنان -بقلم : وفيقة فخرالدّين غانم
- سلطة الدجاج بالعسل والخردل
- فلسفة القوة عند نيتشه