لعلّهُ من حُسنِ الصُدفِ، أنْ تكونَ رنا علم مِنْ قريتي اللبنانيّة الجنوبيّة، رْمَيْش، وأنا أقرأُ مواسمَها من الكلمات، وجدْتُها مِرآة لذاتِ الشّاعرة، وكذلكَ مِرآة لذاتي في كثيرٍ من النّواحي، وكذلك مِرآة لغالبيّة الأجيال التي مرّتْ في هذه البقعة الجُغرافيّة العزيزة. فمَنْ يتعرّفُ إلى طفولة رنا ونشأتها، وبيئتها، يُدرِكُ ما أَقُولُ. حتى لأستطيع القول، أنَّ قصائد مواسم الكلمات لا يُمكِنُ فصلها عن طفولتها ونشأتها، فهي لصيقةٌ بها، وترجمةٌ حيّة لها.
لا شكّ أنَّ مدارس القرية، التي نالَتْ رنا فيها علومها، تركَتْ بصمةً ظاهرةً فيها، وخاصّةً ثانويتها الرسميّة. إضافةً إلى جوّ القرية الريفيّ النقيّ، الذي كان يُشجّعُ على القراءة، ويُحَفّزُ البحث والاطّلاع، ثمّ انخراطها في العمل الاجتماعيّ. إلّا أنّ الدور الكبير يبقى لعائلتها.
نشَأَتْ رنا في عائلةٍ مؤلّفةٍ من سبعة إخوةٍ وأخوات، إضافة إلى الوالدَيْن والأجداد. وهي عائلةٰ من فلّاحي التّبغِ والحبوب والزّيتون. وأقولُ مِن الفلّاحين وليس المُزارِعين،لأنّ هذه الكلمة الأخيرة رُبّما خفّفَتْ من مُعاناة العاملين في الأرض في قريتها، وجعلَتْ هذا العمل أكثر حَداثة وراحةً، ما لم يَكُنْ عليها أبدًا. فشاعرتنا فتَحَتْ عينيها على صورة والدها، الذي يخرجُ فجرًا من المنزل، ويعودُ مع غياب الشّمس مُنْهكاً، يتصبّبُ العرق من جبينهِ. وعلى صورة والدتِها التي انغمسَتْ بجزمتها في وحلِ مشاتل التبغِ، أو في مياه البِركَة المجاورة، والتي حملَتْ على رأسها أحمالَ الحطبِ كوُقودٍ للأعمالِ المنزليّة والتدفئة. فليس مِن غرابةٍ أن يتعدّد بَوْحُها عن وُجدانِها اتجاه والدَيْها في تسع قصائدَ من ديوانها.
هو بوحٌ وصل إلى حدّ الطّوباويّة:
هو أُغنيتي الفيروزيّة الصباحيّة أو صلاتي اليوميّة
هو ترتيلةٌ في كتاب الحياة
هو مسبحةٌ في عِطرِ أيّامي ( ص ٩٦).
وهُما، مع هذا التعب المُضني، كانا حريصين على تنشئة أولادهما على القيم السّامية التي ورِثناها عن الحدود، وعمّقاها في إيمانها المسيحيّ المُتسامِح، البعيد كلّ البُعد عن التعصّب، والتّقوقُع. ومن أهمّ هذه القِيَم :
المحبة، والكرامة، ومُناصرة الحق والتعلّق بالأرض والوطن. فتقرأُ في الصفحة ٤٤ :
احمليني إلى مُروج الطفولة
انقُليني إلى خزانة الحبّ
عودي بي إلى أجمل أيّامي حيثُ ترقدُ
تلكَ الطفلة في حقول المحبة.
ونقرأُ في قصيدة هُوِيّتي ( الصفحة ٧٨) :
ولدتُ لبنانية، لم يزرعْ بي أهلي سموم الطائفية، لا يعنيني دينكَ … لم أَخْتَرْ مكان ولادتي، لكنّ محبّتي لرميش، محبّة أبديّة.
أُنادي بالعدل، شِعاري المحبّة الوطنيّة، ودولة عادلة قويّة.
وإنَّ نشأة الشاعرة في هذه البيئة، جعلَها صادِقة الأحاسيس والمشاعر، وهي تُقْنِعُكَ بها من خلال الحَشدِ اللفظي الكثيف الذي تستعمله، وكذلك التكرار المُتمادي أيضاً. كما نجدُ مثلاً في قصيدة : لقد انتصرَت الأرضُ (الصفحة ١٢)، فقد استعمَلَتْ : الموت، انطفأ الأمل، خوف، لون الرّماد، سواد، دموع، غابت، أوهام، الظلام، قتلت، الأحزان…
وفي قصيدة اللقاء ( الصفحة ١٨) : اسمكَ، ثغركَ، شفتاي، أحلامي، الهمس، أشواقي، محبة واشتياق، العشّاق، الجمر، اشتياقي، قلبي، اللقاء…
وفي قصيدة عيناكَ ( الصفحة ٥٢)، تكرّرَتْ كلمة عيناكَ ١٦ مرة مع ١٦ وصفاً. وفي قصيدة فتحْتُ صندوقَ الكلمات تكرّرتْ كلمة بعضها، تسع مرّات. وفي قصيدة مملكتي ( الصفحة ٤٨)، أَسْمَيْتُها قصيدة اللاءات، إذ تردّدَتْ اللّاء خمس عشرة مرّة، لتُعبّر عن التمرّد، ورفض كلّ ما لا يتلاءم ويتناغم مع شخصيّتها.
وفي النهاية، أَقُولُ لرنا علم، نحنُ في رميش قريتِكِ، نفتخِرُ بكِ ابنةً أصيلةً، مثقّفةً، مُنطلِقةً. لقد حافظتِ على أصولكِ، لأنّكِ ” ابنة أُصول”.
هنيئاً لكِ ديوانكِ، وكلّ كتاباتكِ. ونحنُ ننتظرُ منكِ ثماراً يانِعاتٍ جديدةً.