أ.د دريّة كمال فرحات الجامعة اللبنانيّة
عالم من سحر الحواس
السّرد شكل تعبيريّ، والرّواية من أبرز الأشكال السّرديّة التي ظهرت في السّاحة الأدبيّة، فهي تعدّ مساحة تعبيريّة لمعالجة الظّواهر الإنسانيّة المرتبطة بالجماعات البشريّة في مختلف شؤونها الحياتيّة، وهي سجل لشواغل المجتمع وتطلّعاته يعكس هويته
ورواية “سيّدة الحواس الخمس” للأديب جلال برجس، رواية تجمع بين طيّاتها ثروة أدبيّة وعلميّة وفنيّة ونفسيّة، فالقارئ يخرج بعد انتهاء آخر حرف منها وقد تذوّق بحواسه الخمس ما له علاقة بالموسيقى الرّاقية ويشعر أنّه قد استمع إلى سمفونيّات “بيتهوفن”، وغيره من الموسيقيين كالمغنية “كويتي هيووستن”. كما أنّه يتعرّف ماهيّة الفنّ التّشكيليّ، ويسحر نظره بالرّسم والألوان، ويكتشف إبداع الرّسامين. ويتنشّق العطور وأريجها، ويتذوّق الطّعام وأنواعه ويتلّمس النّعومة والرّقة، فكانت الحواس ظاهرة في روايته مؤدّية الدّور الأبرز
وينتقل القارئ مع أحرف الرّواية ليدخل عوالم علم النّفس مع فرويد وكارول غوستاف يونغ، ومع اللاوعي الجمعيّ، ويتعرّف مع أحداث الرّواية معرفة الأبعاد النّفسيّة وتركيبة النّفس الإنسانيّة، فنعيش مع البطل سراج الصّراع بين الشّر والخير، في اللّحظة نفسها، وكأنّه يذكّرنا برواية دكتور جيكل ومستر هايد، وهي رواية اهتمّ بها علماء النّفس لما فيها من نظرة علميّة دقيقة لما يدور بداخل النّفس البشريّة من صراعات
وقد نرى القارئ في أبعاد أخرى يعيش مع عالم الصّحافة والإعلام، فيدرك ماهية هذه المهنة وكيف يمكن أن ينزلق أصحاب هذه المهنة إلى مهاوي الفساد، في مقابل الحفاظ على ما تبقّى لديهم من كرامة. ويخرج أيضا بمعرفة أعلام من الإعلام العربيّ أو العالميّ كالمذيعة الأمريكيّة أوبرا وينفري
أما عالم السّياسة وما فيه من ألاعيب وخبايا فهو بارز وظاهر في أحداث الرّاوية، يؤدّي دورًا جوهريًّا في تركيب حبكة الأحداث، وصولًا إلى علاقة الأمر بالإرهاب، وما نتج من أحداث سياسيّة بعد أحداث الخليج في 1990، أو مع أحداث 11 أيلول 2001
ويتمتع القارئ أيضا في هذ الرّواية بجمال المدن وسحرها، فينتقل جغرافيًّا بين عمان بأحيائها وشوراعها ومبانيها، وبين ويسكونسن في الولايات المتحدة الأمريكيّة
نعم إنّها رواية تعكس مرآة الواقع بكلّ ما فيه من أبعاد واتّجاهات، وقد ندخل عالم الرّواية من عدّة مناهج نقديّة، نحلّل الرّواية بتقنياتها مدركين خباياها
وسأقف في مطالعتي الموجزة هذه على أشكال السّرد التي وردت في الرّواية. فمن المسلّم به أنّ السّرد هو نقل جزيئات الوقائع بواسطة ألفاظ تعبر عنها. ولكي يكون السّرد فنيًّا يضاف إلى نقل الوقائع ألفاظ التعبير التي توضح تلك الوقائع وتعلّلها وتزيدها بذلك حيوية وتشويقا
وهناك أربع طرق للسرد، الطريقة المباشرة التي يكون فيها الكاتب مؤرخا يسرد من الخارج، وهي طريقة يسيطر فيها الكاتب على العمل الفنّي. وطريقة السّرد الذّاتي التي يكتب فيها الكاتب على لسان المتكلم متلبّسا لشخص أحد الأبطال، أي هي طريقة تقوم على عرض الحوادث كلّها بطريقة ضمير المتكلّمين فيبدو الكاتب نفسه بطل القصة الحقيقيّ. وطريقة الوثائق التي تتحقّق فيها القصة عن طريق الرّسائل أو اليوميات والحكايات وما إلى ذلك. وطريقة تيار الوعي(المونولوج الدّاخلي) وهي طريقة تولي التّفكير الذي يشغل بال الشّخصيّة كلّ اهتمامها، فيعرض الكاتب لخواطر الشّخصية ويستحضر ذكرياتها، كيفما وردت إلى الذّهن ليجعلها مادة لرسم المستقبل
ومن الملاحظ فإنّ الكاتب استخدم في روايته الأشكال كلّها تقريبا، فالرّواية اعتمدت الرّاوي العليم في معظم أجزائها، فيهيمن ضمير الغائب، لنراه في جزء آخر يعتمد على مذكّرات الشّخصيّة، فيفرد فصولًا يقوم فيها البطل سراج عزّ الدّين بعرض مذكّراته، ومن خلال هذه المذّكرات تكتمل الأحداث، ونكتشف بعض خبايا الشّخصيّة والعوامل المساهمة في تصرّفاتها، والملاحظ أنّ الكاتب يلجأ إلى اتّباع المذكرات مع ختام كلّ فصل من الفصول أو ختام علاقة من علاقاته مع النّساء اللواتي تعرّف إليهنّ، ورأى فيهنّ صورة من صوره التي أوصلته إلى مأساته. ويبدو جليًّا أنّ عملية السّرد في المذكّرات تنتقل من الغائب إلى المتكلّم
وكان للأحلام دور مهم في بناء حبكة أحداث الرّواية، ومن خلالها نغوص في نفسية البطل سراج، ونكتشف مرحلة من مراحل حياه، وقد يتطوّر الحلم إلى كابوس يتكرّر معه في لحظات تأزّمه وقلقه
أو قد يلجأ الكاتب إلى اعتماد المناجاة، فتعيش الشّخصيّات مع عالمها الخاص، وقد برز ذلك خصوصًا مع سراج عزّ الدّين، ومن خلال مناجاته لنفسه يعبّر عن الشّخصية، ولا يشترط في هذه الطّريقة التّرابط المنطقيّ، أو التّتابع الزّمنيّ للحوادث، لأنّ التّركيز يتّجه إلى التّموّج والتّدفّق العاطفي وتداعي الخواطر والذّكريات. ثمّ إنّ ما يُثير هذه الخواطر والذّكريات ويستدعيها، أو يدفع بخاطره قبل أخرى، هو حركة بطل الرّواية وطبيعة تفاعله مع الآخرين
ومن هنا تبرز تقنيّة مهمة في عالم السّرد أي ما له علاقة بالاسترجاعات أو ما يُسمّى بالفلاش باك(Flash Back)، وقد تنوّعت هذه الرّجعات فمنها ما كان عودة سراج إلى طفولته، وعلاقته بوالده وبوالدته، وكيفية وفاة والده، أو طفولته في المدرسة، وبداية علاقته بسلمان الطّالع، ومن أهمّ الاسترجاعات ما له علاقة بزوجه ريفال. كما نجد هذه الاسترجاعات عند الشّخصيات الأخرى، فتنقلنا ريفال في واحدة منها إلى بيتها وطفولتها، وتأثير إصرار والدها على إنجاب الذّكر وعدم الاكتفاء بالإناث. وقد تعود هذه الاسترجاعات إلى مرحلة قديمة، وأحيانًا تعود بنا إلى مرحلة زمنيّة قريبة، كاسترجاعة كندة لتطور علاقتها بسراج
تنوّعت أشكال السّرد في الرّواية، ليستطيع من خلالها الكاتب أن يسلّط الضّوء على قضايا مهمة منها الخيانة، والعلاقات الزّوجيّة، وارتباط ذلك بالسّلطة السّياسيّة، واعتماد القوة المستندة إلى المال والجبروت، وما تفرّع عن ذلك من علاقات اجتماعيّة تحدّد أطر المهن والأعمال
وتركّز الرّواية كما يبدو في عنوانها على الجمع بين الحواس والمرأة، وهوس البطل باهتمامه بحواسه الخمس، فهو المؤمن بأنّه “ما نفع حواسنا الخمس إن لم تكن لها القدرة على التّنبؤ بما يمكن أن يحدث لنا”. ومن هنا كانت ترويسة كلّ فصل تشير إلى حاسة من الحواس، فيفتتح الفصل الأوّل مع قول أفلاطون، “العالم الذي نلمسه ونختبره من خلال الحواس هو عالم غير حقيقيّ، بل هو مستنسخ عن العالم الحقيقيّ بصورة كاملة”، نعم هذه الحواس التي يتنقل بها من البصر إلى الإنصات ثم إلى اللمس، والذّوق والشّم، ومع سيّدات خمس هنّ كندة وسوار، ودعد وليلى، وأخرهنّ غادة، علاقات تتبدّل بالاسم فقط، ترتبط بحاسة من حواس البطل، أمّا طبيعة العلاقة وتفاصيل نموّها فهو متشابه يرتبط بهدف البطل وما يريد أن يصل إليه. وأهمّ مايربط هذه الفصول هو عنصر التّشويق الذي به تكتمل عملية السّرد
رواية سيّدات الحواس الخمس تشدّك من بدايتها إلى نهايتها، فتعيش فيها عالمًا من الواقع والخيال، من المحبة والكره، من اللّون والعطر والملمس والضّوء واللّحن