نادرًا ما ينطبق توصيف “الإمتاع والمؤانسة” لأبي حيّان التّوحيدي، على كِتابٍ قرأتهُ، سواء أكان شِعرًا أم نثرًا؛ روايّةً أم قصّة. ورواية “أغنيات للعتمة” الصادرة في 254 صفحة من القطع المتوسّط عن دار “الساقي” في بيروت، هي من ذلك الصنف العالي المزاج، والمكتوبة بأناةٍ وروّيةٍ، حتّى خرجت إلى النّور نصًّا أدبيًا مسكونًا بطاقتي “الإمتاع” و”المؤانسة” في آن. وبتضافر هاتين الطّاقتين داخل النّصّ، تشكّلت طاقة ثالثة خفيّة جاذبة، يمكن وصفها بـ”السّرد الممغنط” الذي يشدُّ القارئ من حيث يدري، ولا يدري. هل توقَّفَ الأمرُ عند هذا الحدّ؟ لا طبعًا. ثمّة ما يمكن إضافته إلى خصال هذه الرّواية، التي يحار القارئ في تصنيفها؛ أهي اجتماعيّة، طبقًا لعرضها الواقع الاجتماعي، وقصص النّساء، الحبّ، الخيبات، والتعنيف الأسري…الخ؟ أم هي رواية سياسيّة، نظرًا لعرضها أحوال لبنان سياسيًّا على امتداد عقود؟ أم هي رواية تاريخيّة، استنادًا إلى الأحداث التّاريخيّة الواردة في متن الرّواية التي تنعكس سلبًا أو إيجابًا على أحوال أبطالها؟ كذلك، هناك حسّ بوليسي خفي، مبثوث في المتن، اعتمادًا على الأسئلة المفتوحة المتعلّقة بموت زوجة سالم الأولى في أمريكا، واختفاء زوجته الثّانية (ليلى) في بيروت؟ إذن، والحال هذه؛ ذلك الوصف المضاف إلى ما سبق ذكرهُ، يمكنني إيجازهُ بأنّها “رواية مُلتَبسة”.
شهيرة، ياسمين، ليلى، أسمهان، شخصيّات روائيّة نسائيّة تتحرّك ضمن فضاءات وحيوات رواية “أغنيات للعتمة”، يتعاقبن على إدارة دفّة الأحداث، وكأنَّ معاناتهن اختصارٌ لمعاناة بلدهنّ لبنان، منذ نهايات الحقبة العثمانيّة وصولاً للحرب الأهليّة اللبنانيّة وتبعاتها (1908ــ 1982). أربعة أجيال من النّساء يعكسن صُورَ بلدٍ مُعذَّب ومُعذِّب. تقول حميدان على لسان الرّاوية أسمهان: “اختارت شهيرة الاحتيال على القدر، وياسمين لم تجادله، وليلى لم تعترف به ولا بالزّمن” (ص12). وشهيرة الفتاة التي تزوّجت كرهًا في الرّابعة عشرة، من زوج أختها؛ نايف الدالي، وأنجبت أطفالاً منهم ابنتها ياسين، التي تزوّجت من غسّان، وفارقت الحياة بعد يوم من ولادتها، وتركت طفلة أسمتها ليلى. وهذه؛ تزوّجت كرهًا من سالم الذي يكبرها، وأنجبت منه عدّة أطفال، منهم أسمهان. اختفت ليلى في بيروت ضمن ظروف غامضة. كبرت أسمهان وتزوّجت من صديقها مازن، وأنجبت منه طفلين؛ لمى كريم. أخذ زوجها منها طفلها عنوة، وهربت أسمهان بصحبة طفلتها إلى قبرص، ومنها إلى أمريكا. وهناك، بدأت بكتابة سيرة آل الدّالي، ابتداءً من أمّ جدّتها شهيرة، مرورًا بجدّتها ياسمين، وصولاً لسيرة أمّها المختفية، وسيرتها هي. ومن يدري، ربّما تكمل لمى مسيرة الكتابة.
سؤال العنوان:
“أغنيات للتعمة” عنوان بسيط، لكنه “حمّال أوجهه”. ذلك أنّه للوهلة الأولى، يجهل القارئ؛ مَن هو/هي، أو هم/هنّ الذين يغنّون للعتمة أغنياتهم تلك؟ ولماذا؟ وهل تلك الأغنيات؛ مديح وثناء وتمجيد للعتمة، أم ذمٌّ وهجاء لها؟ ومع قراءة مقولة الشّاعر والكاتب والمخرج المسرحي الألماني برتولت بريخت، كعتبة تتَّكئ عليها ومفادها: “في الأوقات الحالكة، هل سيكون هناك غناء؟ نعم! ثمّة من سيغنّي عن تلك الأوقات الحالكة” (ص5)، يتكشّف لدينا جزء من أسباب اختيار حميدان لهذا العنوان “أغنيات للعتمة”. إذن، ضحايا العتمة هم أنفسهم أغنياتها. في رواية حميدان، ضحايا العتمة من اللبنانيين، في غالبيتهم نساء. تتساءل الكاتبة على لسان شهيرة: “ماذا لو عاد الجراد ثانيةً يأكلُ مؤونتنا وطعامنا، ويقتل أطفالنا؟ (…) هو بالأصل لم يرحل حتّى يعود. بقي هنا سوسة في الأرض” (ص13). وتتساءل أيضًا على لسان أسمهان في الصّفحة نفسها: “هل يمكن بناء وطن ومستقبل وسط هذا القدر من الذّكورة المدمّرة من العنف الجسدي والدّيني والقانوني والنّفسي؟ أم علينا الرّحيل؟”. وتقول في الصّفحة 12: “اختلفت نساء عائلتي في أمورٍ كثيرة، والتقين في أمرٍ واحدٍ، هو العطش للحبّ”.
هكذا، يتبيّن لنا بشكل أكثر وضوحًا دلالات العنوان، على أنّ لعتمةِ الظّلم، الحرمان، القهر، الفقر، الفَقد، الحرب، التخلّف…، أغنياتها المريرة التي حاولت حميدان التّعبير عن جزء منها في عملها الرّوائي. وطعّمت الكاتبة متن عملها بمقاطع من الأغاني. على سبيل الذّكر في الصّفحات (26-27) أغاني مواسم الحصاد، وفي الصّفحة (65) أغاني الشّوق والحبّ، وفي الصّفحة (69) أغاني الأعراس، وفي الصّفحة (79) أغاني الحزن والرّثاء، وفي الصّفحة 207. وكلّ تلك الأغنيات، غنّتها شهيرة.
هناك نساء أخريات، ضمن الرّواية، كـ حسنة (أم شهرة)، صفاء (أخت شهيرة التي ماتت)، عدلا (زوجة سعيد، شقيق نايف)، مفيدة (زوجة فايز)، أم جريس (الداية، القابلة)، زينة (الخمسينية التي قتل زوجها ابنتها)، هاجر (المرأة التي تساعد شهيرة في أعمال البيت)، روز (صديقة ليلى)، ويدا (صديقة اسمهان)، مس هيلين (المدرّسة الانكليزيّة)، منى (ابنة فايز، خال ليلى)، هاسميك (زوجة حامد، شقيق سالم)، أم زياد (المرأة التي تساعد أسمهان في أعمال البيت). ولكلّ واحدة من هؤلاء النّسوة، حكايتها الخاصّة بها، وجودها ضمن متن الرّواية، يكاد أن يكون محوريًّا، مساهمًا في صناعة الشّخصيّات الرّوائيّة المركزيّة أو الرئيسة.
البناء واللّغة:
قسّمت حميدان روايتها إلى اثني عشر فصلاً، مرقّمًا معنونًا. من (1 – رسالة) ولغاية (12- أسمهان) وهي صاحبة الرّسالة. وأتى الفصل الأول بمثابة تلخيص استباقي للرّواية، في حين أنّ أحداث الرّواية تبدأ من الفصل الثاني (2-أجمات: البقاع الغربي). وأتت اللّغة سلسة، سهلة الهضم والفهم، معاصرة، بعيدة عن فذلكات التفاصح المبالغ فيه، ومحاولات الاستعراض التي يسقط فيها بعض الكُتّاب والكاتبات. وطعّمت حميدان متنها، باللّهجة اللّبنانيّة الدّارجة، من دون زيادة أو نقصان، بل وفق مقتضيات الحاجة الفنيّة. لذا، أتى السّردُ جميلاً متدفّقًا، خاليًا مما يبعث على الملل، وغير متعثّر بالمفردات القاموسيّة أو التراثيّة. كأنَّ الكاتبة، كانت حذرة ومتأنّية وتمارس التّطريز بخيوط من القصب الذهبي اللّون، وخيوط أخرى ملوّنة، على خامةٍ بيضاء. هكذا، منحت “أغنيات للعتمة” صاحبتها استحقاق المبدعة التي تتقن فنّ الرّواية، بجدارة، أقلّ ما يقال فيها؛ سِحر البساطة وجاذبيّتها الشّديدة.
معالجات أخرى:
جاء “أغنيات للعتمة” كموقف نقدي لظواهر اجتماعيّة، اقتصاديّة، سياسيّة ضمن البيئة اللبنانيّة. وتكاد كلّ شخصيّة في الرّواية تمثّل شريحة من المجتمع اللبناني؛ ماضيًا وحاضرًا. فشهيرة التي كانت مظلومة، وتمّ قصف أحلامها بسرعة، تحوّلت إلى ظالمة في ضغطها على ليلى كي تتزوّج من سالم عنوةً. ونايف؛ القروي الجاهل والظالم، وفايز البراغماتي الفاسد، وسالم المقامر، الفاسد، الظالم المتجبّر، وربّما القاتل أيضًا، المهووس بالسّياسة والانتخابات. وتوفيق الفنان الانعزالي السّلبي. ليلى الحالمة التي أصبحت ضحيّة أحلامها، وقلبها الذي أفقدها عقلها. غسّان الأب والزّوج الفاشل، الهارب من مسؤوليّاته. كما سلّطت الرّواية الضّوء على النّفاق السّياسي (اليساري) في شخصيّة يوسف، والنّفاق الحداثوي العلماني، في شخصيّة مازن “العلماني تسلّح بحقّ يعطيه إيّاه الشّرع الديني” (ص10). لذا، تساءلت الكاتبة على لسان أسمهان: “هل يمكن بناء وطن ومستقبل وسط هذا القدر من الذكورة المدمّرة من العنف الجسدي والديني والقانوني والنفسي؟ أم علينا الرحيل؟” (ص13).
كما ظهر قاسم مشترك بين بعض شخصيّات الرّواية، يمكن وصفه بـ”الحب المفقود”. على سبيل الذكر؛ علاقة شهيرة المسمومة مع زوجها نايف، ولجوءها إلى ذكريات حبّ الطفولة؛ (يزيد)، فتحوّلت ممارسة العلاقة الزوجيّة التي يفترض أن تكون حميمة، لكنها مؤلمة وقاسية ومرعبة ومؤلمة. كذلك العلاقة الفاشلة والمخيّبة بين ليلى ويوسف. وأيضاً علاقة الحبّ والزّواج الفاشل بين أسمهان ومازن.
وعليه، ليست رواية “أغنيات للعتمة” التي تمنح قارئها القليل من الطّاقة السّلبيّة، إلى جانب منحهِ المُتعة والمؤانسة، بل الواقع اللّبناني والشّرق أوسطي، شديد المرارة، القسوة، السّلبيّة والتّسمّم أيضًا.
ملاحظات:
كأيّ عمل إبداعي جميل وهام ومتقن، لا مناص من أن يشوب النصّ بعض ما أعتبره هفوات وأخطاء عابرة، كان بإمكان المحرّر الأدبي في دار السّاقي، لفت انتباه الكاتبة إليها، بغية تلافيها. على سبيل الذّكر، لا الحصر:
1ــ تقول أسمهان: “ذات صباح عادي من شهر تموز من عام 1944 رأيت النور” (ص213)، ثمّ تضيف: “لا بدّ أنّ اسمي كان فالاً مأساويًّا على الفنان (أسمهان) التي قضت إثر حادث سيّارة، وعمري لم يتجاوز يتجاوز الأسبوعين”. هذا يعني أنّها ولدت في الأوّل من تموز، لأنّ وفات الفنانة أسمهان هو 14 تموز 1944. والسّؤال، لماذا لم تذكر أسمهان تاريخ ولادتها بالضّبط، وتركته للتخمين؟
2ــ لم تشر الكاتبة إلى ردّة فعل سالم في ليلته الأولى مع ليلى حين عرف أنّها ليست عذراء. مع العلم أنّ شخصيّته لم تكن متنوّرة ومثقّفة أو متسامحة، حتّى يغض الطّرف عن فقدانها عذريتها، ومن الذي يقف وراء ذلك؟ ونظرًا لجشع سالم، كان في إمكانه ابتزاز ليلى وأهلها على أنّه ستر على فعلة ابنتهم ومننهم بزواجهِ منها. وهذا ما لم يحصل!
3ــ تكرّرت في الرّواية بعض العبارات والأفكار والمعلومات، بصيغ متشابهة أو مختلفة. على سبيل الذّكر: “تنكيل السلطة العثمانية (…) بسكّان جبل لبنان لم يقتصر على الحصار البرّي ومنع دخول الطحين والحبوب من سوريا…” (ص53)، و”منعت فيها السلطة العثمانية دخول الطحين والحبوب عبر البرّ إلى الجبل اللبناني” (ص53). الملاحظ أن المعلومة مكررة في نفس الصفحة.
“بعد انتهاء الحرب الأولى، صار من الصعب على شهيرة…” (ص57)، و”بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى دخل لبنان مرحلة…” (ص59). “أعطتْ ليلى كثيرًا من الكتب. روايات وقصص قصيرة ومجموعات شعرية. في زيارتها الأخيرة لمكتبة هيلين” (ص102)، و”كان قرار مس هيلين بالسفر خسارة لليلى. (…) زوّدتها بكتب تقرؤها وتغني بها مكتبتها الصغيرة” (ص103). “مسيرة جمعت من مشارب وعقائد وأفكار مختلفة إلاّ أنّهنّ التقين على حبّ بلدهنّ” (ص116)، و”نساء ربّما اختلفن على أمور عدّة. لكنهن التقين على موضوعين أسياسيين: استقلال لبنان وسيادته” (ص117). “أثّر عام 1958 في عائلة الدالي،…” (ص183)، و”لم تمرّ أحداث أو ثورة 1958 في لبنان مرور الكرام على عائلة الدالي” (ص185).
4ــ تكرّر اسم شهيرة سبع مرّات في الصّفحة 78. وتكرّر استخدام الفعل الماضي الناقص كان/ت بشكل مبالغ، في أماكن عدّة، على سبيل الذكر: عشر مرّات في الصفحة 166، وتسع مرّات في الصفحة 175.
“أغنيات للعتمة” هي رواية الفقدان. فقدان البشر والأمكنة: “هل يغيّر الفقدان سحنة التراب، كما تتغيّر سحنة البشر؟” (ص230). فقدان الأحبّة. فقدان الذّات، القيم، المُثُل، المبادئ، الأخلاق، والذّاكرة: “فقدان الذاكرة هو سفر بمعنى ما” (ص246). هكذا، تشير الرواية وكأنّ الحياة هي مجرّدة رحلة نزوح أبديّة، لا تنتهي: “صارت حياتي هون بالشنطة” (ص249). حاصل القول: مثلما نجح ماركيز في تلخيص حيوات كولومبيا من خلال الحديث عن قرية “ماكوندو” وتناول سيرة عائلة “بوينديا” على امتداد ستة أجيال، فإن حميدان أيضًا نجحت في تلخيص تاريخ لبنان المعاصر من خلال أربعة أجيال من عائلة الدّالي، سواء في قريتي “كسورة” و”أجمات” أم في “بيروت”، وقدّمت لنا رواية واقعيّة فاتنة، بسردٍ سلسٍ، ممتعٍ، مؤنسٍ، وساحر.