مؤيد حنون
يتطلب التلقي، برأينا، درجة من الآلية المستسلمة (للعبة المدركات الحسية)، وهي لعبة تتيح التمثل السلبي لحفريات النص، كما يتم تمثل حفريات الجدران والسماء الملبدة بالغيوم باعتبارها واقعة بصرية أو نصية على حد سواء. ولقد أثبت فرانكلين روجرز أن لعبة التعامل مع الحفريات (اللقى البصرية) لعبة (عرفها واستخدمها إنسان عصور ما قبل التاريخ، وإلى زمن يرجع إلى 3500 عام ق.م) وإن (لعبة المدركات الحسية) تهيئ عملية التلقي لأن تكون (إنصياعاً لأقدار النصوص)، كما يصفها الناقد الدكتور حاتم الصكر، وهي تهدف إلى تفعيل الطاقة التعبيرية لمتعرجات سطح النص، ونقصد بها الصور الشعرية والدلالات، وبما يشبه استثمار بقع – حبر (روشراك) أو مفروكات ماكس آرنست أو لعبة اكتشاف الأشكال في الغيوم والجدران القديمة، فتكون القراءة نفخاً للروح (في جثث الكلمات الراقدة في سلام) النص، “تستعيد حياتها التي فارقتها بالفراغ من الكتابة”.
إن لعبة كهذه تروق، كما سنرى، للشاعر الشاب مؤيد حنون، حينما دون ديوانه (متعة القول) الصادر في صنعاء عام 2002، إلا أنه يوظفها بطريقة مختلفة، حيث يبث أجزاءً من متعرجات صوره بشكل يدعو القارئ إلى أن يبني أفقاً من التوقع الذي يعتمد عليه في التقاط، وإكمال أجزاء تلك المستحقات، لكن الشاعر مؤيد حنون، وفي احترام تلك التوقعات، يشاكس قارئه حيث يخرب اطمئنانه الخادع في بناء نسقية الصورة (العبارة) التي كان قد اعتمد فيها على ما بثه الشاعر من موجهات نصية، فإذا به يعمد إلى كسر أفق التوقع الذي كاد يكون وشيكاً، وهدفاً محدداً خلقه جزء الصورة (والعبارة) الأول الذي بثه الشاعر عامداً لخلق حالة التوقع، وهو توقع خلق (وقعاً) في نفس القارئ، يصفه الناقد حاتم الصكر بأنه “إيهام يخلق لحظة الوهم التي ينشأ في خصائصها الشعر، ومضة تستدعي رؤيتها وجود حواس بكر، لا تتمثل لما زودت به من علم سابق”، وهو علم خلقه نمط من التواطؤ الاجتماعي المسبق بين المتعاملين بنسق لغوي وثقافي سائد ومحدد بمعارف مسبقة وراسخة، وبذلك يكون أفق توقع المتلقي متجهاً نحو تسلم سياق هو الأكثر توقعاً لجزء الصورة الثاني.
يبدو أن مؤيد حنون يفهم مسألة الإزاحة الشعرية بكونها تحقيق قدر من كسر لسياق التوقع يحدث في منطقة الدلالة أكثر ما يقع في منطقة الشكل (اللغة)، وبذلك يكرس جهده لأحداث تلك الإزاحة باعتبارها الكفيلة بتحقيق (الشعرية). إن الأمر مماثل لنمطين من العمليات الحسية الإدراكية: الأولى: البحث في آثار السطح (النص) وهو ما نسميه (متعرجات النص) عن أشكال تتطابق وأشكال العقل (أفق التوقع الشكلي)، والثانية، حدوث إدراك بفعل هيمنة ثقافية تماماً مثلما يتم توقع شكل مثلث خفي يوصل ثلاث نقاط قريبة من بعضها على صفحة بيضاء، بينما قد تكون في واقع الأمر واقعة على محيط دائرة، أو ربما لا وجود لأي محيط لكي تقع تلك النقاط عليه، وهذا ناتج من هيمنة قواعد الهندسة الإقليدية على العقل البشري.
يبدأ مؤيد حنون لعبته منذ عنوان ديوانه الذي يؤلفه من جزأين، يوحي أولهما (متعة) بنمط من المتع التي لا يمكن أن يكون (القول) أحدها، والأمر ذاته يصدق على عنوان أولى قصائد ديوانه، حيث يلتبس الأمر على المتلقي حين يستقبل لفظه الأول (قائمة) والتي توحي مباشرة بجملة من العناصر المادية، كما في قوائم الطعام أو المشتريات أو الأسماء أو نحو ذلك، بينما هي عند مؤيد حنون (قائمة من الذكريات).
من يتوقع ما تحتويه الحقائب غير الملابس وأدوات الحلاقة والجوارب. لكن لنفتح حقائب مؤيد حنون ونرى:
“.. الحقائب / أفتح واحدة “تخرج الأشجار / الشوارع / رائحة البيت / أدوات الحلاقة / والأصدقاء أيضاً”
(قائمة من الذكريات)
وأيضاً تعني الحقائب عند مؤيد حنون أشياء أخرى فهي (خزانة الذكريات) وهي عالم يحكم فيه بمفرده!
وما الذي توحيه (مساحيق) المرأة غير أن تكون أدوات تجميل لوجوه النساء؟:
“برشاقة أصابعي / وبمساحيقك المهملة / التي كثيراً ما تتشاجرين / معي حين ارسم بها / امرأة شاحبة”
(قائمة من الذكريات)
وربما تكون تلك المرأة الشاحبة هي ذاتها المتلقي الافتراضي الذي يبث لها الشاعر الخطاب. القطار يلاحق الشاعر والقطار لا يمكن أن يلاحق أحداً:
“سوف أقول كل شيء / وجوه خالية من الملامح / تزفني لمحطات لا تؤدي / القطار يلاحقني / أجري / وحين تشبث بي / ركلني أحدهم / فسقط القطار مني”
(قائمة من الذكريات)
وقد تكون الأرضة قادرة على أكل سلالة الشاعر:
“قبعتان وعصا / كل ما استطعت أن الحق به / من سلالتنا التي أكلتها الأرضة”
(قائمة من الذكريات)
وقد يلقم أحدنا كرزاً بدل القبلات:
“عابر يختلي بأنثاه / في الهزيع الأخير من الأغنية / يقول عنها الكثير / وتقول / ما يملأ فمه بالكرز”
(أغصانك على النافذة)
هل يمكن أن ينكسر الماء والجرة سالمة، تلك هي القيمة عند مؤيد حنون:
“الغيمة / الجرة بمائها المنكسر”
(مسرات الكائن)
وهل يمكن احتساب العمر بغير السنوات، يبدو أن لدى مؤيد حنون معياراً لعد سنوات العمر:
“للأب الذي انطفأ آخر غليون / من عمره / ولم يعد ينتظر عودتي آخر الليل”
(ما الذي تقوله عني يا أيون)
هناك طرق بذراع واحدة! لدى مؤيد حنون أيضاً:
“الطريق / يشبهك / حين / خرجت / من الحرب / بذراع واحدة / وأصدقاء التهمتهم المدن”
(أنا أكثر دهشة)
لمؤيد حنون ما يمكن أن نطلق عليه (تعريفات) تكسر التوقع بقوة، أو هي (حكم) على نسق سفر الحكمة.
“في الأفق فتاة تخبز أحلامها”
أما أكثر دهشة)
“المغفرة خطيئة الذنوب”
(أنا أكثر دهشة)
“الماء من نعومة النهر”
(مسرات الكائن)
“الأحلام وحدها تفيض من السرير”
(أنثى البعيد)
“أشيعك بيدين من حزن”
(أنثى البعيد)
“ما يفيض من النهر قلبه الكبير”
(ما الذي تقوله عني يا أيون)
“العالم أكبر من قبر سينحشر في أو انحشر فيه”
(أنا أكثر دهشة)
“ازرع في الشجاعة وأحصد عويلاً”
(أنا أكثر دهشة)
“الغياب حضور في مكان ما”
(أنا أكثر دهشة)
“حياة يجرها خلفه كحصان”
(أنا أكثر دهشة)
وبعض الصور تبدو لديه ذات بريق خاص:
“قطيع من النوافذ” (لافتة)
“رسائل لا تبعث بالبريد” (لافتة)
“الاعتراف خطيئة أخرى” (قداس)
“الشمس تجفف الشتائم” (قداس)
“كلما اتسعت الحرب تضيق البلاد” (نهايات سيئة)
وهي تتناقص ومقولة أحمد عبد الجبار النفري “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”