شُوهِد أسعد بعد قليل من إعلانه عن موت أبيه الشّيخ صابر، يرقصُ هو وزوجته الهادئة الرّزينة، على سطح بيتهما المتهالك، ويلوّحان بقِطع في أيديهما، لم يُعرَف إن كانت أوراقًا، أو خِرقًا من القماش.
حدثَ ذلك في صباح نهار مشمس، على سطح البيت العريق الّذي حوّله الغرباء مع الأيّام، إلى ما يشبه نزلًا قرويّا فوضويًّا، يعلو الصّراخ في أنحائه، إذ يتسابق فتيانهم في حدائقه وقد خلت من زهورها، وتمّ بفضلهم تعرية أشجارها، وتهشيم أغصانها، يتقاذفون في حناياها الحجارة والشّتائم، وأحيانًا الأحذية، من بعد أنْ توزّعت في غرفِه السّبع المتداعية، أسرٌ وفدت كلّ واحدة منها إليه، في إثر اعتداءات تعرّضت لها إحدى البلدات الّتي تقوم على حدود البلاد.
عُرف الشّيخ صابر بوطنيّته وكرمه وسعة صدره، فكان يستقبل بشهامةٍ العائلة تلو الأخرى، تقيم الواحدة منها في غرفة من غرف منزله الّذي ورثه أبًا عن جدّ، حلّا منه لأزمة طارئة. توالت عمليات اللّجوء إلى منزله حتّى ضجّت غُرفُه بالوافدين الغرباء، وانحشر الشيّخ وابنه الوحيد وزوجتيهما في الغرفة الثّامنة من غرف المنزل. تمثّلَ الامتياز الوحيد فيها، في استخدامهم وحدَهم حمامها الخاصّ الكبير الّذي يقوم في ناحية منها، بينما اشتركت سائرُ الأسر بما ضمّته من رجال ونساء وأطفال ازدادت أعدادهم بوتيرة لا تهدأ، في استخدام حمّامين آخريين كانا في المنزل.
وكحالِ البشر عامّة،كان الوافدون يتصرّفون في بداية الإقامة، بمنتهى الكياسة واللّطافة الّتي انقلبت بعد حين من الزّمن إلى خشونة وثقة، ومطالبة بحقوق مفترضة، واشتراطٍ على مقاسمة الآخرين في أمور شتّى: كأحقيّة استخدام المطبخ في أوقات معيّنة، واستغلال زوايا محدّدة من الحديقة، والتّوفّر مسبقًا على كمّيات المياه الّتي يُسمح لكلّ فرد باستخدامها، وما إلى ذلك من تفاصيل كانت تنتهي في غالب الأحيان إلى نشوب معارك ضاريّة يفشل الشّيخ، أو زوجته المسالمة في فضّها، وينتهي منها الرّجل مهزومًا ملُومًا من قِبل زوجته، مستجديًا دونما جدوى ضيوفَه الرّحيل، ومختصمًا كذلك مع وحيدِه حول المصير الملتبس الّذي ألزمهم به، نتاج سوء تقديره لنوايا الآخرين، ولدوافعهم الكامنة.
وقد حدث يومًا أن دار هرجٌ ومرج في أنحاء البيت، من بعد انقطاع المياه عن أحد الحمّامين الآخرين، فاقترحت إحدى النّساء الوافدات استخدام الحمام الكبير العائد إلى أسرة الشّيخ. رفضت الأمّ الكبيرة الأمر بغضب واستياء، واستنفرت الكنّة الهادئة، فوقعت مشادّة هائلة اشترك فيها كلّ كبير وصغير في المنزل، وتطايرت عبارات حامية تتساءل عن ملكيّة البيت الكبير، وعن هويّة مالكِه الحقيقيّ، وعن ضرورة البحث في هذه القضية الحسّاسة، وحتمية استدعاء رجال الأمن لفضّ هذا الجدل الخطير.
أُطفئت المعركة على جمرٍ كمَنَ في النّفوس، وعلى هزيمةٍ منكرة للشّيخ انتهت به مكتئبًا غارقًا في حالة من الذّهول والصّمت المؤلم. شُوهد الرّجلُ ليلاً، وقد التفّ على ذاته مكوّمًا تحت عباءته البالية، يرتجف من حمّى مفاجئة أصابته، رافضًا أيّة محاولة لإطعامه شيئًا يقيه مزيدا من اعتلالِ جسده النّحيل.
علا صياح الدّيك عند الصّباح، وقامت الشّيخة تسعى إلى أداء الصّلاة، فلاحظت أنّ شيخها مازال مكوّمًا في فراشه، بغير حراك. اقتربت منه وجسّت جبينه الأصفر اللّون، فهالتها برودتُه وعدم استجابته لحنان كفّها الجائل بخوف. وحين حرّكه وحيدُه والدّموع تنهمر من عينيه، انفلتت من تحت العباءة حقيبةٌ جلديّة بالية محكمة الإقفال، فوجئ عند فتحِها بظهور أوراق كثيرة مصفرّة نال بعض أطرافها سواد. فتحها باضطراب، فقرأ اسم والده في مواضعَ كثيرة منها، وتابع أرقامًا وإشارات وخطوطًا مستقيمة وأخرى متعرّجة. كانت الأوراق عبارة عن صكّ ملكية الأب للبيت العريق.
أمسكها صابر بيمناه وقد سكنه قهرٌ ولوعة، وشدّ زوجتَه بيسراه دافعًا إيّاها إلى مرافقته إلى سطح البيت. هناك نادى في النّاس مُخبرًا بموت الشّيخ النّبيل، من ثمّ راح يصرخ ملوّحًا بالأوراق بصوت مبتهج ذبيح: نحن أصحابُ البيتِ يا ناس، نحنُ وحدَنا أصحابُ هذا البيت الأصيل.
18 ك2 2025