قراءة فى المجموعة القصصية
“بكاء الشجر”
للكاتبة إيمان أحمد يوسف
بقلم الاستاذ الدكتور . محمد على سلامة
يمكن القول بأن مجموعة “بكاء الشجر” القصصية للكاتبة إيمان أحمد يوسف تمثل بحق الكتابة النسوية بمفهومه الأدبي والإنساني، فكل أبطال قصصها نساء، وكلهن يصارعن من أجل تحقيق الذات، ورفض هيمنة الرجال، والتمرد على قوانينهم أو بإظهارهم فى حريته تليق.
واللافت للنظر أنها جعلت من الكتابة الأدبية سلاحاً فى حربها لتحقيق الهدفين مع، إثبات الذات ورفض السطوة الرجولية المزيفة، وكل النماذج التى أتت بها من الرجال تابعة وعاجزة عن أن تفعل شيئا، حتى الأولاد الذكور شقوا طريقهم إلى الحياة ساعين إلى الأفضل اتخذوا من أمهم نموذجا، وأبوهم لا يملك شيئا يقدمه لهم، ولا حيلة له.
تلك كانت مقدمة ضرورية لتكون مدخلها للقراءة.
الشجر يبكى من قسوة الإنسان وجوده، فالشجر كائن حي، ينبت ويكبر ويتفرع، ويورق، ويثمر إن كان مثمرا، هذه حقائق بالعلم، وبالقرآن، وبالسنة، فبالعالم الذى يتوافق مع الواقع المرئي أمامنا الشجر كائن حي، ومن أجل ذلك أنشئت له الكليات والمعاهد التى تتابع نشأته وتطوره، وتدرس ظواهره، وتخترع الأساليب التى تحافظ عليه (كليات الزراعة وأقسامها، وأقسام النبات فى كليات العلوم) بل إنها تسعى دائما لإيجاد الأدوية والعقاقير التى تحافظ عليه إذا أصيب بداء، وتضمن له عيشا كريما وبالقرآن يكفى أن يقول الله عز وجل “ألم تر أن الله يسجد له من فى السموات ومن فى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس” الحج18..
وذلك بعد ما شرح المسألة فى سورة الأنعام بتفاصيل تجعل العاقل يسجد لله شكرا على آلائه، وعلى إعجازه فى خلقه، ويكفى من السنة أن ينهي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحين والغزاة فى آدابه للحرب، أن لا يقطعوا شجراً.
وتأتي دلالته فى عنوان، فالعلاقة بين الشجرة والمرأة علاقة وطيدة، فالشجرة ظل وفئ وثمر، والبيت بلا امرأة لا روح فيه، وهى ظل يستظل به الرجل ويستريح من معاناته اليومية ومن مكابداته فى الحياة، وهى (الشجرة) متفرعة، والبيت والأسرة لا تتفرع إلا بالمرأة فهي الحرث والنسل والتوالد والتواصل، ومع هذا فالاثنان يتعرضان لكثير من الإيذاء على يد الرجل، ولذلك يبكيان هذه القسوة، فقد تعرض الأشجار لمذبحة لم يدرك من قاموا بها خطورتها إلا حينما افتقدوا إلى آثارها بدأ الغبار يغمر البيوت، وتسللت حرارة الشمس إليها، كان الشجر ساترا نعما وحاميا لهم عوقب الجحود ولم ينفعه الندم (ص 43).. كذلك المرأة عندما تجازي بالنكران والجحود بعد رحلة عطاء سخي سواء أكان بالخيانة حتى لو كانت شرعية بالزواج عليها أو الطلاق والانفصال والمنازعات والانفصال مما يستدعى البكاء والحزن حيث لا ينفع الندم.
وإن كانت لي وقفة أمام العنوان فهي أمام البكاء، لأن الساردة رفضت الخضوع ورفضت الاستسلام، وكل قصص المجموعة تعبر عن إرادة حرة وكبرياء شديد، ولا يبدو فيه أثر للبكاء ولا الضعف إلا فى قصة واحدة وهى الأخيرة فى المجموعة بعنوان “أجنحة البحر”.
وعبر كل هذا تستعرض السادة نماذج من الحياة والواقع، ففي قصة “شلالات الحقائق” تعطى نموذجا للرجال (الأزواج) الذين لا تساوي الحياة عندهم إلا المادة فيمنحها الحرية مقابل المادة، قانونه الصريح هو الحاكم لما بينهما (ص 28)، ثم حزب أعداء النجاح وهو الأكثر بين القصص ففي قصة تصالح تقول: “كم صارعت كثيرا نفوساً بشرية مريضة، وحاقدة تعرقل جهود المتميزين، وتحجم خطواتهم، قابلها هذا فى العمل، وفى ساحات الحياة والإبداع” ص 26.
الساردة تعمل ومن ثم تتطبع فى نفسها صور من الحياة اليومية فى العمل، وترى بعينها ما يحدث فى كثير من أماكن العمل والإدارات، وبخاصة أمام المتميزين، ولا يقتصر الأمر على الرجال بل يشمل النساء أيضا، فتقول فى القصة الرابعة: “كان هذا اليوم بداية الحياة الناقبة والظالمة على مستوى العمل، فالرئيس المباشر امرأة، والمدير العام امرأة وبعض الزميلات سيدات كلهن الحياة بالنسبة لهن المأكل والمشرب والمسئوليات ولا وقت ولا فعل لغير ذلك، ولا مواهب ولا قدرات أخرى، فكيف تستطيع هى أن تتميز وتتألق وتجتهد وتصنع حياة متوازنة” ص30.
إذن لا تقتصر الغيرة والحسد على الرجال بل أحيانا تكون أشد قسوة من غيرة الرجال، وبالرغم من نزعة السخرية التى لازمت التعبير، فإنها تعبر عن واقع مرير فى الجهاز الإداري للدولة والمكدس بكثير من الموظفين والموظفات الذين لا عمل لهم، فيصيرون عبئا على العمل، ويشغلون أوقاتهم بالغيبة والنميمة، وبالطبع ينال المتفوقون منهم والمتميزون النصيب الأوفر.
وفى قصة (هو) تطرح نوعاً آخر من الحسد ومحاربة التميز، تركز الساردة فيه على حسد الأخوة فها هى فيفيان التى احتضنتها جدتها ورعتها أحسن رعاية، ولكن الأب والأم يرفضان ذلك ويلحان عليها، ويصممان على أخذ البنت من جدتها حتى تعيش وسط أخوتها (بنتان وولد) وعندما تأتي إلى البيت تبدأ ملامح الغيرة والحسد تتضح بجلاء وسلوكا تجاهها،ويتمثل ذلك فى أخذ الأشياء التى تعطيها لها جدتها، ويمتد الاعتداء ليشمل الكتب والمجلات التى كانت تعتز بها أكثر من أي شئ، وبقية إخوتها يمارسون حياة تقليدية، وبدلا من التواصل معها، والإفادة من ثروتها الثقافية، راحوا يقطعون المجلات ويسرقون بعضها ويلفونه فى سلة المهملات، وقد أطلقت الكاتبة عليها لقب الغالية تقول عنها: “أما إخوة الغالية فكانوا يضحكون عليها عندما يجدون لديها شغف القراءة وحرصها على الحفاظ على الكتب والمجلات، وحزنها عندما يأخذون منها شيئا لاستفزازها ويخفونه عنها ما تفضله حتى تستعطف جدتها فى المزيد من الحلوى والشيكولاته لتعطيها لهم حتى يتركوها وحالها مع القصص” ص52.
ولا أدرى إن كانت الكاتبة قد قصدت إلى استلهام بعض ملامح قصة سيدنا يوسف عليه السلام مع إخوته أم لا؟ إن هناك ملامح متشابه إلى حد كبير، وأيا ما كان الأمر، فإن الحكاية فى قصة يوف قد جاءت للعبرة، وأنها يمكن أن تحدث فى الواقع كثيرا، فهؤلاء الشباب نموذجاً واقعيا بل شديد الواقعية، لأنه غالبا يحدث فى كل بيت وبخاصة الأسر التى يكون عدد أفرادها كبيرا، وأحيانا الصغيرة.
وفى هذه القصة بالتحديد طرحت نموذجا للرجل الانتهازي الذى يحاول استثمار الزواج والارتباط من أجل المال، وتضطر فيفيان إلى القبول إكراما لجدتها التى كانت ترى فيه الزوج المناسب، ولكن بعد رحيل الجدة زال سبب قبولها له، فتقرر فسخ الخطبة رغم معارضة أسرتها كلها، لكنها تبحث عن ذاتها.
إذن هى نماذج من الحياة تطرحها الكاتبة عبر سرد جميل مشوق ممتع، وليس هذا كلاما إنشائيا، بل حقيقة، فما سر التشويق والإمتاع؟!
أخذتنا الكاتبة بجانبها منذ البداية، وجعلتنا نرنو إلى ما سيصل إليها الطريق الذى بدأته، وبالفعل وصلت إلى النجاح فى النهاية نجاحاً مبهراً، وقد احتفلت به فى أمسية أدبية شعرية أشاد بها الحاضرون وهللوا، وإذا كان ذلك على مستوى الأمسية الفعلية منطقيا ومقبولا فإنه على مستوى الكتابة والتلقي أمراً زائدا، وكان يكفى أن تقول: إنه بناء على إعجاب الجمهور بقصيدها طلب منها المزيد فألقت قصيدتين لها بعنوان كذا.. وكذا.. وباتت ليلتها سعيدة بما حققته وأنجزته، لكنها الواقعية الشديدة بالرغم من أننا أمام بطل رومانسي، وربما تساءل قارئ المقال كيف يمكن أن تجتمع الواقعية والرومانسية فى آن واحد؟! بالطبع هو يسأل من خلال ما ترسخ فى ذهنه ثقافيا عن مغايرة، بل وخصومة، بل وعداوة بين الاثنين، وهنا أمر غير صحيح لسببين، الأول أن المذاهب الأدبية الكبرى توالدت وتناسلا من بعضها، فالرومانسية ولدت من الكلاسيكية برغبة التطوير الكامنة فى الإنسان، وكذلك ولدت الواقعية من الرومانسية فى ثورة رفض لما آلت إليه الرومانسية من انغلاق على الذات، أما الثاني فيمثل فى أن الأدب الواقعي يعبر عن الواقع بكل ما فيه ولابد أن هناك أناسًا رومانسيين بالرغم من كل الآلام والأزمات التى يشهدها الواقع.
وها نحن أمام نموذج من الواقع، نموذج رومانسي فى تكوينه، يحلم بالحرية والانطلاق وليحقق ذاته، وهو فى سبيل ذلك يصطدم بكل مقومات الواقع ومعوقاته، ولكن الروح الرومانسية التى تلبسته لا تتخلي عنه حتى يتحقق له فى النهاية ما أراد، إن الواقع لا يعنى فقط المشكلات والأزمات، بل تقوم محاربة هذه المشكلات على أناس يحملون فى طياتهم الطموحات، وكثيرا ما ينجحون فى مسعاهم، بل إن الكتاب الواقعيين أنفسهم يصرحون بأنهم لا يكتبون عن المشكلات ونواقص المجتمع حتى تنكشف أمام من تريد حلها وليس رغبة فى جلد الذات.
ومن هنا (من الرومانسية) انطلقت لغة الكاتبة فى إطار شعري تجلي بوضوح فى القصص القصيرة حجما، بل وكان يسري فى القصص متعددة الصفحات، بحيث يمكن أن نقول بصفة عامة إن لغة المجموعة كلها شعرية بل وشاعرية لأنها تحرك المشاعر، وتأتي القصة الأولي (ملامح) التى يمكن عدها مفتتحا للمجموعة نفحة شعرية خالصة بمقاييس قصيدة النثر، ثم تأتي القصة الثانية بعنوان (المحاولة)تستمر اللغة الشاعرية تقول: “من يضُمّد الشروخ فى غربة الخروج من الآنية الزمنية.. النهار تنخلع منه الشموس، فيبقي الليل هكذا يطير فى لحظات الحضور حتى على منضدة اللقاء عن بعد” ص 20
كلمات شعرية مكثفة توجز رحلة الحياة، بل وتبرز أزمة الواقع الذى يتمثل فى سفر الكثيرين إلى الخارج طلبا للمال وترك زوجاتهم معلقات هكذا لا أنيس ولا جليس فتثور النفوس، وتتحرك نحو إيجاد مخرج وقد وجدته الكاتبة فى الفكر والأدب تقرأ وتكتب أدبا وهذا يتضح فى قصة (تصالح).
وفى القصة الثالثة تقول “هى تصادق الأزمنة، وتتصالح مع نفسها المتمردة والمرهفة.. ترسم زوايا اللقاء وتفرد شباك العمل لتصيد الوقت ومنحها أربعا وعشرين ساعة إنجاز (ص24).
وفى قصة (الجنة فى الحجرة) تقول: “خطواتها فقط هى الثابتة فى الصعود لكن ذاكرتها وقلبها يشتركان فى رسم اللوحة للأيام القادمة” ص 35.
وهكذا تمضي الكاتبة فى طرح شاعريتها عبر جمل قصيرة بليغة، فيما يعرف ببلاغة السرد ولذلك لم تكون ى حاجة إلى إثبات قصائدها الثلاث فى قصتها الأخيرة (أمسية) فمكانها ديوان شعر تنشره وقد نشرت.
وتتجلي الرومانسية فى هذه المفارقة الكبيرة بين بلاغة السرد هذه، والاسترسال فى السرد تفصيلات قد يكون فى غني عنها ويمكن الاكتفاء بالإشارة اللماحة، وذلك مثل ما جاء فى قصة (هو) حيث تقول: “وبعض الأطعمة المفضلة والتى مع الوقت فى بيت أبيها أحستْ بالفارق بين هذا وذاك، حتى الحب والحنان موزع على الأولاد، أما الجدة فالحب والحنان لفيفيان فقط، والاهتمام والملابس من أرقى المحلات والحلويات والشكولاتة بالبندق لفيفيان لأنه تفضلها والفونضام والمخبوزات والكيك صباحاً وبعد المغرب مع العصير، يا لها من فوراق فى كل شئ، وما هذه الضوضاء بين الأختين وأخيهما؟ ما هذا العالم الجديد الذى هى دخيلة عليه، والغرفة أيضا مشتركة مع أختيها، فأين غرفتها المستقلة وعرائسها ولعبها والفرش الحريري المعطر؟” ص 5
هكذا تبدو تقلبات المزاج الرومانسي ما بين هذا وذاك، لقد أرادت من سرد هذه التفصيلات أن تبين الفارق بين حياتين عاشتهما فيفيان، ولعلها أرادت أن تعبر عنها فى سنها (خمس سنوات كما قالت) فذكرت تفاصيل ما تحبه الفتاة الخمسية ولكنها على أية حال كان يمكن تجاوز المسألة ببعض جمل شعرية مكثفة مما أتت به عبر مجموعتها القصصية الجميلة المعنونة بـ”بكاء الشجر”.
وفى انتظار المزيد والجديد من الكاتبة المبدعة، وبخاصة أنها تملك قلما جيداً، ويمكن أن تضيف الكثير إلى الأدب النسوي الذى يعبر بصدق عن المرأة ومشاعرها وأحاسيسها، وطموحاتها وآمالها، بجانب آلامها، إن بطلة المجموعة لم تجلس تولول وتشتكي، إنها دائمة الصمود والتصميم على تجاوز أحزانها وآلامها، بل وتجعل منها منطلقا إلى واقع أفضل، وهذا بالضرورة يحدث التميز.