الشاعر والمترجم : د. شاكر لعيبي
………………………………………………
أولاً: عن الأصول الجمالية للشعر اليابانيّ:
ما فتئنا منذ بعض الوقت نقول إن شعر الهايكو ليس ممارسة شكليةً فحسب، إنما هو أمر آخر يطلع من تصورات فكرية وروحية عن العالم. إذا ما عرفتْ ثقافتنا الأصول الجمالية لـ (فن الشعر) الأرسطوطاليسي، وإذا ما قدّمتْ هي نفسها تصوّراتها عن (فن الشعر)، فإنها لم تتعرّف على نظرية أخرى للشعر غير نظرية المحاكاة اليونانية، وتناست أن الثقافة الآسيوية تقدِّم منظومة مفهومية مغايرة لما تعرفه عن الأصول الجمالية للشعر، ولفن الرسم أيضاً.
هنا مقدّمة ضرورية للأصول الجمالية للشعر اليابانيّ، مُنتخبَة ومستقاة من مصادر شتى، لفائدة القارئ العراقي والعربيّ.
أولاً: عموماً، تقوم الجماليات اليابانية على مثال أعلى يتضمن مبادئ مثل الوابي والسابي واليوجين. الوابي يعني (الجمال الزائل والصارخ) والسابي يعني (جمال المادّة الطبيعية والقِدَم) واليوجين يعني (اللطف العميق والرهافة). من هنا يقينا يطلع الهايكو.
ثانياً: يعتبر مفهوم الشنتو نبعاً للثقافة اليابانية، مُميِّزاً لجمالياتها جميعاً، عبر تشديده على كمال الطبيعة وحضور السليقة في (الأخلاق) والاحتفال بالمنظر الطبيعيّ.
ثالثاً: تأثرت الجماليات اليابانية بالبوذية: جميع الأشياء في البوذية تعتبر متطوّرة من العدم أو مُذابة فيه. العدم ليس (فارغاً). إنه فضاء لقوةٍ كامنةٍ: إذا كانت البحار تمثّل قوة كامنة، فإن كل شيء آخر هو كالموجة التي تجري منه وتعود إليه. لا توجد موجة دائمة. ولا توجد موجة كاملة.
رابعاً: انطلاقاً من فضاء القوة الكامنة يُنظر إلى الطبيعة بصفتها مجموعاً ديناميكيّاً يتوجّب تثمينه. تثمين الطبيعة جوهري بالنسبة للعديد من المُثُل العليا اليابانية وفي الفن بجميع ضروبه، والشعر والحِرَف اليدوية والفنية خاصةً.
خامساً: يرتبط مفهوم (الفن) بمفهوم “تثمين الطبيعة”. لا نتحدّث عن “محاكاة الطبيعة” هنا. هذا الفن يفضّل الخط القُطْريّ على المُثلّث الجامد، لأنه يمثل التدفّق الطبيعيّ، أي انسيابية الأشياء في الوجود. نرى ذلك في فن الرسم والعمارة وفي تصميم الحدائق والرقص والتدوين الموسيقيّ. أما في الهايكو فهو أولا: لا يحاكي الطبيعة دون شك، وثانياً: يبدو مسار رؤيته البصرية ومداها قُطْرياً أكثر من أن يكون هندسياً جامداً. منظوره غالباً كالمنظور الآسيويّ لفن الرسم: من الأعلى ومائل قليلاً نحو المرئيّ.
سادساً: يحيل مبدأ الوابي والسابي واعياً إلى الحياة اليومية. الوابي – سابي يتحدّد بجماليات (الأشياء القاصرة عن الكمال، سريعة الزوال وغير التامة). مبدأ الزائل والمؤقت جوهريّ (ومن هنا استلهم التصوير الأوربي المعاصر الفكرة). وكما أن الأشياء تمضي وتجيء فإنها ترينا علامات مُضيّها ومجيئها، وهذه العلامات تعتبر “جميلة” بحدّ ذاتها، وبالنتيجة فالجمال حالة متغيّرة للوعي، ويمكن أن تُرَى فيما هو مُبتذَل وبسيط، لذا:
سابعاً: في الزن سبعة مبادئ جمالية لتحقيق الوابي – سابي وهي: (اللا تماثُل واللا نظامية)، و(البساطة)، و(الجذريّ، المُجَوّى)، و (ما هو بلا ادعاء، طبيعيّ)، و(الرهافة واللطف العميق وغير المعلن للعيان)، و(غير المتناهي عُرْفاً، الحرّ)، و(الهدوء). وهي حاضرة كلها في الطبيعة لكنها توجد في الإنسان وفي الممارسة الفنية.
ثامناً: الميابي (يا Ya) هو واحد من أقدم المُثُل الجمالية العليا اليابانية التقليدية. في اليابانية الحديثة قد يُترجم بـ (أناقة) (لطف) (كياسة). المَثال لأرستقراطيّ الأعلى لفن العمارة يتطلب القضاء على العبثي والمُبتذَل، وهو مضادّ لتلميع الأخلاق وارتفاع النبرة والمشاعر الصاخبة، ويتطلب لذلك القضاء على الخشونة والفظاظة، من أجل تحقيق أقصى درجات النعمة. ويُعبَّر عنه عبر الحسّاسية تجاه الجَمال التي كانت السمة المميِّزة لحقبة هيان. غالبا ما يرتبط المياني مع مفهوم مونو غير المُدْرَك والوعي بالطعْم المزدوج (الحلو- المرّ) اللصيق بسرعة زوال الأشياء، وبالتالي كان يُعتقد أن الأمور التي هي في حالة انحطاط تُظْهِر معنى كبيرا من معاني الميابي.
مما لا شك فيه، لا تتطابق هذه المبادئ مع الأصول التي يقوم عليها الشعر العربيّ ولا الأوربيّ. من هنا أهمية معرفتها والتأمل فيها.
2014/07/25
ما هو مبدأ غير المُكتمِل inachevé الذي يقوم عليه الهايكو؟:
يعرف طلاب الفنون الجميلة العرب، كما أتوقع، هذا المفهوم (بالإنكليزية unfinished أو non-finito بالإيطالية): في الفن الحديث يجري الحديث عن جمالية غير المكتمل Esthétique de l’inachevé ويُقصد به العمل التشكيلي، نحتاً أو رسماً، الذي لم يُكمله الفنان بإرادته، أو بعدم قدرته على إكماله (لا نتكلم عن قصور فنيّ أو تقنيّ هنا). إذن هو تقنية فنية تفضّل التركيز على كثافة الإنجاز وآنيته أكثر من التركيز على إتمامه. أنه محاولة لتسليط الضوء على “الحمّى” الفنية بآنيتها، وإذنْ إنْ تم العمل أم لم يتمّ ليس مهماً قدر هذه (الحمى).
في الهايكو (ومنه استعار الفن الأوربي الحديث غالبا المبدأ، ثم أوجد له أمثله من تاريخه)، مبدأ السابي هو بالضبط مبدأ الزائل والمؤقت والجمال الصارخ (الآنيّ، اللحظوي)، وجماليات الأشياء القاصرة عن الكمال (التي لا تستطيع الاكتمال)، سريعة الزوال وغير التامة. هذا موقف جماليّ إزاء العالم، ينجم عنه شكل جملة الهايكو التي تبدو متشظية ظاهرياً (غير مكتملة) وصارخة الجمال (أي تومض وميضاً خاطفاً). مبدأ (عدم التمام) في الوجود قد يُفسّر قِصَر أبيات الهايكو: عدم تمام المعنى التقليدي والوقوف بدلاً عن ذلك على الإيحاء بشيء أعرض منه، وربما عدم اكتمال الإيقاع (لا أعرف اليابانية).
غالبية ما نقرأه في شرح الهايكو محصور بالومضة والاختصار والتكثيف، وهي أمور لا تشرحه لأنها مشتركة في مختلف أنواع الشعر، القديم والحديث.
الهايكو القائم على مبدأ “السابي – وابي” نجده في العمارة اليابانية أيضاً:
تحقيق المبدأ في العمارة اليابانية التقليدية يقوم على البساطة والاختصار والزائل والمؤقت éphémère بالطبع. فنُّ الحدّ الأدنى (مينيمال) يبدو وكأنه يتأسّس على مبدأ السابي – الوابي.
اليوم، في الغرب، يُستلهم المبدأ في تصاميم الديكور الداخليّ الذي هو تجسيد لهايكو فضائيّ: العلاقات بالفضاءات الداخلية.
المنظور، الخط القُطْري، في الرسم اليابانيّ لعله موصول بشعر الهايكو:
المنظور المستخدَم في بعض الرسم الياباني التقليدي يقع بالنظر من الأعلى (عين الطائر). لعل هذا المنطور القُطْري حاضر في الهايكو بطريقته الخاصة.
تبرهن علاقة شعر الهايكو بفن الخزف وبجميع الجماليات اليابانية، ان على علاقة الشاعر أن تمتدّ، أكاد أقول بالضرورة، إلى تأمل ضروب الفن التشكيليّ بأجمعها وجمالياته المرهفة.
ممارسة الهايكو، في العالم العربيّ:
الهايكو في الشعر ينطلق من فلسفة الزن. ولا حاجة لاستعادة منطلقات هذه الفلسفة الروحانية، لكننا بحاجة إلى التساؤل عن درجات الروحانية (أو العمق الوجوديّ) لبعض شعراء وشاعرات الهايكو العرب، ومستويات البساطة (المينيمال) لدينا.
على مستوى الاستخدام اليومي للحاجيات (كالخزف وطقوس الشاي..) وعلى مستوى العمارة، لعلنا لا نجانب الصواب بالقول بأننا نستخدم بشكل واسع الحاجيّات اللمّاعة المصنوعة في الصين، وأننا في عمارة جاهزة الصنع أو متماثلة المخططات في جميع أنحاء العالم العربيّ.
قُلْ للملك إنه عارٍ.
الهايكو لا ينطلق من فلسفة الزن ابدا وهذه قضية تاريخيّة كانت عند مؤسسي الهايكو الاوائل من باشو إلى شيكي.نعم إنها موجودة الآن لكن لا تمثل كل اتجاهات الهايكو وإلا لم ينتشر الهايكو ويكتبه اليهودي والمسيحي والمسلم والملحد وبكل لغات العالم.اما بالنسبة للعمق الوجودي في الهايكو العربي فهو ايضا لا يمثل كل الهايكو العربي اذا أخذنا الوجه الآخر للهايكو وهو السينريو الذي يعتمد على نقد المجتمعات وتعرية الطبيعة البشرية تحياتي د.شاكر لعيبي
عيد الفطر
مزهرة في الأصيص
نبتة الصبار
ابتسامة سريعة
في منتصف الطريق-
امرأة عابرة
طريق الزائرين
أسراب من الفراشات
بأتجاه القمر
اهلا بك، وشكرا على التعقيب والمشاركة