إكسير الخلود
أبي قلمي، أمي دواتي، ونسبتي
قريض به نلت المنى والمعاليا
فما الوحي إلا فيض روحي ونثرها
وما الشعر إلا “الرسم” فانظر خياليا
ستدفنني أيدي المنون بتربتي
ويبعثني شعري فأحيا اللياليا
عبد الله شحاده
قرأت أبيات الشاعر عبد الله شحاده فتذكرت قصيدة للشاعر المتنبي يقول فيها:“لا بقومي شرفتُ بل شرفوا بي، وبنفسي فخرت لا بجدودي. بين المتنبي وشحاده فخر بالذات ونرجسية تكشف عن ذاتها في أمرين: تأكيد صفة العظمة التي ترافق صفات الشاعر المفتخر بأن أباه هو اليراع، وأمه هي المحبرة، ونسبه يعود إلى الشعر. وهو نسب جليل رفعه إلى عرش العظمة والمجد.أما الدليل الثاني على نرجسية الشاعر شحاده فهو استعمال ياء المتكلم في أبياته (اثنتي عشرة مرة). ورقم اثني عشر دلالة اكتمال. فالسنة اثنا عشر شهرا، والساعة أرقامها اثنا عشر، وأسباط إسرائيل اثنا عشر. والأبراج اثنا عشر، وعدد الآلهة عند اليونان، في جبل الأولمب اثنا عشر… هذه الأنا تجد اكتمالها في الشعر. والشعر في نظرية الشاعر شحاده متصل بالوحي. والوحي هو الروح، في تسامقها وتساميها. والروح هي النثر. أما الشعر فهو رسم الشاعر وخياله.بين الروح/النثر والخيال الشعر تكتمل صورة الشاعر في كينونته المتصلة بالإلهام. ولكنه إلهام أشبه بالإشراق الصوفي، أو بنفس ابن سينا التي هبطت من المقام الأرفع.اثنا عشر ضمير متكلم متصل رمز لاتصال الشاعر الدائم بالحياة، في حضوره والغياب. يليها ضمير مستتر مرتبط بفعل الانبعاث: أحيا. وهذه لعبة الشاعر في تصوير غيابه والحضور، موته والانبعاث، بحيث يصبح الشاعر طائر فينيق يخرج حيًّا من بين الرماد، بفضل شعره. وكأن الشعر عنده هو نبتة الخلود الجلجاميشية التي لم تستطع الحية أن تسرقها.بين موت الشاعر وانبعاثه إيمان بخلود الأديب في أثاره. بين موت وحياة يعلن الشاعر شحاده أن الموت لن يقدر أن يتغلب عليه، وسيبقى خالدًا مدى الدهر، ثقة منه بقول السيد المسيح: من آمن بي وإن مات فسيحيا. الشعر والوحي صنوان. وفي لقائهما انبعاث من موت، وقيامة. وهذا ما يكسب الشعر بعدًا دينيًّا يجترح المعجزات بما له من قدرات إحيائية.الشعر والوحي وجهان لعملة واحدة هي الإبداع. والمبدع خالد في أعماله، وفي رحلته المباشرة، إلى عالم النور الأسمى والأسنى. لا تطاله يد المنون، وإن أردت جسده في حفرة الهباء، فروحه تبقى إلى الأبد، ولن يكون لملكها انقضاء، في عالم البهاء.أمر آخر ، يمكن استقراؤه في قصيدة الشاعر عبد الله شحاده، وهو إشارته إلى الرسم والخيال. وكأن الشاعر بوحي عُلويّ أدرك أنّ خلوده سيكون في رسمه الباقي. وليس هذا الرسم سوى ابنته الشاعرة ميراي التي أحيت ذكرى والدها عبر أمرين: الأول هو جمع شعره في مجلدات، وطبعها في حلة أنيقة. والثاني إبحارها في عالم الإبداع الشعري، عندما قررت أن تطير، وأن تكون البوهيمية الآتية من وادي عبقر الشعر الأنيق.عبد الله شحاده، أيها الغائب الحاضر، ما دام الشعر والحب والحبر، لك إكسير الخلود، في شعرك وفي قلوب عارفيك وقرائك، ولابنتك الشاعرة البوهيمية، ميراي، كل المحبة والتقدير.د. جوزاف ياغي الجميل