د. مصطفى الضبع
(عندما بدأت كتابة هذه السلسلة كنت مدفوعا بتساؤل: لماذا نصمت عن إعلان الحب لأحبة نعايشهم حتى نضطر لفعل ذلك بعد رحيلهم ، ولكن تدابير القدر لا تمهلنا فتجبرنا على فعل ما لا نحب ؟).الموت لا ينعش الذاكرة وإنما يعيد ترتيب الذكريات والصور.صعيدي حكيم في زمن العبث (أبو القاسم رشوان)رغم أن أخبار الموت ليست جديدة وإنما عندما نفقد الذين يليق بهم الحزن فليس بمقدورنا أن نستوعب حضوره المؤلم .منذ شهور كتبت عنه حلقة في هذه السلسلة أكتفي هنا بعنوانها ( الصعيدي الحكيم في زمن العبث) ، وأتخلى عن التفاصيل لفرصة أخرى أكون فيها قادرا على تجاوز ألم الفراق .لا أتذكر بداية تعرفي عليه في كلية دار العلوم التي التحقت للعمل بها مطلع الألفية ، لكن كثيرا من المشاهد تختزنها الذاكرة لرجل حكيم يجيد وضع الكلمات في مواضعها الصحيحة ، يكفي أن يكون حاضرا في مشهد ما ليقول كلمة موجزة يعجز مشاركوه المشهد أن يقولوا بعدها ما يجاوزها ، خلافا لما هو سائد لم أجده يوما متآمرا ، وخلافا لما هو سائد لم أره مشاركا في حفلة نميمة ( وما أكثرها ) ، ويكفي أن يصف شخصا بما يحلل شخصيته فيكون توصيفه دقيقا توصيف جهاز أشعة لا يتجاوز الحقيقة إلا ليؤكدها .أول مكاشفاتي كانت جلسة مناقشة رسالة علمية يشاركه فيها أستاذ من خارج الكلية حسبما تقتضي اللوائح ( كان المحكم الخارجي أحد الذين يصدقون أنفسهم ويرى نفسه واحدا من عتاولة الأدب والنقد ) وحسب بروتوكول المناقشة كان على الضيف أن يبدأ فما قال شيئا سوى أنه أمضى عشر دقائق فيما لم نفهم منه شيئا ، وعندما جاء دوره جعل الجميع يتسمرون في مقاعدهم حرصا ألا تفوته جملة مما يقول ، يومها ثبت في ذهني أول المعايير ( الأستاذ بعلمه لا بدرجته العلمية ، بحكمته وإدارته معارفه لا بما يحفظ منها ). بعدها جاء المعيار الثاني الأستاذ الأنيق الذي يحرص على صورة الأستاذ المنضبط (مرتديا أفخر ما يليق بالأستاذ أن يكونه ) ، جانب كبير من شخصية الأستاذ أن يحقق بلاغة الملابس ( نعم البلاغة لا تتحقق فيما نكتب وإنما هي سمة للقول والفعل والملبس والسلوك الإنساني القويم). ولم يتأخر أمر اكتشاف المعيار الثالث: تجنب الدخول في الحروب الصغيرة و الصراع لصالح رصيد البنك (يوما ما قلت له أن أحد الأساتذة يقول : نحن نحافظ على امتلاء محافظنا فمال علي قائلا : العيب لما ييجي من أهل العيب ….).
بعدها توالت المكتشفات التي شكلت صورة أستاذ من طراز خاص ، والأستاذ بهذا الشكل له صورتان تتكاملان ، صورة عامة يراها الجميع ، وصورة خاصة تتشكل من خلال علاقتك به ومساحة اقترابك من عالمه .صحيح لست ممن يحبذون وضع لافتات على البلاد تصف أهلها ولكن تجربتي مع أبناء قنا أنهم رجال من طراز فريد ، ونظل دائما محكومين بالتجربة مهما تعددت المشاهد وتطاولت الأزمنة تظل خير معلم وخير منتج للخبرة. أحببت كثيرا طريقته في تحليل شخصيات الآخرين بصورة موجزة ودالة وحادة ، مرة كنت أسير معه في الجامعة رأينا أحدهم ممن لم يكن يليق بهم أن يكونوا فيها ( الجامعة طبعا) : قال بكل تلقائية : (شايف يا مصطفى الراجل ده لما تبص عليه بذمتك تقدر تقول إن له أب رباه ) وهي حقيقة فكل من يعرف هذا الأستاذ على يقين من أنه لم ينل أي حظ من التربية.في حوار هاتفي امتد بنا الحديث إلى انتخابات العمادة التي كانت تدور وقتها ولما سألته رأيه فقال بكل تلقائية حكمته التي لا تنسى : بص يا مصطفى انتخابات العمادة بالضبط زي الجوهرة اللي وقعت في محل الأدب (دورة المياه) لو تسمح لك كرامتك وذائقتك أنك تمد ايدك وتاخدها من المخلفات تفضل…. التزمت الصمت لأستوعب السبيكة الذهبية التي وضعها بين يدي ….إن الموت حق والفراق كذلك ولكن فاجعتنا الحقيقية أن مثل هؤلاء لا يعوضون ولا بديل لهم ، وصدق القائل (بتصرف) : ماكنت أعلم قبل دفنك في الثرى أن الجواهر في التراب تغوص . أتوقف هنا فمن الصعب المواصلة .رحم الله الأعز الدكتور أبو القاسم رشوان الجوهرة التي فقدتها دار العلوم جامعة الفيوم