خالد خضير الصالحي
يتفق رأي الناقد الدكتور حاتم الصكر عن تجربة النحات العراقي احمد البحراني كونها تجربة “مهووسة بالشخوص، والإنشائية المتجسدة في بناء موضوعاتـ(ـه)…”، ورأينا بامتثاله لتمييز هيجل ما بين الرسم (التصوير بالمعنى الأوسع) وبين النحت، معتمدا على ثنائية السامي والارضي، مفردا النحت باعتباره لا يكترث الا نادرا إلى الروحي، متجها إلى الأرضي المتجسد في مظهر: شخص فرد، أو عنصر حياتي، فاتجه البحراني دون ان يتخلى عن هدف ان تنطوي أعماله على جمال كلاسيكي، الى الناس المنشغلين بهمهم الحياتي، ومنغمس كلية في موضوعاته اليومية التي لا يتخيل الكثيرون صلاحيتها للنحت، ولكنه يغامر باتخاذها موضوعات له، رغم انه يقدم ما يشبه الاعتراف، في مرحلة لاحقة، بعدم صلاحية تلك الموضوعات للنحت ما لم تكتسي بغرائبية الإنجاز، والتقنية، والتكوين (المسريل)، وبذلك يؤهل اليومي و(المبتذل) من الموضوعات لتكون صالحة للنحت، رغم تخليها عن ابهتها الكلاسيكية (الصالحة) للنحت، وفق الفهم التقليدي المكرس: كارتون البيض، كف الملاكمة، بالون الأطفال، يطقٌ او يطغٌ (فراش بسيط مرزوم بحبل)، والحمار، بطله الأثير الذي أعاد نحته مرارا في موضوعات واوضاع شتى
ان التجربة النحتية للفنان احمد البحراني تجربة متحررة، فلم تكن في غالبية مراحلها، وفي معارضه العديدة السابقة، معنية بالقيم التراثية، وبالقواعد الماضوية التي سنها النحت العالمي المعاصر، والنحت العراقي طوال الاف السنين الماضية من تاريخه، باعتباره نحتا كان يشتغل على موضوع (وحيد) هو الجسد الإنساني الذي بسببه لم يجد أندريه بارو بداً من وصف ذلك النحت بما يشبه جيشا من الدمى التي تقف في حضرة الاله، وتحدق باتجاه عالم مجهول؛ لذا يجد احمد البحراني نفسه، كما وجد النحاتون العراقيون المعاصرون الذين يشتغلون بمتجهات مخالفة للتراث، بانه على وشك ان ينفض يديه من التقاليد التي اورثتها تلك الدمى الرافدينية من جينات ثقافية في تجارب نحتية عراقية مهمة: كتجارب: إسماعيل فتاح الترك، وطالب مكي، ومكي حسين، وتجارب أخرى؛ فبدا جهده وكأنه محاولة لتأسيس واحدة من أكثر تجارب النحت العراقي الجديد تعارضا مع التراث
إن ما يقدمه البحراني قد يستند الى (شكل) في صورة غابرة، او ربما تحديدا، يستند الى (لقطة) فوتوغرافية، تلبست، بفضل جرأة احمد البحراني، طبيعة نحتية، فغالبية منحوتاته كانت تقف بقوة خلفها لقطة فوتوغرافية، قد يتمادى النحات احيانا في تكرارها بطريقة فوتوشوبية واضحة، وهو ما قد يشكل جوهر فهم (بصَري) مخالف للسائد من موضوعات النحت، ولكن، ورغم احترامه لكلاسيكية منحوتاته فإن بعض تقنياته أقرب ما تكون إلى تجربة النحات صالح القرة غولي في تجردها من معطيات واشتراطات المرجع الذي استمدت منه لتعيش حيواتها دون قوانين مفروضة، لأنها مستمدة من الواقع المعيش وليس من قيم النحت
ان غالبية النحاتين العراقيين يفكرون بالطين باعتباره مادة أولى لمنحوتاتهم، فكان بعضهم يترك آثار أصابعهم حينما كانت تداعب المنحوتة قبل جفافها؛ فتشكل هذه الآثار احد اهم (العلامات التي لا تنمحي) من المنحوتة بعد تحولات مادتها الاولى، بينما نجد أهم السمات المهمة في تجربة احمد البحراني انها، ومنذ مراحلها الأولى بالطين، تبدو وكأنها متنكرة لهذه المادة، ومتشوقة للتحول الى مادتها الجديدة البرونز، وتبدو وكأنها تنتمي الى عصر تطويع الحديد، وعصر الفعل المدمر الذي مارسته الصلابة الحديدية كأهم العوامل الفاعلة في القتل وفي تطوير وسائل القتل فشكلت بذلك تحولات مؤثرة في مجرى الحضارة البشرية، وهي هنا تتصف بنفس المتجه حينما يعتبر البحراني الحديد المادة الأقدر على التعبير عن الحروب والقتل الذي تمارسه البشرية تجاه بعضها بعضا
لا تبدو تجربة احمد البحراني مهووسة بالشخوص فقط، إنما أيضا بالإنشائية المتجسدة في بناء موضوعات تعارض التجريد الذي تفترضه الكتلة النحتية المتشكلة من مادة البرونز أو غيرها، وتكون مادة النحت مناسَبةٍ لاستذكار ثقل الحياة، وشدة وقعها، ووحشيتها، وجمالها أيضاً، معززة بجرأته في نحو أثر المادة الأولى، وفكّ الارتباط المرجعي بها. لقد تلمس الناقد فاروق يوسف تحولات المادة، في مستقبل تجربة البحراني، حينما وصف ذلك وكأنه “تحرر من هيمنة أبعادها الداخلية” واقتراب تدريجي من التجريد الذي رافقه عزوف “عن استخراج أشكاله من كتلة المادة الصماء… لأنه يريد أن تكون هذه الأشكال مصدر الكتلة”، وان ذلك ربما كان آخر ما يفكر فيه البحراني، لان التجارب (الأخرى)، المناقضة لمنحوتات المشخصات البشرية، وان كانت تشترك مع البحراني بوشائج قوية إلا أنها لا تجد لنفسها إلا صدى محدودا في جوهر تجربته، ذلك الجوهر الذي تأسس على: أولا، نظام في القطيعة لا يسمح بظهور مرجعيات تثقل كاهل التجربة، وثانيا، نقل مركز ثقل عملية التلقي من الموضوع والأشكال المرتبطة به إلى المادة
لقد وجد النحات نفسه بمواجهة الشكل باعتباره القاسم المشترك لكلا النمطين، ولكن بمعنى مختلف في كل مرة: فكان الشكل وهو يتجه، أولا، صوب الموضوع، في التجارب النحتية المشخصة، ليخلق نمطا من تعبيرية المشخص الذي يفتح الباب لرياح تجارب بعيدة كل البعد عما يفكر به، وثانيا حينما يكون الشكل صدى للمادة، حيث لابد لتلك المادة، لكي توجد، من أن تتموضع من خلال الشكل، أي أن يكون الشكل نتيجة لابد منها لتحقق وجود المادة المجردة. وهي الكيفية ذاتها التي كان يفهم بها النحات عبد الرحيم الوكيل أعماله، والذي قدم تجربة متميزة في هذا الاتجاه، فقد كان مستغرقا “في خواص الكتلة والمادة للبحث عن ما يكمن فيهما خلف المظهر المرئي الذي يأخذ المشاهد بعيدا عن فكرة النحت نفسها ليضعه أمام الشكل وحده ويصبح المعنى هو المظهر ويصبح جوهر المحاولة التي أرادها النحات لأيقاظ المادة من سباتها هو محض استنساخ لأشكال الطبيعة” والذي يجيء تجسيدا لفكرة “كون النحت قد اجتاز منذ بداية القرن مراحل عديدة في طريق إزاحة الشكل عن المادة وفي اكتشاف أهمية المادة و تأكيد سطوتها وبالطبع قدسيتها” كما يؤكد الناقد سعد هادي، وهو الأمر الذي يصلح، برأينا، لتشكيل مقاربة لتلقي تجربة البحراني، فهذا النحات ليس فقط يحاول أن “يفصلنا عن مصادره الواقعية” كما يقول الناقد فاروق يوسف، بل هو يفصلنا عما تراكم علينا، نحن المتلقين، من (قواعد راسخة) في تلقي النحت العراقي في تجاربه المكرسة، ومن كلا الاتجاهين، أي كلا اتجاهي النحت العراقي، أن البحراني لا يهدف إلى اتخاذ إسلاف له يتتبع خطاهم، ولكنه يتتبع خطى فكرة أن يكون الشكل حاصل وجود المادة ليس إلا، و يتمنى أن لا يقوم المتلقي بمطالبة النحات، ولا العمل النحتي. بأية فواتير عن تلقيه العمل،
فما يقدمه ليس إلا مادة مهملة أعاد تشكيلها، وان على المتلقي أن يتلقاها كما هي، باعتبارها مادة اتخذت شكلا ما دون هدف محدد له، ولا يطالب بما هو أكثر من ذلك، فالمتلقي يمر من خلال (الشكل والصورة) وليس من خلال (المعنى) وذلك ربما هو جوهر فهمه (للتفكير البصَري) في النحت، والذي يتفق فيه مع النحات عبد الرحيم الوكيل على الرغم من اختلافه معه، بينما تبدو تجربة البحراني، برأينا، ابعد ما تكون عن النظرة السطحية، من ناحية طبيعة المادة والتكنيك واقرب إلى تجربة النحات صالح القرة غولي، إذ يستخدمان خامة الحديد في اشتغالهما؛ وذلك راجع إلى تجردها من معطيات واشتراطات المرجع الذي استمدت منه لتكون كيانات شكلية قائمة بذاتها، يتحدد معناها في ضوء وجهة النظر التي تتعامل معها جماليا أو تصل إلى لحظة الاتفاق مع جمالياتها أو مع ما حاول النحات الوصول من خلاله إلى جوهر المادة” وذلك هو جوهر تجربة البحراني
ان منحوتات احمد البحراني، ناتج عملية انتقاء لعلاقة بين طرفي استعارة شعرية، عبر ما يعرف بالتشاكل الصوري بين العنصر (الصورة) في واقعه الحياتي اليومي، وبين العنصر في واقعه في ذهن النحات احمد البحراني، وهو تكنيك خطير يحتاج موازنة دقيقة جدا قد لا تتسنى لكل النحاتين