ﺇﺧﺮاﺝ: فيليب أسمر
ﺗﺄﻟﻴﻒ: نادين جابر
طاقم العمل:
ماغي بو غصن
باسم مغنية
بديع أبو شقرا
وسام فارس
لقد شدّني الحديث عن المسلسل اللبناني “بالدم”، فقررتُ مشاهدتَه. وبعد انتهاء عرض المسلسل يوميًّا، قضيتُ يومين أتابعُه بحرص شديد لئلّا يفوتني أيُّ تفصيل، ولو صغير، خاصّةً أنّي قررتُ مناقشتَه ومسلسلًا آخر، “لام شمسية”، في لقاء خاص في غرفة ١٩.
“بالدم”، مسلسل لبنانيّ بامتياز، يتناول قضيّة اجتماعية، بل مأساة لا يمكن إلّا أن نقف أمامها حيرى. لقد عالج مسألة التبنّي غير المشروع، ومأساة فتاة تمّ تبديلها في المستشفى يوم ولادتها. ولكن المسلسل، لم يتوقّف عند هذه القضيّة فحسب، بل عالج إلى جانبها قضايا أُخرى، منها ما يتعلّق بالتبنّي غير الشرعي والاتجار بالأطفال، إضافةً إلى قضايا التهريب والمخدرات. كما لفتت الكاتبةُ النظر إلى قضيّة إنسانيّة دقيقة من خلال متابعة الشخصيات، وضعتنا الكاتبة وجها لوجه مع أنفسنا، الأم التي تنبذ الابن الذي يُقصى، العشيقة التي تصبح حضنًا بديلًا، قضية تجسّدت في مشهد مؤثّر لشابٍّ تائه، تراكمت عليه الخيبات، وأصبح مصدرَ مشاكل لا تنتهي لأُسرته. تدور مواجهة حادّة بين الأُمّ وعشيقة ابنها، التي تُقارِبها في السنّ، فتقول الأُمّ بحزم: “ابتعدي عن ابني، لا ينقصنا المزيد من المشاكل.” فتردّ المرأة بهدوء مليء بالتحدّي والمرارة: “لا يجب أن تتعامل الأُمّ مع ابنها بهذه الطريقة… لا يجب أن تلوميه دائمًا وتتهميه بالفشل، لا يجب أن تطرديه من المنزل وتتبرّئي منه كلّما ارتكب خطأً. هل جرّبتِ مرّةً أن تسأليه قبل أن تلوميه عن سبب ارتكابه للخطأ؟ هل حاولتِ أن تفهمي ما الذي يجعله يخرج من مصيبة ليقع في أُخرى؟ مروان هو ابنكِ نعم… لكنّني أفهمه وأسمعه أكثر منكِ. هل تعرفين لماذا؟ لأنّني أتحدّث إليه، أناقشه، ولا أُشعره ولو للحظة أنّني قد أتخلّى عنه. أُشعره دائمًا أنّه شخص يستحقّ الحبّ، حتى وإن لم يكن فعلاً يستحقّ هذا الحب.”
وفي مشهد آخر، تسأل الأُمّ ابنها بانكسار لا يخلو من الإدانة: “لماذا أصبحتَ هكذا؟ لا أنا هكذا، ولا والدك، ولا أُخوك، ولا أُختك… من أين أتيتَ بهذه الطباع؟” فينفجر مروان، كأنّما يحمل في صدره سنوات من الغضب المكبوت: “لماذا؟ دعينا نُعِد شريط حياتي معًا… منذ ولادتي، كنتُ الطفل الأوسط؛ لا محبّة الابن البكر نلت، ولا دلال الصغير حظيتُ به. كنتِ ترينني دائمًا الأخير، الهامشي، الغائب حتى في حضوره. ألبس ملابس أخي القديمة، أدرس في كتبه بعد أن أَمحُو آثاره، لا سرير لي، بل كنبة مهترئة، ولا أحد يسأل عنّي لأنّ أختي الصغيرة “مريضة” ولا ينبغي أن نُزعجها. ماذا عنّي أنا؟ من أنا؟ ما موقعي بينكم؟ لا شيء… مجرّد ظلّ في زاوية البيت. مَن منكم سأل عن ألمي؟ مَن احتضن حزني؟ لا أحد. كلّ ما كنتُ أسمعه هو: لماذا لا تكون كإخوتك يا مروان؟ تعلّم من بشير، انظر إلى حنين كم هي ذكيّة. ركضت وركضت، حاولت جاهدًا أن أصل إلى مستواهم، لكنّني لم أستطع. أتدرين لماذا؟ لأنّني لستُ هم، ولن أكونهم. حتى حين أحاول أن أكون جيّدًا، دائمًا ما تقع مصيبة. دائمًا هناك خطأ بانتظاري. تسألينني ما الذي أراه في هذه المرأة؟ أراكِ فيها، أُمّي. أرى فيها الحنان الذي لم أعرفه منكِ. ربّما لا أُحبّها كامرأة، لكنّني أُحبّ فيها الأُمّ التي احتجتُها دائمًا ولم أجدها فيكِ. وجدتُ معها شعور العائلة، شعور الانتماء… فهل فهمتِ الآن لماذا أنا هكذا؟”
ليست هذه المشاهد مجرّد دراما تلفزيونيّة، بل هي مرآة صادقة لحيوات كثير من الشبّان الذين حوصِروا بلقب “الفاشل” داخل أُسرهم. وبدلًا من احتضانهم ومساعدتهم على النهوض، وُوجِهوا باللوم، والرفض، والتهميش. فكان الطريق إلى الخطأ أقصر وأسهل. بعضهم انزلق نحو الإدمان، وآخرون إلى السرقة، أو حتى الجريمة.
نحن لا نُبرّر هذه الأفعال، لكن من الضروري أن نُضيء على جذورها. فكم من “بطة سوداء” في البيوت ليست إلّا ضحيّة لغياب الحب، ولسوء الفهم، ولوطأة المقارنة. هؤلاء الأبناء لا يُولدون فاشلين، بل يُدفعون إلى الفشل دفعًا.
والأسرة، بما تملكه من تأثير عاطفي عميق، قادرة على الإصلاح كما هي قادرة على التدمير. إنّ الحبّ غير المشروط، والإصغاء، والتقدير حتى وإن لم يُعبّر عنه بالكلام، قد يكون طوق النجاة لأحدهم.