“
في قصائد الشاعر “البطوش” ملمح استثنائي للفقر والموت، إنه يعاين مأساة الإنسان من أقرب مسافة وجودية ممكنة ويؤمن أن الشقاء الإنساني أشبه بسلسلة معقودة حلقة تلو حلقة، وهي ميراث الإنسان للإنسان. فكرةٌ لا تنفصل عن “العود الأبدي” عند ميلان كونديرا في روايته “الخلود”. ويذكرنا أيضا بأسطورة “سيزيف” حامل الصخرة المتدحرجة للأبد.
الأب في هذه القصيدة هو “سيزيف” الذي يعيش في كل بيتٍ عربي وقلما أن يراه أحد. يراقب الابن الطفل مأساة الأب وانغماسه في الصمت والكتمان واستغراقه في وحدته؛ وكأن بؤس الفقر والدّين سرٌ عظيم يخصّه وحدة،، يترفع الأب عن إظهار قلقه لأطفاله وزوجته.
لكنّ الطفل سرَّ أبيه من خلال لعبة الغميضة،، ويراه منغمسا في الحزن ولا يفهم المعنى لصغر سنه إلا بعد ثلاثين عاما، أي في وقت متأخر نسبيا، الزمن الماضي / الطفولة. أما الزمن الحاضر / الواقع ؛ كلاهما زمنان يتباعدان ويتقاربان ويتقاطعان في جوهر مأساوي واحد هو المعاناة .
يُظهر النص عمق المأساة من خلال محمولات الفعل” تشنقُ” التي تصوّر أعباء الأب، فقد صوّر الشاعر الدَيْن وكأنه حبل مشنقة ملتفٍ حول عنق الأب ، والمصير الحتمي هو الموت.
النص يواجه القارىء في صورتين للموت أحدهما: الموت المعنوي وهو أشد قسوة من الموت الآخر الجسدي. لأن الأول يعني معاناة طويلة مع الفقر بينما يعكس الموت الجسدي الراحة الأبدية.
وبحسب جاكبسون في نظرية التلقي فإن كل نص يتضمن شيفرة، فهل كانت رسالة النص موّجهة ضد مؤسسة الزواج ؟؟! وصدى النص هو صدى نساء تراقيا اللواتي قطّعن جسد أورفيوس ولم يتبقّ إلا رأسه هائما في النهر ومعزوفاته محلّقة في الفضاء؟؟!! .
يقول الشاعر :
رأيتُكَ يا أبي
وأنتَ تشنقُ نفسكَ
وراءَ الباب
كنتُ مختبئاً في الخزانةِ
ألعبُ غمّيضةً
مع الله
منذُ ثلاثينَ عاماً…
*
رأيتكَ يا أبي
وأنتَ تشنقُ نفسكَ
كنتَ تلفُّ حولَ عنقِكَ
عائلةً
ثمَّ تقفزُ في الدَّين.