تناولت الدراسةُ والمَوْسومةُ بـِ (الأسلوب واللغة والصورة الشعرية عند الشاعر جورج فرح، الأسلوبَ واللُّغةَ والصورةَ الشعريةَ، في شعرهِ وأهمَّ مظاهرِها الأسلوبيّةِ على المستويات التركيبيةِ والدلاليةِ والصوتية، بغرضِ استقراءِ هذه المظاهرِ وقدرةِ الشاعرِ على توظيفِ اللغةِ والصورةِ الشعريةِ توظيفًا دلاليًا على كافةِ المستوياتِ التي تُعبّرُ عن لغتهِ وتجربتِهِ الإنسانيةِ والإبداعية، والوقوفِ على جمالياتِ وفنياتِ وتقنياتِ استخدامهِ للصورةِ واللغةِ الشعرية، والكشفِ عن النظامِ الفني واللغوي والدلالي الذي ميزَ عملَهُ وتجربتَهُ الشعرية.
لقد انطوت نصوصُ الشاعر” على الكثير من المظاهرِ الأسلوبيةِ واللغوية التي جعلتْ منه لوحةً فنيةً لمظاهرَ أسلوبيةٍ وفنيةٍ حاضرةٍ في قصائده، بدئاً من اللغةِ والمعجمِ الشعري والحقولِ الدلالية، ومروراً بتقنياتِ تشكيلِ الصورةِ الشعرية، وانتهاءً بتوظيفِ العديد من العناصرِ الأسلوبية الأخرى.
وقد تميزتْ نصوصُ الشاعرِ فرح بطولها المتوسطِ والخفيف على سَمْعِ المتلقي، من خلال توظيفِ عدةِ مظاهرَ أسلوبيةٍ ولغويةٍ في آنٍ واحد حتى في السطر الواحد، إضافةً لبناءِ التراكيبِ وتوظيفِ التقنياتِ اللغويةِ والتصويرية وبثِّ الدلالات، ، يقول الشاعرُ جريس فرح في قصيدتِهِ لا تقولوا مائلة:
فلنحمدِ اللهَ الذي أزاحَ عنا الأحملَهْ
وخصَّها بغيرنا
مِنْ غيرِ ما أنْ نسألَهْ..
فليَعملَوا،
وليَجهَدوا،
وليُنتِجوا كلَّ الذي نحتاجُ أن نستعملَهْ
أو نلبسَهْ
أو نأكُلَهْ…
يجري بنا أو نحملَهْ…
أولاً: الأسلوب
يأتي التميزُ في الأسلوبِ في إطارٍ فني لغوي الإبتكارِ والتجديد، ويقولُ أحمد الشايب في ذلك: “الأسلوب هو العنصرُ اللفظي، أو الصورةُ اللفظية التي يُعبَّر بها عن المعنى، أو نَظْمِ الكلام، وتأليفِهِ لأداءِ الأفكار، وعرضِ الخيال، أو هو العباراتُ اللفظيةُ المنسقةُ لأداءِ المعاني.
فلكُلِّ شاعرٍ أسلوبُهُ في تشكيل وبناءِ مُعجمِهِ الشعري الذي يُشَكِّلُه ويُنشئَهُ من خلالِ الإبتكارِ في الألفاظ، ومن التجربةِ الشعرية والشعوريةِ التي يقومُ عليها قاموسُهَ اللغوي”، وقـد لا يكـونُ للشاعرِ قاموسٌ شديدُ الثراءِ والاتساعِ بالمعنى الكمي للكلمة، ولكنْ تبقى قدرتُهُ على إعادةِ تشكيلِ المفرداتِ ووضعِها أمامَ آلافِ الصيغِ والاحتمالاتِ التي يختلفُ كلٌّ منها عن الآخرِ، ويبدو ذلك في نصوصِ الشاعرِ جورج فرح الذي وظفَ لغتَهُ وأساليبَهُ المختلفةِ لتكونَ الإطارَ المثيرَ والمؤثرَ لأفكارِهِ وعواطفِهِ وتجاربِهِ الخاصةِ، وفلسفتِهِ عن الحياةِ والإنسانِ والواقعِ وغيرِها من الأغراضِ والمضامينِ التي تدفعُ الشاعرَ للكتابةِ حتى وهو يكتبُ في موضوعٍ خاصٍّ وفردي. ففي قصيدتِهِ ” مولدُ الخلود” يقولُ الشاعرُ فرح:
كيف كفَّ الخَفقُ يا أمّاهُ في الصَّدرِ؟
بل كيفَ واراكِ الترابُ
ولجَّةُ القبرِ؟
أهُناكَ بَعدُ مواجِعُ؟
أهُناكَ عينٌ تدمَعُ؟
أم راحةٌ وسكينةٌ
وسَلامةٌ وتمتُّعُ؟
حيث تميزَ النصُّ بالعديدِ من المظاهرِ الأسلوبيةِ واللغويةِ التي جعلتْ من لغتِهِ لغةً شعريةً بامتياز، نصٌّ يخاطبُ أمّهُ ورحيلَها، لذلك قامَ الشاعرُ بالاستهلالِ بالسؤال بــ (كيفَ) مع ملاحظةِ ظاهرةِ التتابُعِ الحرفي لحرفِ (الكاف والياء والفاء) في مطلعِ القصيدة، كما وظفَ الشاعرُ في هذا النصِّ العديدَ الجماليات والفنياتِ التصويريةِ إلى جانبِ المظاهرِ الأسلوبيةِ اللغويةِ التي تكثّفُ الموسيقى الداخليةَ في النصِّ، حيث نجد أنّ التوازي (في لحظة، في غفلةٍ، في حيرةٍ) والتكرار في (تكرار حرف الجر (في)، وتكرار لا النافية، والسراج) والسجع في (العزاء، الدعاء، الرجاء، السماء، الضياء، ترجعُ، يسطُعُ)، اجتمعوا معاً في قولِه:
فارقْتِنا في لحظةٍ
في غفلةٍ
وتركتِنا مِن أمرِنا في حَيرَةٍ
لا يشفَعُ فيها العَـزاءُ،
فلا الدُّعاءُ ولا الرَّجَاءُ
ولا السَّماءُ ستُرجِعُ
زيتَ السِّراجِ إلى السِّراجِ
ولا الضِّياءَ فيسطُعُ
والتتابع الحرفي في حرفي (اللام والسين) في السطور الثلاثةِ الأخيرة.
كما وظفَ الشاعرُ عدداً من الأساليب اللغوية من التتابعِ الحرفي (الواوِ واللامِ والألفِ والنونِ والهاء)، والتوازي في الألفاظِ في السطورِ السابقة، كقولِه: أو نلبسَه، أو نأكلَه، أو نحملَه. كذلك التكرارُ الذي كان بارزًا في نصهِ ونصوصِه الأخرى كقولِه:
فلا تثيروا القلقلَة
ولا تزيدوا البلبلهْ
ولا يقضُّ نومَكم تفكٌّر في مسألهْ…
وإن تَرَوا مُعوَجَّةً
لا تقولوا: مائلهْ!
وهنا أرادَ الشاعرُ من التكرار لـِ (لا) الناهيةِ الاشارةَ إلى تماثلِ السطور مع المعنى وما يرافقُهُ في اللفظِ حيثُ كان التكرارُ بترديدِ لفظة (لا)، وهذا أدى إلى وجودِ تلك العلاقةِ الخارجية والشكليةِ إضافةً إلى ربطِ الجُملِ لوجود الدورِ الدلالي في تركيبِ النص والايقاع. لذلك نجدُ أن التكرارَ أداةٌ فنيةٌ هامةٌ استعان بها الشاعرُ من أجل بناءِ القصيدة والتي ساهمت هنا بمساعدةِ المتلقي على الوقوفِ على النصِّ، واستخراجِ أنها ضرورةٌ لغويةٌ مقصودةٌ وليست عبثية، حيث يجعلُ من النصِّ الشعري قطعةً متماسكةً، ويدللُ على الحالةِ النفسية التي يعيشُها الشاعر، ويدللُ على رفضهِ للكثيرِ من الممارساتِ غيرِ المقبولة والتي ينهى عن القيامِ بها، وقولُهُ كذلك في ذاتِ النص:
لا تُتْعِبوا أعصابَكم
لا تُجهِدوا أفكارَكُم
فإنْ نطقتم فاحذروا
مِنْ بنتِ فِكْرٍ قاتلة…
كما نجدُ أنّ شاعرنا قد وظفّ الألفاظ الاهتزازية ضمنِ الأساليبِ المتعددة الأخرى التي كثّفت منْ حضورِ الموسيقى الداخلية في نصوصه لما لهذه الألفاظِ من جرسٍ موسيقيٍ عذب، وكسرٍ للرتابةِ في المفردات، كقوله في قصيدة “لا تقولوا مائلة”:
فلا تثيروا القلقلَة
ولا تزيدوا البلبلهْ
….
ونحن في المحصّلة
جميعنا يدركُها
أعرافنا المهلهلهْ
حيث نجد أنه استخدم ألفاظاً اهتزازية مثل (قلقلة، بلبلة، مهلهلة) مما أضاف على الإيقاع الداخلي جرساً عذباً يثيرُ السامع ويشُدُّ انتباهه. كما وظّفَ شاعرُنا الجناس أيضاً كتقنية فنية لتعزيز الموسيقى الداخلية لما لها من دورٍ في شحنِ النصِّ بالطاقاتِ التعبيرية كقولِه في قصيدة “الليلُ والحبُّ وحبيبتي” مجانساً بين (يتدلل-يتسلل) و بين (حيرتي-حيلتي) في جناسٍ ناقص:
في الليلِ يَطغَى عِطرُها
يتدلّلُ… يتسلّلُ
في جَوفِ أعماقِ الوَريدِ
وَيُوغِلُ…
والعِطْرُ عِندَ حبيبتي لا يُمْهِلُ
لا يَعْرفُ الإبطاءَ فيما يفعَلُ
وأنا شَديدُ الحِسِّ
لا أقوى على عِطْرٍ يُبَرّحُ بالفُؤادِ
ويقتلُ…!
واحيرتي، ما حيلتي
وكذلك توظيفُهُ للانزياحِ التركيبي من خلالِ التقديمِ والتأخيرِ كما هو جليٌّ في النص السابق أيضاً في قوله: في الليل يطغى عطرُها- علماً أنّ الترتيبَ المعياريَّ لهذه الجملةِ هو (يطغى عطرُها في الليل). وفي قوله: والعطرُ عند حبيبتي لا يُمهِلُ- والترتيب المعياري لهذه الجملة هو (لا يمهلُ العطرُ عند حبيبتي). فوظفَ شاعرُنا التقديمَ والتأخيرَ لإعطاءِ بعضِ عناصرِ الجملةِ أهميةً على غيرِها من العناصر.
ثانياً: اللغة والمعجم الشعري:
“إنّ أبرزَ ما يميزُ اللغةَ الشعريةَ هو ثراؤُها بالطاقاتِ التعبيرية، واكتنازُ الإيحاءات. لقد كان سعيُ الشاعرِ جورج فرح من أجلِ اكتشافِ لغةٍ أخرى تتّسعُ للتعبير من خلالِ أحاسيسِه ومشاعرِه التي يُحِسُّها ويَشعُرُها، ومحاولتِهِ المتواصلةِ في سبيلِ إبداعِ لغةٍ داخلَ اللغة. وتفاعلِ وجدانِ المتلقي معها. وفي قصيدة موطني قولُه:
مَوطني الدُّنيا وَحُبُّ الخَلقِ ديني،
وَسَلامُ الأرضِ إيماني، يقيني..
ضَحْكَةُ الأطفالِ،
في عُرفيَ، أشجى مِن رَنينِ العُودِ واللَّحْنِ الحَنونِ،
نَعيقُ البُومِ في الأجْواءِ حُرًّا
لهو أحلى مِن غِنا الطيرِ السّجينِ
وَوُرودُ الرَّوْضِ، فَوْقَ الغُصُنِ، ( طبيعة)
أبهى مِن وُرودٍ داخلَ الزِّقّ الثمينِ!
لا تقولوا: ذاكَ مَجنونٌ، وتمضوا…
ليتَكم تَدرونَ بَعْضًا مِن جُنوني!
فاعذروني في هَوى قلبي،
لأنّي أعْشَقُ الأحْجارَ في البَرِّ الأمينِ
أعشقُ الأمْطارَ والأنْسامَ
حتّى أعْشَقُ الوَمَضاتِ في صَفوِ العُيونِ ..
فهذا النصُّ الذي ساقَهُ شاعرُنا للعامةِ بأسلوبِه الغنائي والمضمونِ بدونِ أدنى شك، ليس مضموناً وجدانياً ولا عاطفياً بقدرِ ما هو تقريري وواقعي ينُمُّ عن إحساسِ الشاعرِ تجاهَ ما يحملُه من حُبٍّ لوطنِه، وقد لامستْ كلماتُه التي تنتمي لحقلِ الحُبِّ والعاطفَةِ الروحَ كقولِه: /الروح/ يلامس الروح والوجدان/ سواءٌ من حيث المفرداتِ التي تنتمي فيه لحقلِ الحبِّ والعاطفة كقوله: أعْشَقُ الأحْجارَ في البَرِّ الأمينِ\ أعشقُ الأمْطارَ والأنْسامَ\ أعْشَقُ الوَمَضاتِ في صَفوِ العُيونِ\ هَوى قلبي\ وَحُبُّ الخَلقِ\ ضَحْكَةُ الأطفالِ\ واللَّحْنِ الحَنونِ\ فاترُكوني، في غَرامي مُستَهيمًا\ وتعالَوا نزرعُ البَحْرَ سَلامًا\ نفرشُ الأرضَ بزَهرِ الياسَمين.
فهذه الجملُ والكلماتُ كلُّها مفرداتٌ تُلامسُ الروحَ والوجدانَ وكأننا نقرأُ قصيدةَ عشقٍ. ووظفَ الشاعرُ أسلوبَهُ الإنشائي ليتناسبَ مع الفضاءِ العاطفي كما وظفَ فيه التناصَ الدينيَّ والتُّراثيَّ والرمزَ والتوازي، وكلُّها مظاهرُ أسلوبيةٌ تنأى بالنصِّ عن التقريريةِ الجامدةِ وتنحى به نحو النصوصِ الوجدانيةِ العاطفيةِ التي تلامسُ الروحَ والوجدانَ معا. لذلك فشعريةُ النصِّ لا تكمُنُ في الموضوعِ الذي يتضمنُهُ أو العنوان، وإنما عندما يكتبُ ينفذُ إلى القوانينِ التوليدية الكامنةِ في صُلبِ النظامِ اللغوي، وهي التي تسمحُ له بالإنشاءِ ويقومُ بالوقتِ نفسِهِ بتحويلِ اللغةِ إلى سديمٍ يعيدُ تشكيلَه وفقَ ما تسمحُ به تلك القوانينُ التوليديةُ من ذرى تعبيرية، حيث يصبحُ الشاعرُ تبعاً لما تقدم صانعَ كلام، فهو فضلاً عن كونِهِ يفتحُ ذهنَ المتلقي إلى رُؤى جديدة، يقومُ بخلقِ طرائقَ في التعبيرِ يرفدُ بها النظامَ اللغوي:
فاترُكوني، في غَرامي مُستَهيمًا،
وكِلوني لسلامي وشُجوني،
وإذا شِئْتُم هَلمّوا رافِقوني،
بسَلامٍ خاطِبوني وسَلامًا بادِلوني،
واركَبوا بحريْ ونَوئي وسَفيني،
واحمِلوا حُبّي وهَمّي وشُجوني،
وتعالَوا نزرعُ البَحْرَ سَلامًا،
نفرشُ الأرضَ بزَهرِ الياسَمين
وتنوعَ المعجمُ الشعريُّ للشاعرِ جورج فرح في القصيدةِ الواحدة، وبرزتْ عندَهُ خصائصُ المستوى الصوتي والتي تمثلُ معيارَ وخصائصَ الشعر. لذلك يمكنُ القولُ أنّ الشعرَ يقومُ باستفزازِ المعاني الدفينة في الألفاظِ وإظهارِها، فضلاً عن دورِ الكلمةِ نفسِها، ومن خلالِ كلِّ ذلك يصبحُ المعجمُ الشعري في بناءِ القصيدةِ أكثرَ جدوى وأعمقَ أثراً، لأنّ الكلماتِ تصبحُ صوراً من صورِ التجربةِ نفسِها، وطاقةً تعبيريةً كبيرة، والمفرداتُ تصيرُ إشاراتٍ غنيةِ بالدلالاتِ العميقة الموحيةِ من خلالِ الفنياتِ التي يتوسّلُ بها الشاعرُ إثارةَ المُتلقي وشدَّ انتباهِهِ، فالشاعرُ “ينقلُ الكلماتِ ذاتِ الإيماءِ الفني”.
وما ميزَ لغةَ الشاعرِ فرح ومعجمَهُ الشعري في قصائده “إضافة للموسيقى”، هذا المحتوى اللغويُّ الهادف والذي أخذَ منحىً واضحاً في الدالِّ والمدلول من خلالِ ما جاءَ عند شاعرِنِا في تنوُّعِ الأساليبِ، وما تنطوي عليه من دلالاتٍ وإيماءاتٍ وخروجاتٍ وانزياحٍ عن المألوف.
ومثلُ هذه الخروجاتِ للألفاظِ تُكسِبُها دلالاتٍ جديدةٍ تنتمي من خلالِها الى حقولٍ أخرى تُسمى بالحقولِ الدلالية، وتمثلُ المعجمَ الشعريَّ الخاصَّ بالشاعر، والذي يخلقُ لغتَهُ الخاصةَ والمميِّزَةِ لأسلوبهِ الشعري، فيبقى السياقُ الشعري هو المسؤولُ عن مَنحِ الهُويةِ الشعريةِ الجديدةِ للألفاظِ، كقوله:
أيظلُّ كأسُ الحبِّ يا أمّأهُ يروي شاربَه؟
أيظلُّ يدفقُ بالحنانِ، وإن عدِمنا ساكبَه؟
أيظلُّ يسقينا فيروينا وأنتِ الغائبة؟
ما أصْعَبهْ! هذا الوَداعُ المرُّ
أيْ! ما أصْعبَهْ!
لن أقرَبَهْ، لن أطلُبـَهْ،
بل جئتُ أطلبُ زادَ حُبٍّ
زادَ قلبٍ\ زادَ دَربٍ مِن حنانِكِ يُشبِعُ
ثالثاً: الحقول الدلالية
إنَّ الحقلَ الدلاليَّ عبارةٌ عن قطاعٍ كاملٍ يُعبِّرُ عن مجـالِ الخبـرةِ اللغوية، خاصةً أنه يتكونُ من قطاعٍ لغوي متكاملٍ ومترابطٍ يعكسُ التصورَ اللغوي، كعلاقةِ الجزء بالكل، والسببِ بالمُسبب، والـضدِّ بالضد، وغيرِ ذلك من العلاقات. علمًا أنَّ الخروجاتِ عن المعاني المعجميةِ للألفاظِ تُكسِبُها دلالاتٍ جديدة تنتمي من خلالِها إلى حقولٍ أخرى تمثلُ المعجمَ الشعري. وعليه استعرضُ أبرزَ الحقولِ الدلاليةِ التي ينطوي عليها معجمُ الشاعر جورج فرح: حقل الوطن…
عبَر الشاعرُ عن هذا الحقلِ من خلالِ موطنه الدنيا\ ووطنه الأمّ الأرض\ وضحكة الأطفال واللحن الحنون\ وورود الروض\ والأحجار في البر والأنسام ومن خلال الغزل\…الخ. يقولُ شاعرُنا:
مَوطني الدُّنيا وَحُبُّ الخَلقِ ديني،
وَسَلامُ الأرضِ إيماني، يقيني..
ضَحْكَةُ الأطفالِ،
في عُرفيَ،
أشجى مِن رَنينِ العُودِ واللَّحْنِ الحَنونِ،
ونَعيقُ البُومِ في الأجْواءِ حُرًّا
لهو أحلى مِن غِنا الطيرِ السّجينِ
وَوُرودُ الرَّوْضِ، فَوْقَ الغُصُنِ،
أبهى مِن وُرودٍ داخلَ الزِّقّ الثمينِ!
لا تقولوا: ذاكَ مَجنونٌ، وتمضوا…
ليتَكم تَدرونَ بَعْضًا مِن جُنوني!
فاعذروني في هَوى قلبي،
فجاء النصُّ مليئاً بالصورِ الحسيةِ والتي تعكسُ تعاطفَ الشاعرِ مع موطنِهِ وحُرقتِهِ عليه، وتفاؤلِهِ وحبِّه لهُ فهو يقول:
فاترُكوني، في غَرامي مُستَهيمًا،
وكِلوني لسلامي وشُجوني،
وإذا شِئْتُم هَلمّوا رافِقوني،
بسَلامٍ خاطِبوني وسَلامًا بادِلوني،
واركَبوا بحريْ ونَوئي وسَفيني،
واحمِلوا حُبّي وهَمّي وشُجوني،
وتعالَوا نزرعُ البَحْرَ سَلامًا،
نفرشُ الأرضَ بزَهرِ الياسَمين
ويتسعُ هذا الحقلُ الدلالي عند الشاعرِ فرح من خلالِ عشقِهِ للأحجارِ والأمطارِ والأنسامِ والومضاتِ في صفوِ العيون فيقول:
لا تقولوا: ذاكَ مَجنونٌ، وتمضوا…
ليتَكم تَدرونَ بَعْضًا مِن جُنوني!
فاعذروني في هَوى قلبي،
لأنّي أعْشَقُ الأحْجارَ في البَرِّ الأمينِ
أعشقُ الأمْطارَ والأنْسامَ
حتّى أعْشَقُ الوَمَضاتِ في صَفوِ العُيونِ …
حقل الطبيعة والكون…
تأثرَ شاعرُنا ببلادهِ فلسطينَ حيث الطبيعةُ الخلابة، خاصةً أنه نشأ وفي خيالِهِ هذا الجمال، فقام الشاعرُ فرح بتوظيفِ عناصرِ الطبيعة في شعرهِ توظيفاً دلالياً عكسَ فيها الحالاتِ الشعورية والنفسية والأحداثِ والأماكن، فحفلَ معجمُهُ الشعري بالألفاظِ الدالةِ على العناصرِ الكونيةِ والطبيعةِ وتوظيفِها توظيفاً واقعياً ومجازياً لتفريغِ الشُّحناتِ العاطفيةِ التي تضطربُ بها روحُه، ووجد في عناصرِ الكونِ والطبيعةِ أفقاً أوسعَ لانفعالاتِهِ وتخيُّلاتِه، واختار منها لتشكيلِ صُورِهِ الشعريةِ الغنيةِ بالدلالاتِ والإيحاءات، ومن تلك المفردات: البر\ الأمطار\ الأحجار\ الأرض\ الزهر\ الياسمين\ الغصن\ الورود\الطير\الفجر\ الصبح\ الليل\ الشوك\ الشجر \ البحر\ الماء\ المُروجِ\ الخُضْرِ\ الجبال\ الفصول\ الصخر\ الأطيارُ \أعشاشها\ النجوم\ …الخ.
حقل اللون …
تعمَدَّ الشاعرُ جورج فرح إلى توظيفِ الألوانِ والتي تدلُّ على معانٍ دلالية ومجازية، لتكتسبَ دلالاتٍ يقصدُ من ورائِها إيصالَ فكرة أو معنىً عميقٍ يتأتّى من خلال مفرداتِ الألوانِ أو الألفاظِ التي تحملُ دلالاتٍ لونيةٍ كالضوءِ والدمِ والنهارِ والسطوعِ والثلجِ والظلامِ وغيرها، لتكونَ الصورةُ أكثرَ عمقاً وتعبيراً، وبمجردِ أنْ يَرِدَ اللونُ في الجملة يتوقعُ المتلقي ما لهذا اللونِ من دلالة، كالأحمرِ دلالةً على عاطفةِ الحبِّ الملتهبة والدمّ، والأسودِ على التشاؤمِ أو الموتِ أو الحزن، والأخضرِ على النموِّ والعطاءِ والأمل وهكذا. لذلك يوظفُ الشعراءُ الألوانَ بدلالاتٍ مختلفةٍ تثري النصوصَ وتكثفُ من الدلالاتِ فيها وتعكسُ نفسيةَ الشاعرِ في مواقفَ اجتماعيةٍ وعاطفيةٍ وإنسانية كثيرة.
لذلك نجدُ أنّ الألوانَ ودلالاتِها عند الشاعرَ فرح قد تناولَتْ أغراضاً عدة، فيها فضاءاتٍ عميقةٍ ورحبةٍ للسفرِ في سيمياءِ النص، إضافة لألفاظ أخرى تحيل المتلقي من ناحيةٍ نفسيةٍ إلى حقلِ اللون. ومن الألفاظ التي تحملُ دلالاتِ اللونِ الأزرق في نصوصِهِ قولُه : النجوم الزرق\ وتعالَوا نزرعُ البَحْرَ سَلامًا، وتوظيف اللون هنا جاء مجازيا على سبيل الاستعارة.
والأبيض: / نفرشُ الأرضَ بزَهرِ الياسَمين/ واللون كان هنا مجازياً على سبيل الاستعارة.
والأسود: / للعُيونِ السّودِ في بَلَدي حِكاياتٌ جميلةْ،/ للجِباهِ السُّمرِ في بَلَدي رواياتٌ أصيلَةْ، وتوظيف اللون هنا جاء مجازياً أيضاً على سبيل الاستعارة.
والأخضر:\ للمُروجِ الخُضْرِ في بلدي نُجَيماتٌ دَليلةْ\ وأنا… مجنونُ زَيتوني وكَرْمي، رَسَّخَ الزَّيتُونُ فيها
الأحمر :\ وأنا…مِن خَيرِ كَرمي كُلُّ خَمْري\ وأنا خَمري دَمي آبى بَديلَه!
إنّ النصَّ الأدبي عموماً والشعري على وجهِ الخصوص، يرتكزُ في الأساسِ على مقوماتٍ منها اللفظُ بدلالتِهِ العامةِ والخاصة، والإيقاعُ الموسيقي، والأسلوبُ الفني، والصورةُ الشعرية، ومن هذه المقوماتِ اللون، ذلك “أنّ دفءَ اللونِ كدفءِ الإيقاع، كدفءِ المعنى، كلُّها تخلقُ في العمل الفني طاقةً خاصة، وتؤسسُ لصورةٍ جديدة، ذاتِ مدلولاتٍ متغيرة.
حقل المرأة…
لا نكاد نجدُ شاعرًا خلتْ قصائدُهُ أو بعضُها من ذِكرِ المرأة، ولم يختلفْ شعراءُنا عن أسلافِهم في نظرتِهم إلى المرأة وعلاقتِهِم بها، إلّا أنَّ الشعراءَ المعاصرين طوروا من الدلالةِ الرمزيةِ للمرأة، واتّسعت المعاني الدلاليةُ لهذة المُفردةِ لتضيفَ للمرأةِ بُعداً رمزياً مُكثّفًا في التصويرِ والحضورِ في القصيدةِ في كثيرٍ من الأحيانِ لأغراضٍ سياسيةٍ أو اجتماعيةٍ ذاتِ علاقةٍ بواقعِ الشاعرِ ومحيطِهِ وتماهياتِ اللحظةِ الشعريةِ عنده.
ولطالما كانت علاقةُ الشاعرِ بالمرأةِ مبنيةً على الحبِّ وأملِ اللقاء ولوعةِ الفراق، ولكنْ قد تتداخل الحقولُ والعلاقاتُ الدلاليةُ وتتاشبك لمدلولاتِ المرأةِ ورمزياتِها في النصّ الواحد، فقد نجدُ هذه المعاني والرمزياتِ حاضرةً في حقلِ المرأةِ وحقلِ الحبِّ وحقلِ الحزنِ… الخ ، ونجدُ شاعرَنا قد عبّرَ عن ذلك بألفاظٍ لها علاقةٌ مباشرةٌ وغيرُ مباشرةٍ بالمرأةِ المحبوبةِ والزوجةِ والأمِّ والصديقةِ… الخ، كقوله:\ فاترُكوني، في غَرامي مُستَهيمًا\ لحبيبتي في الحبِّ شَرطٌ أوَّلُ\ بسِحرِها أتغزّلُ\ لحبيبتي واللّيلِ أسرارٌ\ والعِطْرُ عِندَ حبيبتي لا يُمْهِلُ\ يا أمّاهُ\ أراكِ\ فارقتِنا\ وتركتِنا\ أتَوا إليكِ\ زادَ دَربٍ مِن حنانِكِ يُشبِعُ\ أيظَلُّ كأسُ الحبِّ يا أماهُ\ وتركتِنا مِن أمرِنا في حَيرَةٍ\… الخ.
الخاتمة
هدفت الدراسة الموسومة بـِ ” الأسلوب واللغة والصورة الشعرية عند الشاعر جورج جريس فرح” إلى استكشاف الأبعاد الجمالية والفنية المتعددة التي تجلّتْ في خصائص اللغة والأسلوب في شعر فرح، كما بينت تأثير هذه العناصر على الأبعاد العاطفية والفكرية والفنية لأعماله. وخلصت الدراسة للاستنتاجات التالية:
- تنوع العناصر الجمالية والفنية داخل القصائد المختارة للشاعر فرح .
- تميزت النصوص بالثراء اللغوي والتميز الأسلوبي، ولا سيما فيما يتعلق باستخدامه الابتكاري للأساليب الأسلوبية عبر مستويات متعددة من نصوصه.
- الترابط بين الاختيارات اللغوية والأسلوبية والمحتوى الدلالي للقصائد، والتي أسهمت في التعبير الفني الشامل.
- تكامل العناصر الموسيقية الخارجية والداخلية في شعر جورج فرح وتفاعلها مع العناصر اللغوية والأسلوبية مما عزّزَ التأثير العاطفي والإيقاعي للقصائد.
- اشتمالها على عددٍ من الحقول الدلالية الهامة ومنها حقل الحب والمراة والوطن واللون.
- استخدام مجموعة متنوعة من الأساليب اللغوية والفنية مثل التكرار والجناس والألفاظ الاهتزازية والتوازن والجناس والتقديم والتأخير لتعزيز التأثيره الشعري، والإسهام في تحقيق تأثير بصري وإيقاعي فريد، مما يعزز من قوة النص وإيصاله للقارئ بشكل أكثر إلهامًا وجاذبية.
عميم شكريي وتقديري للناقدة إيمان مصاروة لتناولها إنتاجي الأدبي، وللقائمين على موقع الغرفة 19 لتكرمهم بنشر الدراسة.
لكم تحياتي ومحبتي
جورج. جريس فرح
تحيات لك