الأنثى والألم الروحي في عالم الجن الأزرق: قراءة نقدية في رواية اختلاط الأنساب للدكتورة جمان الريحاني*
أ.د. أناهيد الركابي
الجامعة المستنصرية
وجع الأنثى في روايات السحر وعالم الجن الأزرق يُعتبر موضوعًا متنوعًا ومعقدًا، إذ يمزج بين الخيال الشعبي والأساطير الشعبية، بالإضافة إلى التحديات النفسية والروحية التي قد تواجهها الشخصيات الأنثوية في هذا السياق.في روايات السحر وعالم الجن الأزرق، يُتصوَّر الجن والأرواح كقوى غير مرئية، وفي بعض الأحيان تتمكن هذه الكائنات من التأثير على حياة الإنسان، خاصة النساء، بطرق تؤدي إلى معاناتهن الجسدية والنفسية. قد يظهر “وجع الأنثى”
في هذه الروايات على شكل معاناة مَرَضية أو مواقف صادمة قد تكون نتيجة للتأثيرات السحرية أو الجنّية. قد تكون هذه الآلام جزءًا من مغامرة الشخصيات في محاولتها للتغلب على التحديات أو من أجل الوصول إلى الخلاص. يُمكن أن يكون “وجع الأنثى” في هذا السياق رمزية عن الألم النفسي والروحي الناجم عن الطقوس أو التعاويذ أو العوامل الميتافيزيقية.
تُعمّق الكاتبة في رواية اختلاط الأنساب – الدم المختلط – للدكتورة جمان فكرة السحر والشعوذة وعالم الجن الأزرق في فصول الرواية هذه مستشعرة أهمية هذا العالم في حياة الناس السُذج فهو سلطة في يد ممارسيه وملاذ لتحقيق رغبات أصحابه ومريديه، بطقوس وتعاويذ من أجل تحقيق منافع لأصحابه وإلحاق الأذى بشخص بعينه. يقوم بهذه الطقوس شيخ مبروك كما يسمونه يتمتع بصفات معينة تجعله يتميز عن غيره، مثل الذكاء والكثافة والحياة والدهاء والمكر والإقناع بغية التأثير والسيطرة على عقول الناس الضعيفة، من خلال النصب والاحتيال والكذب وممارسة الأعمال النجسة والحرام وامتهان الزنا وهذا ما عالجته الكاتبة في فصول هذه الرواية التي تصفح قراءتها عن كاتبة متميزة .
نبدأ أولأ بقراءة عتبة الرواية وهو العنوان سيميائيا إذ تعالج الرواية قضية اختلاط الأنساب ومآخذها الإجتماعية ومردوداتها السلبية على المجتمع، نتيجة لجهل المرأة وطيش الرجل الذي يستغل هذا الجهل مسوغاً لنفسه ولنزواته الشيطانية الانحراف بغلاف من الكذب والخرافات، والسحر والشعوذة، مستغلاً جهل النساء
عن الإيمان بالقضاء والقدر، وسيرهن وراء النفس الأمارة بالسوء من مكر ، وغيرة، وطيش، ومكايدة، وعدم التسليم لقضاء الله خيره وشره .
إن المرأة وجهلها، وصغر عقلها، وشعورها بأمتلاك زوجها وتقييده قادها إلى خسارة فادحة خسرتها في الدنيا والآخرة، فرغبتها في امتلاك الآخر (الزوج )، والسيطرة عليه بالسحر، ومطاوعة الساحر في انحرافاته الأخلاقية معها، أوقعها بخسارة أناها الضائعة في مجتمع ذكوري لايرحم المرأة، بل يغفر للرجل فسوقه وأنحرافه .
يبرز موضوع سيمياء العنوان النصي أو العتبة النصية لعنوان الرواية (اختلاط الانساب – الدم المختلط -)، وما يحمله من بعد دلالي مكثف، في توظيف إشاري رمزي تأويلي لمضمون النص وما يتضمنه من تسليط الضوء على المرأة وخوالجها المتنازعة، وقرفها من خطيئتها، ويتمثل التقابل الدلالي بين العنونة والمحتوى من خلال القراءة النصية التأويلية للعتبة، وتفكيك منظوماتها الفكرية السيميائية في سعة فكرية ضمن الفضاء التشكيلي لأحداث الرواية وأبعادها .
وتتجلى لنا الأبعاد والدلالات السيميائية المتعددة من خلال استقرائنا لعنوان العتبة النصية للرواية، (اختلاط الأنساب – الدم المختلط – ) يشكل دالاً فاعلاً تنطلق منه الدوال والرؤى النصية السيميائية التصويرية في الرواية لأن العتبة بتركيبها اللفظي دالا سيميائياً، يؤدي الى مدلولات موضوعية مكثفة ومنسجمة مع المضمون النصي ومافيه من توضيح لصورة الأنثى ومشاعرها المضطربة المختلطة التي آلت بها الى اختلاط الأنساب.، تقول الكاتبة جمان في أحد فصول الرواية ( كبُرت حسنا خلال هذه التسعة أشهر حوالي التسعين عاما، فقد أصبحت تظهر على ملامحها الحزن والأسى والكبر والعجز … حاولت السيدة حسنا كثيرا أن تجهض هذا الحمل، هذا الجنين الذي تسميه حسنا ابن الحرام، ولكنها لم توفق في ذلك أبدا، بل قد أزَّمت حالتها، وأصبحت طريحة الفراش، والعجوز اليوم هي التي تعتني بها ، فهي تعرف كل ما جرى معها .كان مخاض حسنا مخاضا صعبا، وحالتها النفسية سيئة جدا، فهي أحيانا تضرب نفسها، وأحيانا أخرى تلطم وجهها، وتضرب بطنها أحيانا أخرى، والعجوز بختة تحاول تهدئتها، أما حسنا فهي تئن وتقول حسنا: يا رب أموت، أنا وابن الحرام هذا ..يا رب ما أشوفه …. يا رب لماذا.. ؟ أنا ما فعلت في حياتي ..الله يلعن ابن الحرام الذي عمل فيا هكذا ..الله يلعن ابن الحرام حمدي لكحل الكلب، ويلعن هذه البذرة، بذرة الحرام، الله يلعنه إلى آخر نسله ..بعد ساعات طويلة ومريرة من الألم والوجع ولحظات صعبة وقاسية تكاد تكون سنوات وكأنها أزمة بلا……كأنها تحولت إلى سيدة كبيرة في السن لم ترى في حياتها الا المعاناة والألم، صوت أنينها كأنه يخرج من بئر عميق، وكأن حجرا ضخما يطبق على أنفاس هذه السيدة المسكينة، بعد هذه الحالة التي كانت فيها حسنا وبعد هذه التجربة التي كانت تخوضها، جاء هذا الطفل إلى الحياة، والعجوز بختة هي من قامت بتوليد حسنا ، مع أنها ضريرة، ثم قالت لها : ولد يا حسنا، انه ولد… هاكي خذي ابنك..لفّت الطفل بقطعة قماش، وقرّبته من حسنا .حسنا: (وهي تكاد تموت ، وجهها أصفر وعيناها ذابلتان، يبدو عليها التعب الشديد والاجهاد، وتعلو ملامح وجهها البؤس والحسرة والحزن العميق )الله يلعن ابن الحرام…. ارميه في الزبالة… (والطفل الوليد يبكي )…..توفيت حسنا تاركة وراءها طفلا صغير، وعجوزا ضريرة .توفيت حسنا تاركة هذا العالم بكل ظلمه وآثامه .توفيت حسنا وتحررت من العالم الجائر المجحف، المفتري .توفيت حسنا بإرادتها)”1“رسمت لنا الكاتبة ملامح (حسنا ) , وماآلت اليه من كبر بسبب الندم على الخطيئة، وكانت تلك الخوالج تترجم على لسانها في منالوج داخلي بشتمها ولعنها لجنينها وأبيه، وصورة هذه المرأة تجسد الضعف والهوان حتى أنينها كأنه يخرج من بئر عميق وكأن حجراً يطبق على أنفاسها لأنها لاتستطيع البوح بهذه الفضيحة والدم المختلط، حتى أنها لم تفرح كونه ذكراً بل أرادت رميه في الزبالة ثم انتحرت، لأنها لاتستطع مواجهة هذا الواقع المتدني .تتشكل الرؤية السيميائية في هذه العتبة النصية من خلال العنوان الذي يتضمن دوالا وتيمات لفظية مختلفة تحيل إلى مدلولات متعددة، فثيمة(الأختلاط ) الماثلة في قولها (الانساب المختلطة والدم المختلط )تشكل دالاً يحيل إلى تلك الخطيئة التي حطمت حياتها والتي قادتها إلى الاختلاط النسبي والدمي، فكانت اللفظة تيمة سيميائية دالة بتراكمات دلالية مختلفة منبثقة من المعنى المعجمي للفظة المختلط والتي تفضي إلى التعدد، أو المزج، والذي هو نتيجة المركبات النفسية المختلطة الكائنة في شخصية حسنا .
وتتضح هذه الصورة السيميائية أو الدلالة الرابطة بين العنوان والمحتوى أيضا من خلال استقرائنا للقصة الثانية بقولها ( تقوم عزيزة بجذب السيدة جليلة إلى بيت الشيخ وذلك، بالكذب والحيل وبخطة محكمة يخطط لها الشيخ محمود الزرقاوي، فقد علمت بان الشيخ يحب المال والنساء، فطلبت منه ان يعيدها إلى زوجها وحياتها السابقة لتتخلص من البؤس الذي تعيشه في بيت اخيها ولتتخلص من المعاملة السيئة التي تعاملها بها زوجة اخيها .فلم يرحمها أحد ولم يساعدها في محنتها ومشاكلها أحد، كما ان سلفتها جليلة كانت تتشمت فيها كلما تخاصمت مع زوجها ولا تساعدها بشيء .بل انها تعتبر انها سبب كل مشاكلها فهي تحسدها وتنقم عليها، لانها اصغر منها واجمل منها وزوجها اكثر وسامة من السيد حسين، وهي وزوجها كانا في بدايةحياتهما وقادرين على الانجاب وهذا ما تظن ان سبب غيرة جليلة منها .لذا ارادت عزيزة من الشيخ محمود الزرقاوي ان ينتقم لها من جليلة وذلك بان يخرّب لهاحياتهاويخرب بيتها، ويصنع المشاكل بينها وزوجها وبناتها، وهي تهتم به في الوقت الذي يطلبها يجدها، كما انها وعدته بمبلغ جيد من المهر الذي سيقدّم لها في زواجها هذا .كان الشيخ محمود الزرقاوي يوافق على هذه الأمور ويتفق عليها فقط مع زبنائه الدائمين والاوفياء له والامناء على الاسرار.)”2” محور هذه القصة يتمثل بشخصيات متعددة من النساء اللواتي يظهرن بخوالج المكر والحيلة، فالسيدة عزيزة أنطلقت من خلال شخصية المرأة الحاقدة، المركبة من مركبات نفسية متعددة خلفتها ظروفها التي عاشتها، فدفعتها نزعة الانتقام من سلفتها جليلة إلى أن تعرفها على الشيخ الماكر الذي هو مولع بالنساء والأموال، وتنتقم منها وتخرب لها حياتها كرد فعل من عزيزة لأفعال جليلة التي كانت السبب في وقوع المشاكل بينها وبين زوجها، لأنها كانت تغار منها لأنها أصغر منها وزوجها أجمل، وانهما يستطيعان الإنجاب لصغر سنهما، مما أضطر عزيزة إلى الذهاب إلى طريق الشعوذة والسحر والانجراف بالخطيئة مع الساحر، كي تعود لزوجها وتتخلص من معاملة زوجة أخيها لها، لم يساعدها في محنتها سوى ذلك الماكر المنحرف، فوسط تلك المشاعر المختلطة، والمركبات النفسية الممتزجة، قررت عزيزة الانحراف مع هذا الشيخ وارتكاب الخطيئة معه، وتوريط جليلة انتقاما منها وجعلها تسير في الطريق نفسه، لأنها كانت هي البداية لتلك المشاعر المضطربة المختلطة حقداً، وغيرة، وحسداً، فطلبت عزيزة من الشيخ أن يدمر حياة جليلة ويجعلها تعيش المرارة نفسها التي أذاقتها لها، وبذلك أنتجت الشخصيات المركبة العدوانية التي هي خليط من مشاعر سلبية شتى من حسد، وبغض، وحقد، وغيرة، الاختلاط النسبي، والدماء المختلطة، وهذا ما أفضى إلى العنوان في عتبته في إشارة سيميائية دالة .فتلك الدلالة التصويرية تشكل بحلقاتها الممتدة المكثفة أيقونات استنطاقية تكمل بعضها وأدى الاسترجاع الزمني، من خلال الدوال الشخصية الأنثوية المتقابلة والمتوازنة في تشكلات وصفية متجانسة، شكلت سياقاً دلالياً ناطقاً ورمزاً دالاً من المشترك (امرأة ) الذي يجسد حواء المعادلة لشخصية المرأة، برؤية تشبيهية موازنة، والتي اسهمت في انتاج المدلول وهو الخلط النسبي الدموي.
تمتلك الكاتبة قدرة فاعلة في الانتاج الدلالي السيميائي المتراكم فتولد من الدال السيميائي (الاختلاط ) دلالات سيميائيةمختلفة ومن تلك العلاقات الدلالية التقابلية بابعادها وتشكلاتها السيميائية، تنطلق الايقونة او تتولد الأيقونة بتشكلها الدلالي .تتسم رواية جمان بالواقعية وهي بذلك تنتمي إلى التيار الواقعي في الأدب، وهي كاتبة إجتماعية مبدعة بامتياز لأنها سلطت الضوء على القضايا التي مازالت مستشرية في المجتمعات العربية مثل السحر والشعوذة وعالم الجن الأزرق من خلال الاستخفاف بعقول الناس السُذج من المشعوذين والفتاحين والشيوخ المبروكين الذين يمتهنون الزنا ومضاجعة النساء فاختلطت الأنساب بسبب حمل عدة نساء دون أن يجرؤنّ على البوح بما فعله هذا الشيخ المبروك بهن من امتهان الزنا وبطريقة غير مشروعة تخالف العرف والدين من فتكٍ بالأعراض وسرقة أموال.
*الدكتورة جمان الريحاني مؤلفة، شاعرة ورسامة جزائرية حاصلة على دكتوراه فخرية من جامعة أمريكية متخصصة في السينما وشهادات أخرى في مجالات أخرى ودراسات عليا لديها روايات خيالية، حب ورومانسية، رعب، إجتماعية ومغامرةمجموعات قصصية ودواوين شعرية وكتب نقديةمجموع مؤلفاته 130 كتاب ما بين الرواية والقصص والنقد والشعر والفن التشكيلي والمسرح .
1- رواية اختلاط الأنساب -الدم المختلط- ، د. جمان الريحاني،2023 ، 31-32.
2- المصدر نفسه، 133-134