
د. جعفر الهدي- كاتب بحريني
يقصد بالسرد التتابع المتسلسل في الحديث، أو هو طرح أفكار متتابعة ومترابطة توصل لنتيجة أو عدد من النتائج، ويمكن تعريفه اصطلاحاً بالحديث الجيد المتتابع، فقد جاء في المحيط: السرد، بمعنى “جودة سياق الحديث”، وقد ورد في معجم المعاني: “سَرَدَ الكتابُ أي: قرأه بالتتابع
ويمكن الإشارة إلى السردية كمفهوم ثقافي قديم، ويعني الحكائية أو الروائية أو القصصية، وقد كانت مصطلحات: الحكاية والأسطورة والقصة شائعة في فنون الأدب القديم، لكن مصطلح “السردية” (Narratology) بمداليله وسياقاته الثقافية الحديثة تبلور في مطلع القرن العشرين، وهو بذلك يعدُّ مصطلحاً حديثاً نسبياً، بدأ استخدامه في الوسط الثقافي الفرنسي تحت تأثير النظرية البُنيوية، ويعدّ (تزفيتان تودوروف – ЦветанТодоров ) هو مَنْ نحت هذا المصطلح عام 1959 بعد أن شكله من كلمتي ( (narrative logyأي (سرد وعلم) ليحصل على مصطلح (علم السرد) أو (السردية)
لكن أشهر تعريفات “السرد” كمصطلح حديث هو ما جاء به (رولان بارت – RollanBarth) ، بقوله: “إنه مثل الحياة علم متطور من التاريخ والثقافة”
إن إشكالية ترجمة المصطلح تبقى قائمة حتى يتشكل للمصطلح المُتَرجم حقلاً دلالياً ممتداً وعميقاً في اللغة والثقافة التي انتقل إليها، ذلك أن ترجمة المصطلح ليست ترجمة مباشرة لكلمة من كلمات اللغة، إنما هي تماماً كبناء أو تشكل المصطلح؛ ليأخذ دلالات محددة ناتجة عن استخدامه في مجال ثقافي معين، ويؤكد هذه الإشكالية الكاتب المغربي سعيد يقطين حيث يقول: “إننا لا نوَلِّدُ المصطلحات في اللغة العربية لأننا لا ننتج النظريات التي تتطلب توليدها، ولذلك فمصطلحاتنا تنجم عن «الاجتهاد» في ترجمة ما نجده في اللغة المترجم عنها. تتعدد طرق هذا الاجتهاد بناء على الطريقة التي نفهم بها تلك النظريات، أو المصطلحات المتصلة بها”
السؤال هنا هل جاءت ترجمة ((narrativelogyإلى (علم السرد أو السردية) مناسبة للحقل الدلالي للمصطلح في السياق الفكري العربي؟
وفق النظرية البنيوية وتعريف (رولان بارت) للسردية يمكن القول إن أقرب ترجمة حرفية لكلمة (narrative) هي (الكلام)، حيث إن تعريف علم السرد لا يطابق “علم القصص”، أو “علم الحكاية”، بل هو علم متطور ينتج نصوصاً تستقرأ الفكر والثقافة والحياة
وإذا كنّا نفهم من الترجمة الحرفية إن مصطلح “علم الكلام” يمكن أن يكون أحد المصطلحات القريبة من مصطلح “السردية”، فإننا نجد حقل الدلالة الثقافي لمصطلح “علم الكلام” بعيداً كلّ البعد عن الحقل الثقافي للسردية، فقد عرف علم الكلام بأنه علم البحث في العقائد والإلهيات، وقد بدأ بالظهور في سياق ثقافي حضاري خلال القرن الثاني الهجري حين نشطت حركة الترجمة في عهد الخليفة المأمون العباسي، وترجمت عدد من كتب الفلاسفة والمناطقة من الحضارة اليونانية، وعندها بدأت طبقة من العلماء المسلمين بالرد على ما تطرحه تلك الكتب من نظريات في مجالات تخص الفكر الإسلامي مثل وجود الله ووحدانيته، وحقيقة القرآن، وبدأت الكثير من الإشكاليات تتبلور على الساحة الثقافية إذا جاز التعبير، مثل: القول بخلق القرآن
لكننا نستعرض بعض المصطلحات العربية القريبة من مضمون مصطلح “السرد”، وهي تدور بنفس الحقل الدلالي للمضمون، مثل: “حَكَىَ” بمعنى قال كلاماً أو موضوعاً أو خبراً، ويقال حَكَى زميله في أراءه أي قال مثلها، ومصطلح “قصَّ”: أي قصّ قصة أي حكاها للناس، وعادة ما تبدأ القصص العربية سابقاً بالقول “قال الراوي”، ومصطلح “رَوَىَ”: بمعنى قال رواية أو قصة، أو روى حديثاً أو روى خبراً، أو روى الشعر، ولكن مصطلح “رَوَىَ” استخدم في سياق دلالي خاص وهو رواية الحديث النبوي الشريف، ويستخدم المصطلح نفسه للتعبير عن المتحدث في الرواية والقصة العربيةفي العصر الحديث للتمييز بينه وبين المؤلف “كاتب النص”، ولا تزال المصطلحات المترجمة لكلمة “الراوي” و “السارد” تحمل الكثير من الإرباك، فقد فصلت نظرية السرد مؤلف النص عن المتحدث أو المتحدثين فيه، ولم يظهر مصطلح “الراوي” في السياق النقدي إلا بعد أن نشر (هنري جيمس) مقالته الشهيرة (TheArtofFiction) عام ١٨٨٤، حيث وضع مصطلح زاوية النظر، وقبل جيمس كان يُعتقد أن المؤلف هو الذي يروي القصة او الرواية، ولذلك نجد في الكتابات النقدية في القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر انهم كانوا يطلقون على الروائي او القاص تسمية:الحكاء، storyteller
إذاً نحن أمام انزياح مصطلحي بين الحقل الدلالي لمصطلح “السرد، أو النظرية السردية أو علم السرد”، وبين الحقل الدلالي الثقافي العربي الذي يعدّ القرآن محوره، خاصة إذا تأملنا حجم التحول في المصطلحات اللغوية بعد نزول القرآن الكريم، فهو وإن كان نزل بلغة العرب إلا أنه أحدث تحولات كبيرة في المصطلحات إما بالتعديل أو الإضافة أو التغيير، ولبيان هذه التحولات ستأخذ مثالاً واحداً أساسياً من المصطلحات القرآنية لبيان تأثير الانزياح المصطلحي على مفهوم المصطلح ودلالته، وهذا المصطلح هو: “الإله” أو “الله” جلّ وعلا، فكلمة “الله” وحدها تعتبر أكثر الكلمات تكراراً في القرآن الكريم حيث وردت 2699 مرة في 85 سورة، وقد وضعها القرآن في سياق حقل دلالي جديد، بنية السرد في النص القرآني
يعرف (رولان بارت- Rollan Barth) بنية السرد بأنها: “التعاقب والمنطق، أو التتابع والسببية أو الزمان و المنطق في النص السردي” ، بينما يصفها (غيرماس- Algirdas Julien Greimas) بأنها: “تعبير عن البيانات السردية، أو على وجه الدقة تعبير عن البيانات السيميوسردية Semio narraitevs ، يجب أن يفهم بمعنى البنيات السيمائية العميقة التي تشرف على توليد المعنى، وتحتوي على الأشكال العميقة لتنظيم الخطاب، وتتميز عن البيانات الخطابية Discurttis للبنيات السردية”
إن القرآن استخدام مصطلح “الكلمة” كتعبير عميق عن أساس بنية النص القرآني، وقد تعددت الآيات التي استخدمت مصطلح “الكلمة”، بما تحمل من جلاء للحقيقة، وكشف لأسرار الوجود، قال تعالى: “ولولا كَلمةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ”