دراسة : محمد شويحنة
بداية يمكننا القول إن محمد أبو معتوق قد استطاع في السنوات الأخيرة أن يخط سطراً مهماً في الكتابة السردية العربية ، وعلى نحو متميز في حقل القصة القصيرة ، حيث سيعمد إلى الاستفادة القصوى من أسلوبه اللغوي القائم على التخييل المدهش وإنتاج المفارقات الساخرة وتفجير المفردة اللغوية وصنع الانزياح الدال ، لتنضح العبارة على يديه بالعذوبة واللذع الحريف ، فيبيت هذا اللون من الكتابة القصصية علماً على اسمه ، ويمضي هو في تعميقه بمزيد من القدرة على الإدهاش ، عند أبو معتوق سيتم نسج حالة جديدة يراد لها أن تخرج القصة القصيرة السورية من أزمتها الحكائية بالدرجة الأولى ومن بنيتها اللغوية المسطحة من ناحية ثانية .
يلعب الهاجس اللغوي دوراً فاعلاً في صياغة مجمل التجربة القصصية لدى محمد أبو معتوق ، بحيث يغدو النص السردي مجرد بناء لغوي معني بإنتاج الدلالة الفنية ، فهو من ناحية يتجاوز الاهتمام السائد في القصّ ، والمنصب مباشرة في إنتاج المضمون من خلال حدث محدد وشخصيات واضحة القسمات والمعالم ، وفي منحى آخر ينصرف إلى صياغة مفردات خاصة وتوزيعها على مساحة العمل كما اللوحة التشكيلية أو المعزوفة الموسيقية ، فالعماد في عمله السردي ليس الحدث والشخصيات والحوار ، وإنما اللعبة اللغوية التي يتم عبرها تصدير الدلالات والانطباعات والفكرة الكلية للعمل ، فثمة تفعيل متواصل في عملية السرد والوصف والحوار يتمثل في حقن المفردة اللغوية بالدلالة في إثر الدلالة بما يحرفها عن معناها المعجمي ويدخلها في المعنى الكنائي الكلي الذي يختزل الحدث في مدلول أو يقوده في سياقات غائية تمضي القصة باتجاهها ، في تراكيب من مثل : ” وعندما وقع الفتى على بعض اليقظة ” ، ” ظلت حقيبتان وحيدتان في حالة دوار ” ،” يدخل الحمام ويغلق الباب على طفولته ليحرر نفسه من الحب والمحبين ” ، ” القابلة تصرخ في أمومتها ودهشة ساقيها .. والأم اختطفها دوار مريب ” ، ” والفول كما تعرفون طعام ثقيل وحزين ” ، ” الدمل الكبير المملوء بالأسى ” ، ” كم رئيساً للتحرير يكفي لتحرير الناس من الخوف والوحدة .. ؟ ” ، ” قفز من مكانته ” ، ” الدم الغامض ” .. وهذا التحريف مغلف باستمرار بطابع السخرية وبنبش المخفي من العفن الاجتماعي والتناقض والفساد وانهيار القيم ، بل إن ظاهرة السخرية والتهكم في نصوص محمد أبو معتوق ترتبط بمحاولة اللعب الفني على الكلام ، لتوليد المغزى والمفارقات الدالة ، وهو أسلوب في السخرية مفارق لأسلوب آخر دارج في القصة ، حيث نجد السخرية ناتجة عن سرد فكاهي لحدث مضحك فكه أو طريف .. هذا النهج لا يلجأ إليه أبو معتوق ، بل نجده مهتماً بالدلالات العامة التي يكتنز بها الحدث القصصي ، وأعماله بدأت بهذا التميز المحسوب لها في السخرية منذ روايتي ( شجرة الكلام ) و ( جبل الهتافات الحزين ) بل في جميع أعماله اللاحقة سنجد كيف يوظف العبارة لتنضح بالسخرية الموجعة والدالة عبر صناعة المفارقة المحورية في العمل ، أو مجموعة المفارقات المكونة للعمل القصصي ..
وربما عدت موضوعات الكاتب المختارة في قصصه ورواياته تقليدية بمجملها ، كما تبدو للبعض على الأقل ، وذلك إذا ما مسحنا عنها ستار اللغة أو اللعبة اللغوية ، لكن كيف يمكننا ذلك واللغة في واقعها وكما في القصص التي يقدمها أبو معتوق شكل ومضمون ، إنها ليست وعاءاً فكرياً بل هي الوعاء والفكر بآن معاً ، لأنها بالدرجة الأولى لغة مفارقة ، عمادها الأساسي الاختزال والانزياح ، وتبادل بين معطيات الحواس ، على نحو يصل بالقارئ إلى الصدم والإدهاش ، وبهذا النهج في الكتابة السردية ستقول العبارة ما لا يقوله الشرح والتطويل ، وبالتالي فالكلام مفتوح على القراءة المتعددة المشروطة بثقافة المتلقي أساساً .. في قصة ( الهتاف الطويل ) من مجموعة ( ليلة المغول ) يطالعنا حدث انهيار السور الشمالي من سياج مدرسة أبي عبيدة بن الجراح للبنات .. وهو انهيار يرمز إلى ما ينهار في كل مفاصل المجتمع ، حيث تتكرر اللازمة : ما عاد أحد يحتمل أحداً حتى الأحجار .. و ” البناء سينهار .. البناء سينهار .. ” ص 4 . وتعترض حركة السرد العبارة التالية : ” بعض المشرفين على تنفيذ المبنى نجحوا في تسريب نصف كمية الآمال والإسمنت والحديد المخصصة لبناء المدرسة . ” ص 3 هنا نحن أمام نموذج للفعل اللغوي من خلال مفردة ( الآمال ) فحسب ، إذ يتم الخروج عبرها من المنحى العادي في الإبلاغ إلى منحى آخر يحمل الخطاب القصصي ويقوده في وجهة أخرى ، و على هذا النحو نفهم كيف أن ” صراخ السيدة المديرة الدائم قد أصاب أرواح الطالبات الناهدات بالصمم وهو السبب المباشر لحصول الانهيار كما أكد المهندس المسؤول .. ” ص 4
من ناحية أخرى سنلاحظ أن الكاتب في نصوصه السردية عموماً سيأخذ من الشعر كنهه وروحه لا لغته ، وفي حقيقة الأمر لا يمكن أن توصف لغة أبو معتوق بأنها شعرية ، لكن الحالة والانطباع الذي يتخلف في المتلقي يحيل بقوة إلى الشعر واندياحاته وكلياته .
كيف تجري آلية العمل اللغوي في قصص محمد أبو معتوق ؟
القصص بأسلوبها اللغوي تصور حالة افتراضية تحيل بالضرورة إلى وجهة نظر ، هذه الحالة المصورة هي في الغالب ملتبسة ، تزيدها اللغة غموضاً ، لكن تمدها بالآن نفسه بنكهة متميزة في السرد ، ترتفع إلى مرتبة النظر في الكليات .. وإنتاجها على هذا النحو اللغوي يقدم صيغة من صيغ المعالجة ، ومطالعة هذه الصيغة تشكل فعالية معرفية ووجدانية تقدمها قصص محمد أبو معتوق ، وبالتالي فإن الأمر في التلقي متروك لذوق القارئ وحساسيته الثقافية واللغوية بالدرجة الأولى ، أما بالنسبة للحكم المعياري على التجربة فيمكن أن يقف على تفاصيل التعامل اللغوي ، وحجم التعاطي ، ومدى قدرته على الحمل الموضوعي ، بل مدى تعبير اللغة عن علاقتها بالأشياء والأشخاص ، فهل يشكل الحامل اللغوي قدرة على النهوض بأعباء الموضوع والمغزى ومستوى الشخصية الثقافي ؟ ..
ضمن هذه الآلية للعمل اللغوي ثمة بطء في نمو الحدث القصصي ، لأن الكاتب منشغل أصلاً باللغة وتوليد الدلالات ، وعلى هذا النحو فمفهوم الحبكة القصصية لديه مغاير ومختلف ، ومفهوم الحدث مغاير ومختلف أيضاً ، حتى البيئة نراها تتلون بالتوجيه الذي يصنعه الكاتب ، والشخصيات تنساق جميعاً إلى الولوج في اللعبة اللغوية دونما عناية بفكرة أن طبيعتها الثقافية والاجتماعية تناسب هذا الولوج أو لا تناسب .. في اللغة يتهم أبو معتوق بأنه يستدرج أبطاله إلى سياقات لغوية لا تخصهم وأنه يستدرج القارئ بالقدر ذاته .. ويجيب : ” إن هذا الاستدراج هو خيار يحاول أن يراود الواقع الصلب ، الواقع الذي يفتقر للمخيلة في محاولة لتطويعه وتليين حوافه عبر اللغة التي تخصني والسياقات التي تخص هذه اللغة . لقد أنهكتنا المذاهب الواقعية من طبيعية وتسجيلية وبطيخية عبر إلحاحها على منطوق الشخصيات وكأنهم نسخ متشابهة .. إنني أحاول أن أنتزع من كل جماعة كائناً يستطيع أن يحاورني ، كائناً في قامة لغتي ودأبي ومخيلتي ، لذلك عندما أحاور هذا الكائن أحس بأهميته وأهمية ما ننجزه معاً من أوهام وكلام . ” .
وفي الحقيقة ربما بدت الرواية أقل قدرة على حمل أعباء اللعبة اللغوية التي تميز سرديات أبو معتوق ، لكن القصة القصيرة بما تملك من إمكانات التكثيف والانزياح وحجم المخفي أو المسكوت عنه .. ستحمل بعداً مبرراً من خلال القدرة المدهشة في المزج بين الأصوات المختلفة واستنباط دواخلها ، وبالتالي أداء أجل المهمات الفنية بالمداورة المقصودة ، والمعنية أساساً بعدم الالتزام بمستوى اللغة ( الحقيقية ) للأشخاص ، فقد يجري الكاتب على لسان امرأة عجوز في قصة ( علامات الجثة الضاحكة ) عبارات تعجز عن استخدامها بطبيعتها ، ومع ذلك فإن المرأة الغزالة العجوز هذه ، بكل ما وضعه أبو معتوق على لسانها ، صادقة صدقاً مطلقاً مع الحياة ، لأن التعبير عن ذلك يحتاج إلى تجاوز حدود النسج المعبر عن الواقع ، وكل ما فعله الكاتب أنه عبر عن الإحساسات الغامضة لدى كائن ما كان يستطيع التعبير عنها بوضوح ، وأظهر إمكانيات اللغة الفنية . وعلى هذا النحو يعبر أبو معتوق عن تلك الشخصيات البكماء التي تخوض معركة حياتها في صمت ، إنه ينجز رسالة الشاعر بالمعنى الذي قصده ( غوته ) من تلك الرسالة : ” إذا كان العذاب يخرس الناس ، فقد منحني الله قدرة التعبير عن عذابي . ” في القصة إياها ثمة امرأة تنكر التعرف إلى جثة زوجها في المشرحة ، وتعطي علامات غير صحيحة ، والجثة فيها علامة هي دمعة جافة لكن العين تبكي ، وأخيراً الإبهام المقطوع الذي يتماهى مع الإبهام الذي نحن فيه .. الأولاد الثلاثة للمرأة التي فقدت زوجها يحبون فتاة الشرفة ، وهي تحاول أن تخطبها لأحدهم ، تذهب إلى بيت الفتاة وتقابل جدتها التي تموت بعد حوار لا تصل فيه الاثنتان إلى اتفاق على من يكون زوجاً للفتاة من بين الأخوة الثلاثة ، والقصة تعتمد الحوار بالدرجة الأولى في مستواه الرامز إلى تناول قضايا الحب والحياة الزوجية والعنوسة ، وفي أثناء ذلك قضايا السياسة والقمع والملاحقة والاعتقال .. كما يبدو مستوى اللغة المفارقة في السرد أيضاً على نحو : ” كانت امرأة عجوز في القرنة ، وأمامها طشت مملوء بالخيوط والأيام والأقاويل ، وبيدها مغزل يدور وحده دون خيط .. ” ص 63 ..
ثمة جاذبية خاصة في لغة محمد أبو معتوق ، وذلك من خلال ميزة التناول الخصوصي ، حتى لتبدو وكأنها العمود الفقري للنص .. فهي ليست مجرد لغة إبلاغ ، بل لغة معالجة بطريقة تجعل منها لغة خطاب قصصي متفرد .. بحيث لا تستطيع كلمة أن تقوم مقام كلمة ، وبحيث تصبح الصياغة بمجملها متضافرة الجهود تسعى نحو غاياتها على خلفية من الفهم والحذر ، إنها بمعنى آخر مفردات وتراكيب ، شديدة الرهافة والحساسية ، ومن نوع الدال الموحي ، المتموضع في سياقه على نحو مفاجئ ومدهش وساخر ومفارق .. فأبو معتوق يكسر حدة العبارات المسكوكة في اللغة الأدبية التقليدية ، منجزاً قطيعة مع النسق اللغوي التقليدي في الحقل السردي ، كما يعمد في المقابل إلى إحياء سياقات تقليدية من السير الشعبية والحكايات العربية ، على نحو يلفت النظر إلى أن هذا السرد لا يزال شديد الإخلاص للتراث الحكائي والسردي العربي ، ومنشغلاً بإنسان ولوع بالخرافة والحكايا والكتب القديمة ، ويتمثل ذلك في الاتكاء على بعض السرديات التراثية من مثل : ” .. و لذلك نهضت من وقتها وساعتها إلى زوجها .. ” ( ليلة المغول ) ص 7 ، أو : ” كان يا ما كان .. في هذا الزمان والأزمنة النحيلة الأخرى .. ” ( ليلة المغول ) ص 13 ، أو البداية بـ ثم .. دلالة على استمرار المحكي الشعبي المتناقل شفاهياً ..
وهو إذ يفعل إنما يلجأ إلى صنع كسر أو انزياح منتزع من الحالة الموصوفة أو من الموضوع المحوري أو من الحوار أو مما يمليه موقف الشخصية اللحظي ، فتبرق في ثنايا السرد عبارات من مثل : ” اغرورقت عيناها بالأجنحة والطائرات ” لحظة البرق ص 95 ، ” تسارع الطلق وانتشر كالطلقات .. ” اللعب بالأسرار ص7 ، ” أميل للصمت والخضروات .. ” اللعب بالأسرار ص 156.. ” محافظ الثياب كيانات لها أرواح وأقفال .. ” اللعب بالأسرار ص 161 .. الأمر الذي يجعلنا نفهم الكاتب وهو يطلق مقولته : ” في الواقع أنا أتكئ على اللغة أكثر مما أتكئ على قدميّ ، واللغة بالنسبة لي هي العالم الوحيد الذي أحس نحوه بالرحابة واللا نهائية ، ليس لأن اللغة عبارة عن أصوات ودلالات ومعان مركبة ، اللغة بالنسبة لي هي كيانات لا حد لحياتها وفتنتها ، وهي كيانات شديدة الألفة والحركة وشديدة الغرابة والمروق ، لذلك أحس بأن المواجهات الكبرى التي أعيشها وأضطرب فيها هي المواجهة مع اللغة وليس مع العالم المجاور لها ، ولأن اللغة هي عمود فقري للنص عندي فأنا أتمنى وبسبب تهتك عمودي الفقري أن تكون اللغة هي العمود الفقري الذي يحملني ويقف فيَّ وأقف فيه .. أما جاذبية اللغة فتلك سيرة متروكة للآخر ، للقراءة المتباينة لتقول فيها كلمتها وليس لي ، رغم أني أتوخى أن تكون علاقتي بنصي علاقة ألفة ومودة ، وإذا لم يكن الأمر كذلك فالنافذة وحدها تتدخل لتسوية الأمور . “