
دراسة نقدية سيميائية بقلم: منذر فالح الغزالي
عنوان الرواية “الوقوف على عتبات الأمس” للأديب المصري أحمد طايل، عنوان يحمل في طياته دلالات نفسية واجتماعية وفكرية عميقة تتجاوز المعنى السطحي للكلمات، لتصل إلى تساؤلات في الهوية والانتماء، بل تسجيل موقف، هو موقف كاتب العمل، وانحيازه للهوية المصرية، بحركتها الحضارية الديناميكية، دون ان يغرق نفسه في تقديس كل ما ينتمي إلى الماضي؛ وسنثبت استنتاجنا هذا من خلال تفكيك عنوان الرواية، باعتباره العتبة الأولى، والأهم، واستخراج دلالاته ، ومن ثم الانتقال إلى متن الرواية التي امتدّت على أكثر من 140 صفحة من القطع المتوسط، في النسخة الإلكترونية المتوفرة عندي، واستخراج الدلالات والإشارات التي تؤكد مضمون العنوان.
تفكيك دلالات العنوان:
الوقوف: يشير إلى حالة من التردد أو التأمل أو الترقب. البطل في الرواية ليس منغمسًا تمامًا في الماضي، ولكنه أيضًا ليس منفصلًا عنه. إنه يقف على أعتابه، يسترجع ذكرياته ويقارنها بالحاضر. هذا الوقوف يعكس حالة نفسية معقدة من الحنين والضياع والرغبة في استعادة الهوية.
عتبات: توحي بالحدود أو الفواصل بين مرحلتين أو عالمين. العتبة مكان انتقالي، يفصل بين مكانين، زمانين، أو حالتين مختلفتين، ولكن، متلاصقتين أيضاً، وهو أيضًا مكان يثير التساؤلات والذكريات. عتبات الأمس تمثل ذكريات الماضي، وتقاليده، وقيمه. الوقوف على هذه العتبات يعني استحضار الماضي ومواجهته.
الأمس: يرمز إلى الماضي بكل ما يحمله من ذكريات، وأشخاص، وأحداث. الأمس ليس مجرد فترة زمنية، ولكنه أيضًا مخزن للهوية والتراث والقيم. في الرواية، الأمس هو القرية بكل تفاصيلها البسيطة والحميمة.
الدلالات المستخرجة من العنوان:
الحنين والذاكرة: العنوان يعكس بقوة موضوع الحنين إلى الماضي واستعادة الذكريات. البطل يقف على عتبات الأمس يسترجع أيامه الخوالي ويحن إلى بساطة وجمال الحياة في القرية.
صراع الهوية: العنوان يوحي بصراع الهوية الذي يعيشه البطل، بين هويته القديمة المتجذرة في القرية، وهويته الحديثة التي تشكلت في المدينة. إنه يقف على عتبة هذا الصراع، يحاول التوفيق بين العالمين.
التغير والتطور: العنوان يحمل في طياته فكرة التغير والتطور الذي يشهده المجتمع. الوقوف على عتبات الأمس يعني أيضًا مواجهة التغيرات التي طرأت على القرية ومحاولة فهم تأثيرها على الهوية والقيم.
التأمل والتساؤل: العنوان يعكس حالة التأمل والتساؤل التي يمر بها البطل. إنه يتأمل في الماضي، ويتساءل عن الحاضر والمستقبل، ويحاول إيجاد معنى لوجوده في هذا العالم المتغير.
باختصار، عنوان الرواية “الوقوف على عتبات الأمس” هو عنوان مكثف ومعبر، يحمل في طياته العديد من الدلالات والمواضيع الرئيسية التي تتناولها الرواية. إنه عنوان يلخص رحلة البطل النفسية والروحية، ويعكس صراع الهوية والحنين إلى الماضي في وجه التغيرات الحديثة.
نظام العلامات
السيميولوجيا، كما طوّرها فرديناند دي سوسير، تركز على العلاقة بين الدال (الصيغة اللغوية) والمدلول (المفهوم أو الفكرة). في الرواية، تُستخدم العلامات لاستكشاف مواضيع مثل الهوية، الذاكرة، والتغيير الاجتماعي.
مقدمة
رواية “الوقوف على عتبات الأمس” هي عملٌ سرديٌّ يجمع بين الذكريات الشخصية والانتماء الجمعي، مع التركيز على الصراع بين التراث والحداثة في سياق مصري ريفي. يتمحور التحليل السيميولوجي حول دراسة العلامات (الكلمات، الشخصيات، الأحداث، الرموز) وكيفية تكوينها للمعنى، مستخدمًا الاقتباسات من النص لتوضيح كل جانب.
١. بنية الثنائيات الضدية:
الثنائيات المعارضة هي زوج من المفاهيم المتناقضة تساعد في ترتيب المعنى في النص.
ثنائية الماضي والحاضر:
تتجاوز هذه الثنائية مجرد الحنين، لتصبح صراعًا بين الأصالة والمعاصرة. الماضي يمثل القيم الريفية الأصيلة، بينما الحاضر يجسد تأثيرات العولمة والتغيرات الاجتماعية. العودة إلى القرية ليست مجرد رحلة نوستالجية، بل هي محاولة لإعادة اكتشاف الذات في مواجهة التغيرات. البطل يصارع بين هويته القديمة والواقع الجديد.
لنقرأ هذا الاقتباس الذي يوضح التحول المادي الملموس الذي يراه البطل: “هذا الطريق الذي كنت أسير به ذهابًا وعودة لسنوات طويلة، كان مجرد حقول على الجانبين، الآن لا وجود لأي نوع من الزراعات”، والاقتباس التالي يعمّق فكرة الحنين إلى الماضي كحنين إلى قيم اجتماعية وإنسانية: “أحلم بعودة الريف إلى ريفيته، إلى عفويته، إلى تراحمه، إلى المشاركة بالأحزان قبل الأفراح”.
من ناحيةٍ أخرى فإنّ توقّع المجتمع لعودة البطل دلالةٌ ذكيّةٌ على قوة الذاكرة الجمعية والانتماء الدائمة، مما يشكل علامة للاستمرارية: “كنا ننتظر هذا اليوم من سنوات وكنا جميعًا على ثقة أنك عائد عائد فالأيام لا تمحو ما فعلت حتى إن بعدت لعقود حزنًا على تغييرات حدثت ما كنت تتوقعها” (ص. 4).
ثنائية المدينة والقرية:
لا تقتصر الثنائية على المكان، بل تمتد لتشمل نمط الحياة، والعلاقات الاجتماعية، والقيم. المدينة تمثل الفردية والتحرر، بينما القرية تمثل الجماعية والترابط الأسري. البطل، المثقف العائد من المدينة، يحمل في داخله صراعًا بين هذين العالمين، ويعي المفارقة بين رفاهية الحياة في المدينة، ودفء الحياة في القرية: “على الرغم من سكناي بأرقى الأماكن ومدى الرفاهية التي أعيشها إلا أن أجمل لحظاتي هي ذهابي للموعد الشهري الذي نلتقي به جميعا كإخوة”؛ والاقتباس التالي يلخص انتماء البطل العاطفي للقرية: ” باختصار كلما قارنت بين القرية والمدينة، أحن إلى خبز أمي. هذا أنا…”
ثنائية الحياة والموت:
الموت ليس نهاية، بل هو جزء من دورة الحياة في القرية. وخير ما يمثل هذه الفكرة في الرواية هي زيارة المقابر التي تذكّر البطل بالروابط العائلية والاجتماعية التي تتجاوز الموت. فالمقبرة تصبح مكانًا للتواصل مع الماضي والأجداد، وتأكيدًا على استمرارية الهوية. “مررت بيدي على الجدران وكأنني أطلب منهم السلام عليّ، وجدت نفسي لا إراديًّا أجثو على قدمي، أرفع يديّ أقرأ الفاتحة بصوت عال بعض الشىء ولساني يلهج بالدعوات”، وهل هناك علاقة روحية آكثر من الحديث بين الأحياء والأموات؟
2. تحليل سيميائية الشخصيات والعلاقات:
البطل (رشدي):
يمثل المثقف الحائر بين الماضي والحاضر، والباحث عن الهوية في زمن التغير. تطوره النفسي خلال الرواية مهم، حيث يبدأ برحلة نوستالجية وينتهي بمشروع لإحياء قريته. * “عدت؛ لأن هذه قريتي وهؤلاء أهلي، لم أبحث عن شغل فراغ كما قلت؛ لأني لست موظفا، أنا صاحب شركات لها اسمها”.
أهل القرية:
يمثلون مجتمعًا متماسكًا يحافظ على قيمه وتقاليده، ولكنهم أيضًا يواجهون تحديات التحديث. هناك تنوع في الشخصيات (الشيوخ، الشباب، المتعلمون) مما يثري صورة المجتمع… “قريتنا تثير غيرة القرى المجاورة بها عدد قد يدهشك إن صرحت به من أساتذة الجامعة في كل مجالات العلم”.
العلاقات الأسرية:
تلعب دورًا محوريًا في الرواية، حيث تمثل الأسرة مصدر الدعم والانتماء للبطل. علاقة البطل بأبيه المتوفى دلالة على استمرار مجتمع الرواية يتوارث القيم على تعاقب الزمن، بمعنى آخر: القيم الأصيلة لا تموت.
3. تحليل سيميائية المواضيع والرموز:
الحنين إلى الماضي:
يتجاوز كونه شعورًا شخصيًا ليصبح قوة دافعة للتغيير الإيجابي في الحاضر.
الماضي يقدم حلولًا أو قيمًا يمكن الاستفادة منها في مواجهة تحديات الحاضر… “أحلم بعودة الريف إلى ريفيته، إلى عفويته، إلى تراحمه، إلى المشاركة بالأحزان قبل الأفراح”.
التغير الاجتماعي:
يتم استكشافه من خلال مظاهر مادية (تغير شكل البيوت والزراعة) وقيمية (تغير العلاقات الاجتماعية والأخلاق). الرواية تقدم رؤية نقدية للتحديث السطحي الذي يركز على المظاهر ويتجاهل الجوهر…”حتى بعض الفلاحين تغيرت بعض أمورهم، الكثير منهم بالحقول صار يرتدي البنطلون، وبين أيديهم أجهزة المحمول على تنوع ماركاته، حتى الفتيات تغير تام حدث لهن، ثياب على أحدث الموضات، ورأيت شابات يحتضنَّ أيادي الشباب، ذهب الخجل العفوي الذي كان مصاحبًا لهن، فقد كن يسرن دومًا على مسافات متباعدة عن الشباب، حقًّا العولمة تزحف سريعًا”. “نحن نأخذ من أيِّ متغير القشرة الخارجية لا يهمنا المحتوى”.
4. الرموز والعلامات:
* البيت: يرمز إلى الهوية والجذور والانتماء، وهو مكان استعادة الذكريات والقيم الأصيلة.
* الحقول والزرع: ترمز إلى الخصوبة والعطاء والارتباط بالأصل، وهي مصدر فخر واعتزاز لأهل القرية؛ لكنها تتقلص مع الزحف العمراني، مما يعكس فقدان جزء من الهوية.
* الجذع الشجري المنحني: يرمز إلى استمرارية الحياة وتجددها، والارتباط العميق بين الإنسان والطبيعة.
* إرث الأب: رمز للثروة الحقيقية، ليست مادية، بل مبنية على الروابط الإنسانية والإيثار. هذا يضع معيارًا أخلاقيًا يسعى البطل لتحقيقه، مما يعكس علامة للقيم الثقافية..
5. بنية السرد وزمن الرواية:
بنية السرد واستخدام الزمن في الرواية لهما أهمية كبيرة في التحليل السيميولوجي.
* الوصف الغني:
اعتمد السرد على الوصف المفصّل للمشاهد والشخصيات والأحداث، مما خلق جوًا واقعيًا وحيويًا. الوصف ليس مجرد تزيين بلاغي أو بياني، بل هو أداة لإبراز الثنائيات الضدية والمواضيع الرئيسية.
* تعدد الأصوات:
لم تقتصر الرواية على صوت البطل، بل تضمنت أصواتًا أخرى من أهل القرية، مما يثري السرد ويقدّم وجهات نظر مختلفة. هذا التعدد الصوتي يساعد في رسم صورة شاملة للمجتمع الريفي.
* تكسير الزمن الخطي
يتنقل السرد بين الماضي والحاضر، مما يعكس رحلة البطل الداخلية. هذا الهيكل غير الخطي يدل على تفاعل الذاكرة مع الواقع، مشيرًا إلى أن الماضي ليس مجرد خلفية، بل قوة نشطة تشكل الحاضر، مما يشكل علامة لتداخل الزمن.
* الزمن الدوري:
عودة البطل إلى القرية وقراره البقاء يشيران إلى نمط دوري، حيث أن الذهاب والعودة جزء من دورة حياة أكبر.
هذه الدورية تعزز موضوع الاستمرارية وطبيعة الروابط الثقافية والعائلية الدائمة، مما يعكس علامة للاستدامة.
* التركيز على الذاكرة:
يعتمد السرد، في الرواية، وبشكلٍ كبيرٍ، على الذاكرة واسترجاع الماضي، مما يخلق بنية زمنية غير خطية؛ والذكريات ليست مجرد استطرادات، بل هي جزءٌ أساسيٌّ من بناء المعنى وتطوّر الشخصيات.
اقتباس: الأحلام التي تدفع عودة البطل هي أداة رئيسية لدمج الماضي بالحاضر.
هذا الهيكل غير الخطي يدل على تفاعل الذاكرة مع الواقع، مشيرًا إلى أن الماضي ليس مجرد خلفية، بل قوة نشطة تشكل الحاضر، مما يشكل علامة لتداخل الزمن.
الخلاصة:
رواية “الوقوف على عتبات الأمس”، للأديب المصري أحمد طايل، هي عمل أدبي غني بالدلالات والعلامات السيميولوجية المعقدة. من خلال تحليل الثنائيات الضدية، والشخصيات، والمواضيع، والرموز، وبنية السرد، نرى أن الرواية تتجاوز مجرد الحنين إلى الماضي لتقديم رؤية عميقة للتغير الاجتماعي وصراع الهوية في المجتمعات الريفية. إنها دعوة للتوازن بين الأصالة والمعاصرة، وللحفاظ على القيم الإنسانية في وجه التحديات الحديثة.
منذر فالح الغزالي
بون/ ألمانيا الاتحادية في ٣/٥/٢٠٢٥