للحكاية سحرها، تشدُّ المتلقي إلى عالمها وأحداثه وشخصياته، وتُسكنه فيه، فيكون «فردوسه»، ولعلَّ ذلك يعود، في المقام الأول، إلى أنها توقظ الطفل فيه، وفي العالم الذي تنقله إليه، وبخاصة إن كانت حكاية شعرية. نتحدث عن هذا الموضوع، مستندين إلى مجموعة «حكايات شعرية» التي صدرت أخيرًا (دار جامعة حمد بن خليفة للنشر، الدوحة، قطر، ط 1، 2022).
مؤلِّف هذه المجموعة هو الشاعر والناقد اللبناني سلمان زين الدين، ورسومها بريشة شيرين سعيد. تتضمن هذه المجموعة خمس عشرة حكاية، العدد الأكبر منها مستقى من «كليلة ودمنة»، والباقي مستقى من منظومات الشاعر الفرنسي «لافونتين»، ومن «ألف ليلة وليلة»، ومن الحكايات الشعبية العربية.
هذه الحكايات، كما يقول مؤلفها «مطروحة في الطريق، على حدّ تعبير جدِّنا الجاحظ، وأنا لم أقم باختراعها، غير أنني أعدت صياغتها شعرًا…، بهذا المعنى، نصبح أمام حكاية جديدة تنتمي إلى صائغها، بقدر انتمائها إلى الأصل…، فتجتمع الحكاية والقصيدة في النص الواحد، ولعل هذا ما يمنحها القدرة على شدِّ القارئ اليافع، بعد أن شطَّ به المزار عن القراءة، وسرقته وسائل التواصل الحديثة عن نفسه».
ملاءمة المرحلة العمرية
في هذه المرحلة العمرية، صار من الممكن أن يُقدَّم للطفل نصٌّ أدبي متميِّز كامل (قصة كاملة نثرية أو شعرية) مصحوباً بالرسوم التوضيحية والتزيينية، ومؤدَّى بعبارات بسيطة سهلة ومعجم لغوي مألوف ومتداول، وينطق بدلالة كلية. وفي ضوء هذه المعرفة، يمكن القول: إن هذه الحكايات تلائم هذه المرحلة العمرية، فهي تروي حكايات شخصيات حقَّقت إنجازات، ويمكن أن يتخذها الطفل قدوة له، بالمواصفات الفنية المذكورة أعلاه.
تقديم الفردوس المفقود
يبدو أنَّ الشاعر، وهو مفتش تربوي، لديه معرفة وخبرة، في هذا المجال، رأى إلى هذه المسألة التربوية عندما أهدى هذه المجموعة «إلى الأطفال الذين فقدوا فردوسهم قبل الأوان»، فهو، إذ يقدِّم لهم حكاياته، يقدِّم لهم «فردوسهم»، وهو النص الحكائي الشعري، وإن لم يفصِّل في بيان صفات هذا «الفردوس»، فإن ما جاء على الصفحة الأخيرة من الغلاف نصَّ على ثلاثة أهداف يُراد لهذه الحكايات أن تحقِّقها، وهي: 1 – الإسهام في محاولة كسر الفجوة بين القارئ اليافع وتراثه الحكائي والشفاهي (الشفوي).
2 – الإسهام في مصالحة الجيل الناشئ مع القراءة.
3 – إعادة الاعتبار إلى الاستظهار.
وظائف أدب الأطفال
في هذه الرؤية التربوية الجمالية، إلى الشعر الموجَّه للأطفال، يلتقي الشاعران العربيان، القديم والمعاصر، فيريان شعر الأطفال بخاصة، وأدبهم بعامة، «فردوسهم»، ونعني الجيد منه، وهو الكلام الجميل، المعدّ والموجَّه للأطفال، المراعي خصائصهم على مختلف المستويات، الناطق جماليًا برؤية تربوية؛ وذلك لأنه يؤدي، إضافة إلى الأهداف الثلاثة المذكورة اَنفًا، عدة وظائف يمكن أن نشير إليها، كما يأتي:
1 – وظيفة ترفيهية تتمثل في التسلية والترويح والإمتاع الأدبي.
2ـ وظيفة نفسية تتمثل في إزالة المعوِّقات وتحقيق الإنجاز، لدى اتخاذ شخصية البطل قدوة، ما يفضي إلى تحقيق الفرد ذاته.
3 – وظيفة ثقافية تتمثل في تحصيل معرفة وخبرات.
4 – وظيفة تربوية تتمثل في امتلاك الطفل منظومة قيم تربوية وطنية وقومية وإنسانية، وتشكيل «الأنا الأعلى القيمي» لديه. 5ـ وظيفة جمالية تتمثل في تربية «الأنا الأعلى» الجمالي لدى الطفل، واكتشاف المواهب وتنميتها، وإثارة الخيال/ التصوُّر، ما ينمِّي ملكة التفكير.
نظم الحكايات قديم جديد
إذا كان الشاعران العربيان، القديم والمعاصر، يلتقيان في هذه الرؤية التربوية الجمالية، فهما يلتقيان كذلك في الصنيع؛ ذلك أنه، من المعروف أن شعراء عربًا قدماء نظموا حكايات شعرية، وبخاصة حكايات كليلة ودمنة، ومن هؤلاء إبان بن عبدالحميد اللاحقي (ت 200 هـ / 815 م)، وابن الهبارية، محمد بن محمد بن صالح العباسي (414 – 509 هـ / 1023 – 1115م).
وفي مطلع عصر النهضة، كثر هذا النوع من النظم، فعُرف في غير قطر عربي شعراء اقتبسوا حكايات من الأدب الغربي، والأدب التراثي، ونظموها، ومنهم، على سبيل المثال، في مصر، محمد عثمان جلال (1828- 1898). ثم جاء أحمد شوقي (1868- 1932)، فنظم خمسًا وخمسين حكاية شعرية تتخذ شكل مقطوعات وقصائد، وتجري أحداثها في عالم الحيوان، ما أهَّله لأن يعدَّ «رائد شعر الأطفال في الأدب العربي».
اختلاف «حكايات شعرية» وتميُّزها
ليس المقام مقام تفصيل في شأن نظم شعر الأطفال في الأدب العربي، وإن هي الا أمثلة تتيح القول، من نحو أول: إن الأدب العربي القديم والحديث عرف هذا الصنيع، ومن نحو ثان: إن صنيع سلمان زين الدين مختلف عن صنيع من سبقه من ناظمي الحكايات، ماعدا شوقي (وهذا يحتاج إلى بحث مستقل)، بعدة خصائص، يمكن عرضها كما يأتي:
1ـ بين المنظومات والقصائد: اعتمد أولئك الناظمون بحر الرجز والقافية المزدوجة، فجاءت نصوصهم منظومات، أو أراجيز، مثقلة بالوعظ وصوغ الحكمة المباشرة، في سياق سردي يخلو من التشويق والإقناع في كثير من النماذج، في حين اعتمد زين الدين بحر الرمل، والقافية الموحَّدة في حكايتين، والقافية المتنوعة في باقي الحكايات، ما يعني أنه نظم قصائد شعرية، وليس منظومات.
2ـ تحقيق مفهوم الشعر الجيد: تغلَّب زين الدين على عدة صعوبات ليتمكن من الوصول إلى تحقيق مفهوم شعر الأطفال الجيد، في هذا النوع من الشعر، وهو الحكاية الشعرية الخرافية، من هذه الصعوبات نذكر:
أ- إقامة بناء سردي مسلٍّ ومشوق وممتع ومقنع، وناطق بالدلالة. تتمثل الصعوبة، هنا، في أن يسرد القاص حكاية قصيرة، شخصياتها حيوانات الغابة، دالَّة على بشر معيَّنين، من طريق المقابلة والمناظرة، ما يشكل رمزًا يحتاج إلى تأويل، يُصرَّح به موعظة أو حكمة، أو يُترك للمتلقي أن يتبيّنه، وهذا هو الأكثر جمالية، ويبدو أنَّ زين الدين وُفِّق في تجاوز هذه الصعوبة.
ب- تطويع اللغة، وجعلها لغة سردية طليَّة، معجمها مألوف متداول، وعباراتها بسيطة التركيب سهلة الفهم. ويبدو أنَّ زين الدين بذل جهدًا كبيرًا في هذا المجال. ومع هذا، لم تخل نصوصه من مفردات صعبة الفهم، شرح معظمها، في آخر المجموعة، ومن عبارات صعبة الفهم أيضاً. غير أن الغالب عليها، بساطة التراكيب وخلوَّها من الانزياح التركيبي، المفضي إلى صعوبة الفهم، وغناها بالانزياح البلاغي المتمثل في التشبيه والاستعارة والمجاز. والنماذج كثيرة نذكر بعضها لضيق المقام: « تتهادى، في خطاها، كعجوز حين يتعب»، «ذهب الحقل»، «سقفه للريح ملعب»، «يتسلى بالكسل»، «يصرخ الفيل ويبكي/ كصغير ذاق مرَّا».
ج- تطويع الوزن العروضي للسرد الحكائي، ويبدو أنَّ الشاعر أحسن اختيار بحر «الرمل»، فنغمته خفيفة شيِّقة منسابة، وتفعيلاته: «مرنة» تُشعر بالنشوة والطرب، وهو بحر يأتي تامًا ومجزوءًا، وسالمًا وغير سالم في الحالين، وجوازته كثيرة، وله عروضان وستة أضرب، وقد أفاد الشاعر من هذه الإمكانات جميعها، وبذلك أثبت أن الشاعر يمكن أن يمتلك ناصية العروض، ويتحكم بها لأداء أغراضه. وقد يصح القول، إن استخدمنا مصطلحات فرديناند سوسير: إن العروض هو اللغة ونظم الشعر، بتفعيلاته، هو الكلام المتميز بخصائصه الخاصة. ويبدو أنَّ الشعراء كانوا يعرفون إمكانات هذا البحر، فهذا أحمد شوقي يستخدمه، ومن نماذج قصائده المعروفة قصيدته: «حكاية الثعلب والديك»، ومطلعها: «برز الثعلب يومًا/ في شعار الواعظينا»، وختامها: «مخطئ من ظن يومًا/ أنَّ للثعلب دينا».
دـ تطويع القافية، هذا التطويع نفسه، يمكن أن نقوله عن القافية، فالملاحظ أنَّ الشاعر استطاع أن يطوِّع القافية بمهارة؛ إذ إنَّه، وإن أكثر من اعتماد القافية المقيَّدة، وهي ساكنة الروي، فإنَّه استخدم جميع الإمكانات المتاحة في هذا المجال، من تنويع القافية، وتنويع أصواتها: الروي والخروج والردف والوصل والتأسيس…، ووظفها في مَوْسقة شعره، ما جعل هذا الشعر ينتمي إلى التراث الشعري العربي الذي تمتد قوافيه، في تسعين بالمئة منه، بالحركة، وهذه إحدى المزايا التي تميِّز الشعر من النظم والنثر.
3ـ حبك السرد، المتمثل في إقامة نظام ظهور للوحدات السردية، يمضي في الغالب وفاقًا للنظام الذي تتخذه الحكاية في كل أنحاء العالم، كما يأتي: توازن، فقد، وعي الفقد، اتخاذ قرار، خروج، اختبار، معوِّقات، مساعد، صراع، إنجاز.
4ـ منظومة القيم: تنطق نصوص الحكايات بمنظومة قيم تربوية وطنية وإنسانية. والقيمة المعنية، هنا، هي كل صفة، في الإنسان، توجِّه سلوكه، وتحرِّكه إلى العمل، ويعدُّها مرجعه في الحكم على ما يقوم به من أعمال، ومعياره في الحكم على الاَخرين، وهي صفة اجتماعية وفردية في اَن.
يصنِّف الباحثون، في هذا المجال، القيم، في مجموعات هي القيم الوطنية والمعرفية والعملية والاجتماعية والأخلاقية والترفيهية الجمالية.
تفيد قراءة هذه الحكايات أنَّها تنطق بمنظومة قيم تشمل هذه المجموعات جميعها، ففي حكاية «السلحفاة والأرنب»، نلحظ ثنائية الأنا المغرور بتميُّزه، المستهزئ بالآخر متواضع الإمكانات، لكن إجادة توظيف الإمكانات تتيح للاَخر المثابر تحقيق الفوز، وتأتي الحكمة، في هذه الحكاية مباشرة، في نهايتها، وفي حكاية «الصرَّار والنملة»، نلحظ ثنائية شبيهة بالثنائية السابقة، فالنملة معتدَّة بنفسها، صارمة في حكمها على الاَخر المختلف، وهو آخر يؤدي وظيفة مهمة في عالم الحكاية، إذ إنه يغني، والغناء، كما هو معروف، يرافق العمل، ومن دونه لا ينشط العامل، إضافة إلى أنه ينتمي إلى مجموعة القيم الترويحية، الترفيهية، الجمالية التي لا غنى عنها لأيِّ مجتمع. لهذا يبدو لي أنَّ هذا القول على لسان النملة: «فمضى يوري القوافي/ ومضت توري زناد الاجتهاد» يناقض ما جاء من وصف الشاعر للشعر، في إهدائه، بأنَّه «فردوس»، ثم لمَ لا تُعدُّ «تورية « القوافي اجتهادًا، وأذكر أنِّي كتبت قصة عنوانها: «اعتذار النملة من الصرصار»، وجدت فيها النملة نفسها عاجزة عن مواصلة العمل، بعد فقدها غناء «الصرصار»، فذهبت تعتذر منه، وتطلب إليه العودة إلى الحقول، ومواصلة الغناء الذي يجعل عالم العمل جميلاً. وقد لاقت هذه القصة، بعد نشرها، استحسانًا من كثير من المتلقين. وفي «حكاية الثعلب والغراب»، نلحظ ثنائية الذكاء/ السذاجة، وفيها يُستخدم الذكاء في الخداع، وهذا خلاف ما يحدث في حكايتي «الثعلب والليث» و«الصياد والمارد»، ففيهما يُستخدم الذكاء، بوصفه قوة فاعلة، في التغلُّب على قوة الظالم الجسدية، ما يمثل قيمة إنسانية تتمثل في مقاومة كل من يعوِّق السعي إلى عيش حياة كريمة، وهذا ما يتجلى في حكاية «القبرة والفيل» التي تحقق فيها القبرة النصر على الفيل من طريق وضع خطة يساعدها في تحقيقها أبناء مجتمعها، ما يؤكد أهمية قيمة العمل الجماعي، ففي الاتحاد قوة كما تفيد حكاية «العصي والأغصان»، ويتحقق النصر إن أتيحت للجماعة قيادة قائد شجاع حكيم، يمتلك السلاح الفاعل، كما في حكاية «القنفذ والصياد»، فالشوك الذي كان يُشعر القنفذ بالخجل، غدا، لدى استخدامه في ردّ الاعتداء، ومقاومة المعتدي، «موضع فخره». غير أنَّ الفرد عندما يخدع الجماعة تتخلى عنه، كما في حكاية «الراعي والذئب»، كما أنَّ الفرد يحتار في ما يفعل إن تخلى عمَّا يميزه، وهو التفكير المستقل، واتخاذ القرار السليم، وإذا عمل بما يسمعه من تعليقات الآخرين، كما حدث في حكاية «الطحان والحمار».
يتبيَّن القارئ هذه الدلالات حكمة مباشرة في بعض الحكايات، كما ذكرنا آنفًا، ودلالة تنطق بها الحكاية لدى اكتمال تشكلها، كما في حكاية «الليث والفأر»، على سبيل المثال، إذ انتهت الحكاية بقول الراوي: «… فتح الفأر ممرَّا/ حرَّر الليث الأسير»، من دون أن يعلِّق، تاركًا للقارئ أن يرى رأيه.
السؤال
بعد إجراء هذه القراءة، في مجموعة «الحكايات الشعرية» لسلمان زين الدين، هل يحقُّ لنا الإجابة عن هذا السؤال: هل تسهم الحكايات الشعرية للأطفال في إعادتهم إلى «فردوسهم» المفقود، في هذا الزمن الصعب، بالإيجاب؟