الدهشة الماحوليّة وسورياليّة القبلات
شفافِك بعيده… والنجوم قراب
وتمّي مِشي فوق الحلم حافي
سَودا المسافه والطريق غراب
وعيت الصبح عا مخّدتي في تراب
وعم بمسَح الغبره عن شفافي
مارون الماحولي
البوسه المستحيله عنوان قصيدة للشاعر الصديق مارون الماحولي.
قرأت عنوان القصيدة فعادت إلی ذاكرتي قصيدة الشاعر الكبير سعيد عقل، يقول فيها:
فكرة لغدي مستحيلة
وتمنّع الشفة البخيلة
جمع الشاعر عقل بين الاستحالة والبخل، أو التمنّع والصدود. في حين أنّ الشاعر الماحولي ربط الاستحالة بالبُعد. والبُعد قد يكون مكانيّاً أو نفسيّاً.
في شعر عقل نداء من الشاعر للحبيبة كي تبقی خارج إطار الجسد. يطلب منها أن تبقی فكرة لغده مستحيلة. ولعلّ هذا الطلب نوع من العنفوان، إذ يرفض الشاعر أن يستجدي القبلة من الحبيبة البخيلة بالقبل، فيتمنی عليها أن تبقی في عالم المستحيل، فكرة تُدرك بالعقل، لا بالحواس.
أما الشاعر الماحولي فيری القبلة مستحيلة لأن صاحبتها بعيدة عنه، في قصر مرصود، علی حدّ تعبير الشاعر الكبير نزار قباني الذي يقول:
في قصر مرصود
من حاول فك ضفائرها…
وقد نری في عنوان القصيدة إحالة إلی لوحة سورياليّة من أَعمال الرسام السوريالي البلجيكي رينه ماغريت (1898-1967)، عنوانها القبلة المستحيلة. وهي مستحيلة
لمسافةٍ بين الشفاه، أَو لغلالةٍ على وجهَيهما.
فما أسباب بُعد المسافة، في شعر الماحولي؟
القبلة مستحيلة، عند الشاعر الماحوليّ، لأنها من أضغاث الأحلام. وهذا ما يخالف علم النفس حين يلجأ الإنسان إلی الحلم كي يعوّض حرماناً معيّناً، أو شهوة مكبوتة.
ولعلّ الشاعر في وصفه استحالة القبلة، حتی في الحلم، يحاول ذرّ الرماد في عينَي القارئ، وإخفاء ما حصل في الحلم، في سواد المسافة، أو الليل، مسرح رغباته المكبوتة.
وقد نری في صورة الغراب الذي شبّه به الطريق عودة إلی الغراب الذي أرسله نوح، كي يعرف انتهاء الطوفان، فذهب ولم يعد.
وحين استيقظ الشاعر، صباحاً، لم يجد علی مخدّته إلا التراب. والتراب رمز العودة إلی الأم الأرض.
البوسة المستحيلة تعيدنا إلی عقدة أوديب، حين يتزوّج أوديب أمّه، ويقتل أباه.
الأم محرّمة علی الشاعر لذلك قبلتها مستحيلة. والأب قد اختفی، في قاموس الشاعر، ولم يبقَ منه سوی رمز موته: التراب. أمّا فعل الاستيقاظ فهو رمز للمعرفة، أو صحوة الضمير.
هي نظرية نزعم أنّ معالمها تظهر، في هذه القصيدة. ولكنّنا حين نغوص أكثر، في سيميائيّة العنوان والمحتوی، وفي الفكر الماحوليّ، نجد أن المرأة المزعومة رمز للقصيدة المثاليّة، علی غرار المدينة الفاضلة، في الفلسفة الأفلاطونيّة. يبحث الشاعر عن قصيدته المثلی، فلا يقع عليها، إلا في الحلم. وحين يستيقظ يری أنّها لم تكن سوی أضغاث أحلام، وليس علی شفتيه سوی تراب الواقع، وحبر الشعر التقليديّ.
قصيدتك المنشودة، صديقي الشاعر، لا تزال في عالم الغيب المرصود. وشعرك، في جوهروده بحث دائم عن الكمال الشعريّ، في ألق الدهشة.
وحين يركن الناقد إلی هذه النظريّة، يعيده الشاعر الماحوليّ ، مع سابق الإصرار والترصّد، إلی المرأة الميثة، التي تلهم الشعراء، من خلف غياهب المجهول، وتبقی ، في الوقت نفسه، فكرة لغده مستحيلة.
مارون الماحولي، نحن نعرف أن وصال حوريات الشعر مستحيل ، حتی في الأحلام، ولكنّ شعرك، تجاوز الرصد السحريّ، وعانق قلوب القرّاء وعقولهم، في آن، وهذا لعمري هو عالم الشعر /الدهشة, وقبلته الممكنة.
د. جوزاف ياغي الجميل