عن صحيفة الخليج د. حسن مدن
أبسط تفريق، ولعلّه الأدق، بين الذكريات والمذكرات هو ذلك القائل بأن الذكريات هي الأحداث التي مرّ بها الإنسان في حياته، وأصبحت ماضياً، لكنها بقيت حيّة في الذاكرة، أما المذكرات فهي كتابة وتدوين تلك الذكريات، فيصبح بوسع آخرين غير كاتبها أن يقرأوها.
ولكن ليست غاية كل من يدوّنون ذكرياتهم لتصبح مذكرات، هي إتاحتها لسواهم كي يقرأوها، فغاية هذا التدوين عند البعض قد تكمن في خوفهم من أن ينسوا هم أنفسهم ذكرياتهم مع تقدّم أعمارهم، فلا يعود بوسعهم تذكر ما مرّ بهم من أحداث، أو على الأقل نسيان تفاصيل تلك الأحداث، فالذاكرة، وإن احتفظت بمتن الحدث الرئيسي، فإنها يمكن أن تنسى حواشيه، أي تفاصيله، ولأن الشيء بالشيء يذكر بوسعنا الإشارة إلى وصف عالم النفس الشهير فرويد للذاكرة حين قال عنها إنها «خوّانة».
بالتفريق بين الذكريات والمذكرات، استهل الباحث السعودي حسين محمد بافقيه مقالاً له حواه كتابه: «عبروا النهر مرتين»، مورداً ما قاله علي الطنطاوي عن ذكرياته، حين كتب: «هذه ذكريات وليست مذكرات، فالمذكرات تكون متسلسلة مُرتبة تمدّها وثائق معدّة أو أوراق مكتوبة، وأنا رجل قد أدركه الكِبر فكلّت الذاكرة وتسرّب إلى مكامنها النسيان».
ومقال بافقيه ليس عن الفرق بين الذكريات والمذكرات حتى لو استهله بما أتينا عليه أعلاه، وإنما عن العلاقة المعقدة بين الذاكرة ونقيضها، أي النسيان، لذلك فإنه لا يكتفي بما أورده علي الطنطاوي، وإنما يشير أيضاً إلى ما كتبه مصطفى عبد الغني في سيرته، الذي مسّه، حسب قول الكاتب «طائف من الخوف، وتوهم أنه في طريقه إلى النسيان التام، فمرض الزهايمر يتسرب إلى خلايا دماغه، فعسى أن يستنقذ ماضيه قبل أن يطمره النسيان ويُمحي».
لكن إذا كان هناك من يخشى النسيان، فإن هناك من يرغب فيه، وإليه يسعى، حسبنا هنا الإشارة إلى الرغبة التي استحوذت على بطلة الطاهر بن جلون في رواية «ليلة القدر» في التخلص من الماضي الذي كان يضغط على كاهلها؛ فقررت أن تدفن كل الأشياء الذي تذكرها بهذا الماضي: الهدايا والأوراق والصور والبطاقات البريدية، كأنها تدرك أن الذكريات تكمن، بين ما تكمن، في مثل هذه الأشياء التي ما إن نراها حتى نستعيد الحدث أو الأحداث أو وجوه وأسماء الأشخاص الذين ارتبطوا بها، والحكايات المقترنة بهم حزينة كانت أو سعيدة
كان باشلار قد تحدث في كتابه «جماليات المكان» عن ما وصفه ب «البيوت الحقيقية للذاكرة»، ونظن أن الأشياء هذه هي نفسها بيوت الذاكرة، لأننا نستطيع أن نقول كل شيء عن الحاضر، أما عن الماضي فإننا نكتفي بظلال الذاكرة.