قدمت جمعية التشكيليين العراقيين (البصرة) فرصة لرؤية بانورامية لتجربة الراحل جاسم الفضل (البصرة 1955-29.9.2022)، بإقامتها معرضا استعاديا له، ويصنف هذا الرسام كفنان ثمانيني شكّل، ومجايلوه: عدنان عبد سلمان، وحامد مهدي الخفاجي، وجبار عبد الرضا، وهاشم حنون، وعيسى عبد الله وجنان محمد، مجموعة من الرسامين المهمين، وموجة أعقبت: فيصل لعيبي وصلاح جياد وعبد الملك عاشور وهاشم تايه، وتتلمذ على يد رسامي جيل الستينيين البصريين كمحمد مهر الدين وعلي طالب وفاروق حسن وسلمان البصري وغيرهم، من الذين خاضوا أشرس وأجرأ تحولات الرسم العراقي في محاولة تحرير عملهم الفني من ربقة الايدولوجيا وترابطاتها، وإحالاتها الخارجية، لتكرس اهتمامها إلى شيئيتها (ماديتها).
*
تتوزع أعمال الفضل بين حدين هما: الرسم وفق القواعد الأكاديمية التقنية والتشريحية والمنظور، والرسم التجريدي، ومحاولة الفضل الدائمة للاستقرار في مرحلة وسطى؛ فاتخذ التعبيرية مستقرا شبه دائم؛ فكان يراوح بين هذين الحدين رغم شبه استقراره في اتجاهه التعبيري الذي هيمن على المشهد التشكيلي للرسم العراقي في ثمانينات القرن الماضي واعتبره البعض نسقا صالحا أبدا، ومتجددا، وهو حكم نجم، برأيي، بفعل ربما عوامل اجتماعية (خارج مادية الرسم) أهمها، ثقل وجسامة الحروب التي خاضها العراقيون وتأثير ذلك على الوضع الاجتماعـ/ـثقافي، فبشّر بها عدد من النقاد بان “التعبيرية، خلال الثمانينات، كانت نزعة أسلوبية عامة” (مجلة الطليعة الأدبية، بغداد، العدد 3-4، 1990، ص 11).
*
تتمثل أهم علامات (اختلاف) و(فردانية) جاسم الفضل في هيمنته على المواد التي يشتغل عليها وينوعها، ويثبت تفوقه التقني في معالجته لها، من ابسطها إلى اعقدها، ومن أرخصها إلى أغلاها، مبتدئا بأقلام الرصاص، والفحم، والحبر الصيني، وأصابع الباستيل، ثم الزيتية والاكرليك، وأيضا كان عاشقا للألوان المائية التي مكنه تفوقه في معالجتها إلى أن تشكل ما يشبه دفتر دفتر الملاحظات عند الحكواتيين، يسجل فيه رسما ما يدور
حوله من وقائع ويوميات مدينته البصرة؛ لكنه لم يستند على المهارة التقنية وحدها، كبعض التقنيين الأكاديميين، ولم يكتفِ بذلك، بل تجاوزها إلى: تنويعِ الموضوعات، والمُعالجات.
*
إن أول وأهم الاتجاهات الأسلوبية عند جاسم الفضل رسم الموضوعات (المحلية) ليس بهدف (تسجيل) الحياة اليومية لمدينتهِ البصرة فقط، كما يعتقد البعض، ولكن لاختبار الطاقة التعبيرية للمواد المختلفة باعتبار الموضوع مناسبة للرسم ليس إلا، ولتحسس الانطباعات اللونية اكثر من تسجيل للـ: (يوميات)، وواجهات البيوت التراثية، والأزقة والاهوار والصناعات اليدوية التي أوشكت على الانقراض.
*
كان مركز الثقل في توجهات جاسم الفضل، تعبيرية (مؤنسنة) تتجاوز تجاربه الأكاديمية الانطباعية، وتقدم منجزا يحافظ فيه على الوجود الإنساني في التجربة، متتبعا خطى أهم رسامي البصرة التعبيريين الستينيين: علي طالب ومحمد مهر الدين وفاروق حسن، ومجايليه: حامد مهدي وعدنان عبد سلمان وجبار عبد الرضا وهاشم حنون؛ وتشكل ملمحا أسلوبيا (تعبيريا) خاصا، كان يحقق فيه وجودا مهيمنا للمشخص، وللشكل البشري تحديدا، وكان يقف فيه موقفا وسطا بين النمط الواقعي والتجريدي، ويستوعب “حمولات فكريةٍ واسعةٍ، وهموما مُعقدةٍ تصور محنة الإنسان، أي إنسان، وبالمعاني الواسعة للمحنة”، متجاوزا (السمات المحلية) التي كرسها خطابُ عصر الرواد التشكيلي العراقي في الثلث الثاني من القرن الماضي.
*
لقد تماسَّ الفضل مع الرسم التجريدي من خلال مرحلة وسيطة (تجريدية تعبيرية) تكرس اهتماماً خاصا لتصوير محنةَ الإنسان دون حاجة لوجوده المشخص، فكان اثر الإنسان شاخصا من خلال المعالجات اللونية الخشنة التي تتركُ أثر الضربات القوية القاسية للفرشاة على سطح اللوحة، حيث يحاصَر أبطاله بمِحَن لا آخر لها، تماما كالمحن التي تحاصر أبطال الرسام فرنسيس بيكون (Francis Bacon)، فـ”تتطرز خلفية اللوحة بخطوط وحروف وأرقام ولطخات لونية عشوائية تؤدي وظيفة الهالة الدلالية المكملة للقصد المضمَر في وعي الفنان المنتج لعلاماته الأساسية وأهمها الجسد الإنساني” (هالات جاسم الفضل، محمد خضير).
*
لقد تبادلت الاتجاهات الثلاثة التأثر والتأثير، والاستعارات من بعضها، فكانت الخيول ومضارب البدو، يحل محلها، في اتجاهه التعبيري، كائن متوحد ومسجون ومحاصر بالخ
طوط والتفاصيل الأخرى، ثم تتحول، في أعماله التجريدية، إلى، ما يسميه القاص محمد خضير (إكسيرَ الفنّ اللامسمّى)؛ فعاشت هذه المدارس معا متساوقةً، وليست متعاقبةً بالضرورة
*
جاسم الفضل في سطور
الفنان جاسم الفضل، تولد ١٩٥٥ البصرة، دبلوم معهد الفنون الجميلة، بكلوريوس كلية الفنون الجميلة، أقام العديد من المعارض الشخصية في البصرة وبغداد، اشترك في كثير من المعارض داخل العراق وخارجه، عمل في دار ثقافة الأطفال (مجلتي والمزمار).