
كان هناك زمن، لا نعرف إن كان أجمل أم لا، لكنه بالتأكيد كان أبطأ، أصدق، وأقل تشويشًا…
لا أحد يعرف تمامًا متى بدأ الناس يستخدمون عبارة “الزمن الجميل“.
أهي من اختراع المذياع حين بدأ يذيع أغنيات أم كلثوم الأولى؟
أم من حنين الجدّات إلى زمن الأفراح التي كانت تُقام في الباحات؟
أم هو وصف لاحق اختلقناه، كلما ازدادت حياتنا الرقمية تسارعًا وازدحامًا؟
لكنّ الأكيد أن هذه العبارة وجدت لنفسها مكانًا في قلوب الناس، حتى أولئك الذين لم يعيشوا ذلك الزمن.
في المقهى، في المجلس، في نصوص الأدب، في لحن شجي، أو مشهد أبيض وأسود…تتسلّل العبارة “: “آه… كان زمنًا جميلاً.” لكن… ما الذي جعل ذلك الزمن جميلاً؟
هل كان الناس أقل خطايا؟ هل كانت الحياة أقل بؤسًا؟ أم أننا كنا نعيش وقتًا له طعم، لا تمرّ فيه الأيام كنسخ من بعضها، ولا الوجوه كأيقونات متكرّرة في هاتف؟
في هذا المقال الافتتاحي، نحاول أن نفتح النافذة الأولى على المعنى، لا على الحنين فحسب. ونمهد لرحلة عبر سلسلة من المقالات سنتتبع فيها خيوط “الزمن الجميل:” في الفن، في التربية، في الحيّ، في البيت، في الشاشة، في المذياع، في الرسالة المكتوبة بخط اليد…وفي ما تبقّى منّا.
-الزمان حين كان يتّسع للإنسان:
ربما أجمل ما في “الزمن الجميل” أنه كان بطيئًا. نعم، كان بطيئًا، ولهذا كان يُرى ويُعاش.
اللقاء لم يكن يأتي برسالة “أنا واصل بعد 3 دقائق”، بل بمشاوير كاملة، وبصبر الانتظار. كان الإنسان هو مركز الزمن، لا التطبيقات. وكان الوقت لا يُهدر، بل يُهضم.
في “الزمن الجميل”، لم تكن “اللحظة” تُستهلك بتصويرها، بل بالعيش فيها.
الصور نادرة، لكنها مشبعة، والذكريات ليست في معرض صور بل في القلب، في الحديث، في دفاتر اليوميات.
-الوجوه التي لا تحتاج فلاتر:
كان الناس يبدون كما هم…
الجميلات جميلات، ولكن بجمال لا يُقارن بصور النجمات، بل بصوت الضحكة وصدق النظرة. وكانت الأخلاق تُرى قبل أن تُعلن. لا حاجة لبيان سيرة ذاتية كي يُؤمن بك أحد.
في الزمن الجميل، كان للوجه ذاكرة، وللمصافحة حرارة، وللشرف معنى يُدافع عنه ولا يُروّج له.
-الفن حين كان حوارًا لا صدى:
من قال إن “الزمن الجميل” يعني فقط صوت عبد الوهاب أو فريد الأطرش أو شادية؟
إنه يعني تلك اللحظة التي كنا نستمع فيها فعلًا.
الفن لم يكن منتجًا، بل مناسبة. الأغنية تُذاع فتتوقّف البيوت، والمشهد يُعاد فيحفظه الناس كأنه دعاء مسائي.
الأفلام كانت مرآة اجتماعية، لا مرآة للغرائز، والمسرح كان مختبرًا للأفكار، لا مجرد فضاء للاستعراض.
-العلاقات حين كانت تنمو لا تُستهلك:
“صديق العائلة” “رفيق الطفولة” ” “الجار”…كل هؤلاء شخصيات كانت تمتلك وزنًا اجتماعيًا، ولها رصيد من العشرة والثقة والتاريخ.
لم تكن الصداقة طلب صداقة يُقبل أو يُرفض، ولا العلاقة تبدأ وتنتهي بخاصيّة “الحظر”.
في “الزمن الجميل”، العلاقات كانت كالأشجار: تُسقى، تُنتظر، وتثمر بعد وقت.
لا تُقطف وتُرمى.
-الزمن الجميل… لم يكن “فردوسًا”، لكنه كان قابلًا للسكنى:
نعم، لم يكن كل شيء ورديًا. كان فيه الاستبداد، والفقر، والتقاليد القاسية، لكن حتى الألم كان له معنى. والأمل لم يكن إعلانًا، بل سعيًا. والحكايات كانت تُروى لا تُسترق.
في “الزمن الجميل”، كان هناك مكان للتعبير، ولو بصعوبة…مكان للاختلاف، ولو بشق الأنفس…مكان للخطأ، ولو تحت سقف الملامة.
-خاتمة: بداية الرحلة
في هذه السلسلة، لن نكتب عن الحنين فحسب، بل عن ملامح ذلك الزمن كما تجلّت في الذاكرة الحية، في النصوص، في المرويات، في المقارنات.
لن نبكي الزمن الجميل، بل سنحاوره.
سنسأل:
– هل كان جميلاً حقًا؟ أم كنّا نحن أجمل، ببساطتنا ووضوحنا؟
– وهل ما يزال ممكنًا أن نستعيد شيئًا من ذلك الإيقاع… في عالم يركض حتى ينزف؟
هذه ليست دعوة للنكوص…
بل تذكير بأننا كنا قادرين على صناعة جمال يشبهنا.