إبراهيم موسى
في صبحٍ غائمٍ منتصفَ إبريل الماضي جلستُ في مكتبتي الحميمة أقرأ وأكتب كعادتي أول كل نهار
باغتتني سمرقند بتحية الصباح، ثم عانقتني فجأة وقالت : لنذهب ونبحث عن أجمل شجرة زيزفون في كل باڤاريا
أسعدني الحضن الصباحي الغامر من جميلة الجميلات، فضممتها بفرح وقبلتها على خدها
ولكن طلبها الغريب أربكني: البحث عن شجرة مخصوصة في البر الجرماني الواسع! وأنا من بلاد الطلح والسدرة لا أعرف الزيزفون الباڤاري هذا ولا أعرف رائحته أو نواره، إن كان له نوار
قالت سمرقند: يا بابا، الأبلة أخبرتنا أن من يعثر على أكبر شجرة زيزفون باڤاري ويحفظ قصيدة عن الزيزفون سيفوز بجائزة “عيد الشجرة”
أها…! تذكرت حينها أن الألمان يحتفلون بعيد الشجرة يوم الـ 25 من إبريل من كل عام
قالت سمرقند: لنذهب على الدراجة يا شيباني Alter Mann!
كانت طفلتي ذات السبعة أعوام تعرف بذكائها المتوقد أن للدراجة سحراً خاصاً لا يقاوم عندي
ولكن باڤاريا واسعة والبحث فيها عن شجرة على صهوة دراجة أمر عسير. طلبت حينها من جاري الطيب “ڤولفجانج” أن “يُغشّشني”. جاري هذا بستاني كبير السن يقضي يومه كله في الزرع والجنائن، ولا تحييه بتحية الصباح حتى يحدثك عن آخر نبتة أزهرت عنده، وأصغر شجيرة أطلعت ثمراً طيباً
سألته: أين أجد زيزفونة كبيرة؟
أجاب بسعادة غامرة (لأنني أخيراً احتجته في أمر يتعلق بالزرع): في الناحية المقابلة لجبل بلومبيرج ستجد زيزفونة وحيدة وسط حقل واسع في المدخل الغربي لقرية بنتزبيرج
ثم قال بحنين ظاهر: كنا ونحن أطفال نلعب تحتها ونتأرجح من على أغصانها ونحفر أسماءنا في لحائها السميك
***
بعدها بيومين جلست سمرقند ورائي على الدراجة، وانطلقنا في رحلة عشية امتدت لـ 38 كيلومتراً ذهاباً وإياباً لا أكثر
وصلنا عند الحقل الواسع في آخر النهار. ظهرت أمامنا الشجرة السامقة بثوب خريفي باهر. إنها المرة الأولى التي أعرف فيها شجر الزيزفون. التقطنا لها الصور من كل الجهات. كانت سمرقند تحلق في سماء الفرح وهي تقول: مازال القصيدة يا بابا
قضينا بعدها أياماً نبحث عن الزيزفون في الشعر والثقافة الألمانية لنكتشف أن هذه الشجرة الجميلة كانت مسرحاً لقصص الحب والحرب والموت، وأن الجندي الألماني كان يجلس بعد عودته من الحرب تحت زيزفونة بعينها يتذكر الأحبة ويرثي الديار
اخترنا قصيدة الشاعر الرقيق ڤايلهلم مولر “شجرة الزيزفون” التي ترثي ضياع البراءة في زمن الحروب والشوق إلى أيام الطفولة والمرح
“عند البئر، إزاء البوابة
تنتصب شجرة زيزفون
كم حلمت أحلاماً عذبة في ظلها
وحفرت كلمات الحب في لحائها
في الفرح وفي الوجع كنت قريباً منها
……
الآن، وأنا على مسافة ساعات طويلة منها
مازلت أسمع حفيف أغصانها
“هنا، تحت الزيزفونة، ستجد السلام”
تدربت سمرقند لأيام بعدها على إلقاء القصيدة أمام زملائها في المدرسة
أما أنا فذهب بي” عيد الشجرة” هذا، وقصائد الزيزفون، إلى حلم جميل
أنا مع ابنتي نبحث في زمن الحرب والنكبة الليبية عن سدرة في وديان “جارف”، أو طلحة في “شعاب غلَبون”، أو ربما زيتونة مباركة في نواحي “فم مُلغة”
عندها كنت سأحكي لسمرقند عن حرب أخرى، عن “عناية” بنت المجاهد الكبير سالم عبد النبي الناكوع الزنتاني التي سمعت من بعض المُرجفين أنه قد سافر إلى الساحل، وسلّم للطليان، وصار يستلم منهم معاشاً شهرياً مقابل “خدمات”. تقول عناية
إن كان بوي بحّر للمعاش وجابه … انظّهر عقاب الطبل للندّابة
(إن كان أبي ذهب شمالاً لاستلام معاشٍ من الطليان.. فسأُخرج ما تبقى من طبل النحيب إلى النادبات حتى يبكين عليه، فهو عندي قد مات)
فلما وصل ملامها وتساؤلها لأبيها وهو على مسيرة أيام طويلة منها، رد عليها قائلاً
سيدك ولّى…. ومن قبل بكّرْهم قْلال الملّة
على الله يبدا لك كبير محله
في “غوط السلوقي” و “سدرة الجلابة”
(أبوك عائدٌ… وهو قد باكر عديمي الدين (الطليان) بالهجوم المباغت، وبإذن الله سيصير أبوك عظيم الشأن في مواقع النزال والجهاد في ناحية “غوط السلوقي” و ناحية “سدرة الجلابة”)
والغوط هو الشجر الكثير الظليل، والسدرة شجرة تنبت على أطراف الصحراء وفي الوديان
كانت كلمات عناية وجواب أبيها المجاهد الكبير أول نص شعري عربي تسمعه سمرقند وتردده ورائي بلهجة ليبية طريفة
وكانت السدرة أول شجرة عربية ليبية تعرفها وتنطقها
ها هي إذن سمرقند بين الزيزفون وڤايلهلم مولر
وبين السدرة وآل سالم عبد النبي الزنتاني
تتشكل هويتها وأحلامها وعمرها كله
مرفق: بعض صور الرحلة على الدراجة مع سمرقند نحو شجرة الزيزفون في عشية إبريلية فائتة