[كان حدسي في مَحلِّه-وهو غالبا لا يخطئ-عنما قررت على غير عادتي ألا أقرأ النص في نفس اليوم الذي وصلني فيه. كنت أحرص منذ أن أهداني روايته الأولى أن أسرع لتصفح الإهداء الذي لا يتغير عموما إلا في بعض الكلمات أو في ترتيبها…وربما يكون حرصه على تكرار الصياغة هو ثبات وإثبات لصداقتنا…وكنت أتساءل في داخلي إن كان يكرر الصياغة نفسها أو نفس الجُمَل عندما يهدي رواياته أو مروياته للنساء …وكنت أبتسم -استهزاء -لسذاجتي…تكون قراءتي لنصوصه في نفس اليوم الذي أتلقاها فيه، عبر البريد أو عن طريق صديق أو من يده. كنت أحرص على قراءة الرواية كاملة مرتين متتاليتين وربما أكثر أو أعود لقراءة فصل أو بضعة فصول… كنت بمجرد تسلمها، أقرأ الإهداء والصفحة الأولى والأخيرة كما فعلت طوال حياتي مع أي كتاب يقع بين يدي رغم أنني لم أجد أي تفسير لتصرفي هذا… هذه المرة، لم أفتح الظرف الأصفر الكبير الذي بداخله الرواية. لكنني قررت أن أقرأه قراءة أولى تحت ضوء الشمس في مكان خاص يليق بالقراءة وأن تكون القراءة الثانية في سكون الليل على ضوء أباجورة خافت ضوؤها- ولم أكن أدري حينها أن زمن الرواية يوم واحد بدورة كاملة-…وهكذا كان…كما أنني عقدت العزم على أن تتناول ورقتي حول الرواية موضوع المرأة وصورتها في الكتابة السردية للصديق حليفي، وكنت أستجمع المعطيات حول الموضوع منذ الرواية الأولى –ولم أكن رأيت أن على ظهر الغلاف -ولأول مرة -صورة لامرأة-…لكن الآن، وجدت نفسي أكتب غير ذلك … ]
روح الميثولوجيا بين السماء والارض:
جاءت رواية ʺخط الزناتيʺ أو ʺالخط الزناتيʺ-وهي الصياغة التي أراها الأقرب إلى تقنية الكتابة في هذه الرواية وإلى مضمونها وإلى المخيال الشعبي المغربي-نصا اكتملت ونضجت فيه الازدواجية التي تُشكّل أهم وأقدم وأعمق الخطوط العريضة المُمَيّزة لمسار الكتابة الروائية لشعيب حليفي. فالازدواجية عند الكاتب والتي يعتمد فيها على عَمَليتَيْ الهدم والبناء، تُمكِّنه من تشكيل عوالم سردية خيالية قابلة للحياة يتآلف فيها الواقع الصعب والبائس البئيس لغالبية الشخصيات، مع ذلك الأفق اللامحدود-وإن لم يكن دائما واضحا-المفتوح على الأمل والحرية والحب والخلاص، المفتوح على الممكن والمستحيل، على الشيء وضده، على الواقع والأسطورة، على الحياة والموت، على الإنسان والحيوان، على اللحظة الآنية وعلى الذكريات، على الصورة والصوت، على الكلمة والصمت سواء في محكيات البادية أو المدينة المنفلتة نحو السماء أو المتجذرة في الأرض.
لكن ازدواجية الكاتب وخاصة في روايته الأخيرة هذه، ʺخط الزناتيʺ، غير ظاهرة لفظا أو معنى بل تتدفق بتلقائية من خلال مواقف وشخصيات لا توحي أبدا بذلك، أو أنك عندما تستشعرها وتريد الوقوف عند تمثُّلات وأوجه هذه الازدواجية، تنفلت منك وتتفتّتُ ويمحو بعضها البعض كما يمحو الليل النهار أو يمحو النهار الليل. يجعل الكاتب من فضاءاته السردية مزيجا متشابكا لا يمكن فصله، من الواقع الذي أصبح خيالا ومن الخيال الذي تَجسَّد واقعا، مزيجا من سرد إنسي على لسان حيوانات أو خطاب حيواني على لسان إنسان، مزيجا من حوار أو مونولوج واضح المعنى واللغة–ظاهريا-ومن خطاب ضِمْنِيّ مَرموز. وحتى عندما يستعمل الرمز الظاهر فهو من أجل التوضيح وفك الرموز..(هذا موضوع آخر يثير دائما فضولي في روايات حليفي وسأخصص له دراسة عندما تُتاح لي الفرصة ولطالما رأيت في هذا الروائي، الثابت على مبدأ الخيال، الصورة التي تقدمها الميثولوجيا الإغريقية عن إرمس -أو هرمس- إله البحر والبر ورسول الآلهة الذي يملك العصا السحرية التي تُمَكِّنه من التواجد في عدة فضاءات في نفس اللحظة دون أن يستطيع أي أحد إثبات ذلك.. وأشياء أخرى أسطورية…).
السحر والإبداع في الصورة والكلمة:
انطلاقا من هذا السياق، وفي قراءة أولية لعتبة الغلاف المصمَّم-فكرة وإنجازا-باحترافية عالية ورمزية وازدواجية مبطّنة، يتربع العنوان الأبيض داخل دائرة، وسط الصفحة الحمراء اللون، وكأنه جزء من نصف وجه المرأة ذات البشرة السوداء والملامح الشبقية والنظرة الثاقبة التي تظهر وكأنها تخرج من ليل دامس يزيد من غموض حضورها، لكنه يضفي مزيدا من الجمال على وجهها الذي تنبت من تحته سنبلات صفراء وحمراء متوهجة وكأنها تشتعل نارا ..
يأتي العنوان ʺخط الزناتي ʺ بحروف كبيرة وخط واضح وبلون شديد البياض يخبئ داخله غموض المعنى والقصد رغم أن قراءة الجزء المتعلق بخط الزناتي داخل النص لا يوحي بغموض ظاهر لاسيما أن الخط الزناتي ودلالاته معتقد متجذر في ثقافتنا المغربية ..
ثم تُستهل الرواية بلائحة تقديمية/تعريفية للشخصيات والأمكنة وللزمن، تأتي على شاكلة مفتاح للنص وكأنه خريطة يحتاج إلى فك شيفراتها أو نص مكتوب بالخط الزناتي. لكنها مفاتيح تزيد أحيانا من غموض معنى الاسم والشخصية التي تحمله مثل “سوسو:5 سنوات أنثى من الكلاب المحلية.يعتقد الراعي أن أصلها الأول من جنس آدمي وامتسخت لسبب مجهول”؛ أو “الشيخ البرغوت:حوالي 49 سنة:تراجيديا محمولة على أكتاف الكوميديا.عاش يخفي جروح الزمن بالأقنعة والأسماء والأناشيد.من أسمائه: البشير بّيشا قونوفو. باع الدنيا لما رآى في أحلامه أنه سيبعث ويدخل الجنة في شكل برغوث داخل شعر زيرا المسبسب”؛ أو “الكناوية:17 سنة.خيرة الكناوية ابنة مسعودة العراكة من زوجها المختفي صائد الأفاعي. عابدة تنسج قفاطين النهار في ليلة واحدة.زمنها ليس أكثر من رفة فراشة بجناحين سوداوين” وغيرها من المفاتيح التي لا تفتح الباب إلا على أبواب كثيرة مغلقة تخفي وراءها ما تخفيه من واقع وخيالات..
مباشرة قبل الفصل الأول من الرواية التي يتشكل متنها من عشرة فصول، يأتي نص قصير يقول: ʺالأحداث بكل تفاصيلها .. حقائق وقعت بالفعل. ويشهد المؤلف أنه نقل كل ما جرى بأقصى ما يمكن من الأمانة والمسؤولية، وحينما أَطْلع كائنات هذه الرواية على ما كتبه .. أذهلهم لمعان التطابق، فقرروا الخروج من الواقع، بشكل جماعي، والهروب إلى الرواية لمواصلة العيش فيهاʺ. وليس هذا المقتطف إلا جزءا من المقاطع الكثيرة المرموزة، المُشفَّرة الملغومة،المزدوجة من الرواية. إنها إشارات واضحة إلى أن الرواية كُتبت بالخط الزناتي أو بخط الزناتي..
صحيح أن زمن الرواية لا يتعدى يوما بدورة كاملة لكن التفاصيل التي يحملها النص تتعدى ذلك الحيز الزمني المخصص لسردها…فجاء النص في نفس الوقت مليئا بالتفاصيل الدقيقة حول شخصيات وأحداث معينة وكثيفا، مقتضبا، مُلمّحا وموحيا بتفاصيل وقراءات متعددة. وهي من مميزات الكتابة عند شعيب حليفي منذ روايته الأولى والتي ما فتىء يطورها ويتحكم في أسرارها أكثر فأكثر.
تمتاز رواية “خط الزناتي” بكون الرواية روايات وحكايات وقصص قصيرة ستصبح روايات مقبلة…هي حكاية طويلة/قصيرة في زمن حكيها/ تتجدد فيها الأرواح بين خروجها ودخولها من وإلى الواقع تارة، ومن وإلى الخيال تارة أخرى.