مقالتي في مجلة “الحصاد” اللندنيّة، أهديها إلى لصوص الشّعر والأدب غير الظّرفاء.
مهما اختلفت المترادفات وتعدّدت الأساليب والتّراكيب، ومهما اجتهد المفسّرون، واتّسعت المعاني والمضامين، ومهما أُسقط على القصد من مجازات، يظلّ الأصل هو الفكرة البِكر ، ومبتدعها هو النّبع والسّاقي الأول للعطشى الباحثين عن الابتكار.
السّرقات الأدبيّة في شتّى المسمّيات التّخفيفيّة والتجميليّة والأدبيّة، تندرج تحت خانة السّطو على الأفكار المبتكرة، وإن كانت “الأفكار ملقاة على قارعة الطّريق”، في القول الذي يُنسب إلى الجاحظ، إنّما ذلك لا يشرّع “مدّ اليد” إليها وكأنها مشاع سائب لا مالك له. بل هي تنضمّ تلقائيّاً إلى الملكية الفكريّة التي يجرّم القانون كل من يستبيحها.
المسألة أخلاقيّة إذًا، قبل المسوّغات الأدبيّة الّتي شغلت الأوّلين من نقّاد وأدباء ومبدعين، والّتي لم تقتصر، فقط، على عصورنا العربيّة وما حفلت به وشعر وآداب، وإنّما هي قديمة في تاريخ الفكر الإنساني، فقد وجدت عند الرّومان والإغريق، إذ ورد ذكرها مع أرسطو حين أشار إلى أن هناك صورًا تعبيريّة قديمة يستخدمها الشّعراء نقلًا عن السّابقين.
أصالة الأعمال الأدبيّة المنسوبة إلى أصحابها، وما تضمّنت من الجِدّة أو التّقليد، تناولها كبار الباحثين الأقدمين والمعاصرين، في محاولة لتبيان الأصل. وإنّما ذلك يتطلّب الكثير من التعمّق والتبحّر في تراث أدبيّ شاسع، لا يفقه مداركه سوى جهابذة الفكر والأدب، ومنهم: أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الموسوعي (الأغاني)، والحاتمي في كتابه (حلية المحاضرة)، وابن رشيق القيرواني في كتابه (العمدة: في صناعة الشّعر ونقده) وعبد القاهر الجرجاني في كتابَيه (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز)، وابن الأثير في كتابه (المثل السائر)، وابن شُهَيْد الأندلسي في رسالته (التوابع والزوابع)، وابن بسام الشنتريني في كتابه (الذّخيرة)، وأبو هلال العسكري في (كتاب الصّناعتين) وغيرهم…
“السُّراقة” (أو سارق الشّعر) وما تتضمّنه هذه المفردة من: التّقليد، والتّضمين، والسّرق، والأخذ، والاقتباس، والتّحوير، والإغارة، والاستعارة، والنّقل، والمصالتة، والسّلخ، والنّسخ، والانتحال… وإلى آخره من مترادفات يُقصد منها جميع معاني الأخذ من دون حق، حتّى وإن غضّ بعض الدّارسين الطرْف عن “الأخذ”، مثل القاضي الجرجاني الذي عدّ التّراث “مُلكًا لمن تصرّف فيه بعد أن آل إليه”.
ربما ما قيل عن لسان كعب بن زهير يوجز هذا التداخل الشّائك بين الأصيل والمنحول، وبين النّقل والابتكار، وبين الجدّة والتقليد، وبين الإبتداع والاتّباع، أو قلْ نفاد المعاني واجترار الأفكار: “ما أَرَانا نَقولُ إلّا رَجيعًا/ ومُعادًا من قَولِنا مَكْرُورا”، أو قول أبي تمّام: “كم ترك الأوّل للآخر”.
أمّا التّهافت على القول الشّعري الذي يغزو مواقع التّواصل الاجتماعي في عصرنا المستباح للسّطو في جميع أشكاله، فحريّ بهؤلاء المتهافتين، أن يقتدوا بنصيحة العلّامة “خَلف الأحمر”، حين استأذنه أبو نوّاس في نظم الشّعر، فطلب منه أن يحفظ ألف مقطوع للعرب، بين أرجوزة ومقطوعة وقصيدة. وبعد أن حفظها أبو نوّاس وأنشدها أمام خلف الأحمر، قال له: “اذهب فانسِها”، فلمّا نسيها قال له خلف: “الآن انظم الشّعر.”